Loading...

الصندوق السيادي: بين ضغط الإصلاح والخوف من خرق السيادة

 

منذ بداية الانهيار الاقتصادي في لبنان، يستمرّ الضغط من قبل الجهات المانحة وصندوق النقد الدولي على السلطات اللبنانية لتنفيذ سلسلة من الإصلاحات على رأسها محاربة الفساد وتعزيز الشفافية الإدارية، فيما تلفت التقارير المحلية والدولية إلى أن الفشل الأساسي للدولة يكمن في عدم قدرتها على إدارة القطاعات الاقتصادية بصورة فعّالة وتحويلها إلى قطاعات منتجة تُسهم في إنعاش الخزانة العامة، ولعلّ الصندوق السيادي أحد تلك الطرق، لا سيّما بعد توقيع اتفاقية عائدات النفط المتوقع استخراجها من البحر عبر شركة "توتال" الفرنسية. 

 

وكان مجلس النواب اللبناني قد أقر في منتصف كانون الأول 2023 قانون الصندوق السيادي المتعلّق بعائدات النفط، ويشترط القانون إنشاء محفظتين، الأولى للادخار، والثانية للتنمية، والغرض من محفظة المدَّخرات استثمار عائدات النفط لصالح الأجيال القادمة بينما تهدف محفظة التنمية إلى تقليص مستوى الدين العام على أن تودع إيرادات أسهم الدولة في محفظة المدخرات. 

 

وهنا لا بد من التنويه إلى أنّه يحقّ للحكومة استعمال جزء من الفوائد المحصّلة لتمويل نفقاتها، أمّا إيرادات الرسوم الضريبية على شركات النفط، فتودع في محفظة التنمية ويمكن استعمالها لتسديد الدين العام إلى أن يصل مستوى هذا الدين إلى 20 في المئة من الناتج الوطني.

 

القانون الجديد رغم إقراره إلاّ أنه واجه العديد من الاعتراضات بسبب الخوف الدائم من غياب مبادئ الشفافية المالية في لبنان، وتعددت الآراء حوله بين من اعتبر أن وجود جهات خارجية ستقوم بالإشراف على الصندوق هو عمل يناقض السيادة الوطنية، وبين من شكك في كيفية توزيع المناصب فيه (تقسيم طائفي أو بحسب الخبرات)، فيما اعتبر البعض الآخر أن إقرار القانون يشكّل خطوة متسرّعة خاصة في ظل عدم استخراج النفط أصلاً أو وضوح مصيره على الأقل.

 

 

تعريف الصندوق السيادي وآلية عمله وإقراره 

استنادًا إلى تعريف صندوق النقد الدولي للصندوق السيادي، يتضح أنّ الهدف الرئيسي للقوانين المالية هو فرض قيود طويلة الأمد على السياسة المالية من خلال وضع حدود رقمية على إجمالي الموازنة، وتهدف هذه القواعد عادة إلى تصحيح الحوافز المشوّهة وكبح الإنفاق المفرط، خاصة في فترات الازدهار الاقتصادي، بهدف ضمان الاستدامة المالية والقدرة على سداد الديون بشكل مسؤول.

 

وحول مسار مناقشات قانون الصندوق السيادي يشرح النائب مارك ضو في حديث إلى "مهارات نيوز"  أن الأمور الرئيسية التي تمّت مناقشتها خلال مراحل إقرار القانون تتمحور حول مسألة مَن سيكون المسؤول عن الإشراف النهائي عليه ومدى استقلاليته، بالإضافة إلى طرق توجيه موارده، موضحًا أن كلّ ما تم ذكره يتعلّق مباشرة بالسياسة التي ستحكم الصندوق، بما في ذلك ما إذا كان سيخضع لإشراف وزارة المالية أو رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة.

 

ولفت ضو إلى أنه قد تمّ دمج الاقتراحات الأربعة المقدّمة حول القانون من قبل اللجان المختصّة، وبناءً عليه، تمّ إنشاء لجنة فرعية لمناقشة جميع الاقتراحات المطروحة، وجرى البحث فيما يتعلّق بكيفية صرف الأموال التي ستدخل إلى الصندوق وتوجيهها سواء للاستخدام الداخلي أو الخارجي.

 

ويطالب القانون المُقرّ بتأليف مجلس لإدارة الصندوق يتألّف من ثمانية أعضاء بحيث يُخصص لكل عضو وحدة يديرها بشكل مستقل، فضلًا عن توظيف 14 شخصًا يتمتعون بخبرات تزيد عن 35 عامًا في إدارة الصناديق، ولكن التحدي هنا يكمن في كيفية تأمين رواتبهم في ظل الواقع الحالي، حيث يتعيّن عليهم العمل بمجرد الالتحاق بالصندوق دون أيّ مكافأة مالية، وسيتكوّن الصندوق من عدّة أقسام، ويستعين بلجان استشارية متخصّصة في مختلف المجالات قبل الشروع في أيّ عملية.

 

ولإنشاء صندوق مموّل من عائدات النفط والغاز، لا بد من أن يترافق ذلك مع استراتيجية اقتصادية ومالية شاملة وواضحة لمراعاة الآثار المحتملة لتدفق الإيرادات الضخمة من الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى وضع قوانين مالية تهدف إلى تلبية احتياجات لبنان الأساسية بشكل فعّال و تضمن ادارة هذه الإيرادات بطريقة شفافة ومسؤولة، وذلك في ضوء سجل سيء للسلطات اللبنانية في إدارة المالية العامة.

 

سيادية الصندوق السيادي.. لا داعي للخوف

اعتراضات عديدة قدمها بعض الخبراء والنواب حول القانون، فمنهم من اعتبر أن طريقة تقسيم المناصب داخل الصندوق السيادي تُعتبر "غير سيادية" فضلًا عن التدخلات الخارجية التي قد تتحكم بالإيرادات وطريقة عمل الصندوق، ومنهم من اعتبر أن التنسيق المضبوط مع الجهات الدولية يُعدّ أمرًا طبيعيًا ويعزز الشفافية في إدارة هذا الملف. 

 

وفي تسجيل مصور نشره على حسابه في منصة X في كانون الأول 2023، يشرح النائب ابراهيم كنعان أن الصناديق السيادية في العالم تعمل تحت مبادئ سانتياغو التي وضعها صندوق النقد الدولي، وأي خروج عن المعايير الدولية هو بمثابة إعدام للنفط في لبنان، مضيفًا أن بعض المواد الموجودة في القانون اللبناني ليست لوضع لبنان تحت أيّة وصاية بل للحفاظ على الثروة النفطية ولتجنّب المحاصصة على الطريقة اللبنانية، واعتبر كنعان أن وجود محفظة الإدخار هي للحفاظ على الأموال كما حصل مع احتياط الذهب، واصفًا القانون بالعصري وأنه يحمي الملكية العامة للنفط والغاز.

 

بدوره اعتبر النائب مارك ضو أنه وبالنسبة للتدخلات الخارجية فذلك لم يحدث حتى الآن، ولم تضغط أيّ دولة خارجية على لبنان، نظراً لأن الصندوق لا يزال فارغًا من الأموال، لكننا نعتقد أن هناك عوائق أخرى ستواجهه في المستقبل في شكله الحالي، وفي غالبها تتعلّق بالإجراءات التنفيذية وتشكيل الهيئة المستقلّة تمامًا لإدارته. وأضاف ضوّ: "الصندوق سيادي بنسبة 100٪، وهنا لا نقصد أنه يخضع لقرار لبناني، بل إن الأموال التي ستدخل إليه هي سيادية، ودورنا الأساسي يبقى في ضمان استقلاليته وسياديته لما فيه من مصلحة لكلّ اللبنانيين".

 

وفي السياق أيضًا يؤكد الخبير الاقتصادي منير يونس في حديثه لـ"مهارات نيوز" أنه بالنسبة للإدارة الخارجية للصندوق، لا شكّ أنه سيكون هناك جهات محلية تدّعي السيادة وخلافه، وترفض أيّ تدخل أجنبي في إدارة الإيرادات المتوقعة التي ستكون داخل هذا الصندوق والتي من المبكر أساسًا الحديث عنها أو رفع سقف التوقعات بشأنها قبل التأكّد من روايات النفط والغاز، ولكن في المقابل فإن مسألة إدارة الصندوق من قبل خبراء محليين أو أجانب تبقى تفصيلاً، إذ إن المهم هو كيفية الإدارة، ويسأل يونس: "هل في لبنان كفاءات للإدارة الاستثمارية؟ وإن وُجدت هل ستتمكن من القيام بعملها بأريحية دون تدخلات ووفقًا للقوانين مرعية الإجراء؟ بالتأكيد لا، وسط التدخلات الطائفية والسياسية التي هي بالأصل السبب الرئيسي في المأزق المالي والحكومي". 

 

ويستعرض يونس تجربة الصندوق النرويجي التي تُعتبر من أفضل التجارب في العالم من حيث المراقبة والمساءلة والاستثمار، سواء بالأسهم أو السندات أو حتّى الأصول البديلة، ويضيف "في الواقع، فإن الدول التي سبق وأنشأت الصندوق السيادي، لا تُعاني من المعضلة الاقتصادية الراسخة في لبنان نتيجة الفساد وسوء الإدارة".

 

وبحسب يونس يترك الصندوق السيادي بشكله المطروح حاليًّا، مجالاً واسعًا للإستنسابية أمام مديري الصندوق ويُعتبر عرضة للتحول إلى مطيَّة جديدة للفساد والمحسوبية، خاصةً وأنّه يحقّ للحكومة استعمال المدخرات لتسديد عجز ما في الخزينة. لذلك، كان من الأجدى اتخاذ خطوات وقرارات فعلية لتوزيع الخسائر الحكومية وعجز الميزانية، عوضًا عن وضع خطط استراتيجية مسبقة لا تخدم الدولة، بل تزيد من معاناتها بصورة مباشرة.

 

والجدير بالذكر، أن مشروع القانون الحالي لا يُلزم الجهات المسؤولة باطلاع المواطنين على نتائج التدقيق الخارجي في الحسابات، بل يشير إلى تقرير سنوي منقّح، وهذا يعني احتمال التستر على أي سوء تصرّف وعدم كشفه أمام جمهور الرأي العام أو المجلس النيابي، وليس من الواضح ما إذا كان تقرير ديوان المحاسبة كافيًا لضمان استحصال المعلومات اللازمة حول سلوك مدراء الصندوق وقراراتهم.

 

تسرّع  بإنشاء الصندوق السيادي؟! 

يعتبر بعض المتابعين أن القانون المُقر من قبل المجلس النيابي قد أُنجز مبكرًا وبشكل متسرع، والهدف منه فقط أن نظهر للجهات المانحة أن لبنان قد سلك في سكة الإصلاحات وأن القوانين موجودة، ويسأل المعترضون على القانون، كيف وُزّعت الأدوار في الصندوق السيادي ونحن لم نستخرج بعد نقطة نفط واحدة ؟ "هذا إن وجد النفط أساسًا".

 

وفي السياق تؤكد خبيرة النفط والغاز لوري هايتيان بأن الحكومة قد تسرّعت في إنشاء الصندوق السيادي المتعلّق بالنفط قبل التأكّد من وجود نفط في البحر بالدرجة الأولى أو حتّى الكشف على المواقع البحرية، ممّا قد يُحمّل الدولة أعباءً هي في غنى عنها حاليّا، لجهة التعيينات الإدارية للصندوق والموظفين. 

 

وتقول هايتيان في حديثها لـ"مهارات نيوز": "تمرير القانون تمّ على الطريقة اللبنانية بكل ما للكلمة من معنى، بهدف إظهار نيّة حسنة أمام الجهات المانحة فيما يتعلّق بقطاعَيّ النفط والغاز، إذْ يمكننا اعتبار قانون الصندوق السيادي مشابهًا لقانون الطاقات المتجدّدة، بحيث إنّه يرتكز على الهيئات الناظمة". 

 

وتتسائل هايتيان كيف سيتم تأمين نفقات الموظفين الـ14 الذين يحتاجهم الصندوق على أقل تقدير وهم من أصحاب الرواتب الضخمة نظرًا لخبراتهم الطويلة في مجال النفط والغاز، ومن هو الموظف الإداري الخبير والمتعاقد مع شركات عالمية الذي سيترك وظيفته ليأتي إلى قطاع لا نضمن وجود نفط فيه بعد؟ وتضيف: من سيعين هؤلاء الموظفين ومن يضمن عدم التدخل السياسي؟ "إنشاء الصندوق السيادي في الوقت الحالي لا يدل على الاصلاحات والقانون لن يكون نافذ بل مجرد حركة بلا بركة". 

 

أمّا من حيث توزيع الأصول قالت هايتيان أنه يجوز لهذين الصندوقين أن يستثمرا في المشتقات المالية، إلاّ بظروف محدَّدة، مع العلم أن مشروع القانون المطروح لا يتضمّن أيّة محظورات أخرى بالنسبة إلى توزيع الأصول.

 

بدوره  دافع النائب ابراهيم كنعان في حديثه عن إقرار الصندوق السيادي مُعتبرًا أن الدولة تتحضر بذلك التشريع ليكون لدينا البنية الكاملة في حال وُجد النفط والغاز، والقانون تقدمت النسخة الأولى منه في العام 2017.