تكاد جيهان (إسم مستعار) تفقد عقلها منذ لحظة بداية الحجر الصحي. لم تتخيل أن يكون الوضع صعبًا إلى هذه الدرجة. فهي تقوم بجميع الأعمال المنزلية والاهتمام بطفلتها من دون مساعدة زوجها، على الرغم من متابعتها عملها في التعليم عن بعد. فهي معلمة منذ أكثر من 10 سنوات، وتتابع اليوم عملها من المنزل بسبب الحجر الصحي فيما توقف زوجها عن العمل بسبب الحجر. لا أحد يساعدها في المنزل، وفي تربية طفلتها. تضطر إلى متابعة عملها من المنزل مع كم المسؤوليات الكبيرة والتحضير الذي يأخذ الكثير من الجهد، تقول لـ " مهارات نيوز" "طفلتي تحوم حولي كل الوقت، وهي طفلة تحتاج إلى إهتمام، ناهيك عن مسؤوليات المنزل الكبيرة من غسيل وتنظيف وتحضير الطعام".
اليوم، هي محجورة في المنزل مع هذا الكم الهائل من المسؤوليات والأعباء الوظيفية والمنزلية في الوقت الذي كل ما يفعله زوجها التصفح على الهاتف ليلاً نهارًا مع كميات طلبات لا تنتهي. " وإن سألته المساعدة في حمل الطفلة أو الاهتمام بها قليلاً فهو لا يستطيع لأن ذلك ليس من واجباته ولا وظيفته، هذه جملته المعتادة"، تقول جيهان.
الأعباء المنزلية من جهة، ابنتها من جهة أخرى، وعقلية ذكورية. وإن سألتموها لماذا؟ تقول "انتظروا كورونا تنتهي، والطلاق آتٍ لا محال".
جيهان، واحدة من نساء كثيرات يعملن لإعالة نفسهن والمساعدة في مصاريف المنزل والتخفيف عن الزوج. وفوق كل ذلك، تعيش في كنف مجتمع ذكوري يقدّس الرجل ويمنحه صلاحيات بالراحة والرفاهية في الوقت الذي يُجبر المرأة على القيام بكافة واجباتها من تربية الأطفال وتنظيف المنزل والطعام وما إلى هنالك من مسؤوليات. هذه المسؤوليات التي تجعل المرأة تغوص فيها وتنسى نفسها كليًا.
وفي ظل كل ما تعيشه من أوضاع صعبة، يأتي الزوج لينفي عنه صفة الشراكة، ويرسم هالة لنفسه، هالة " أنا الرجل" الذي اكتسبها من الذكور في مجتمعه، فيعطي لنفسه الحق بتقييم عمل الزوجة من جهة ولينزل أوامره عليها من دون أي إحساس بالإنسانية أو التقدير.
إلا أن التعميم مضر، وهناك بعض من الرجال من يتحمل مسؤولياته. كزوج إيناس مثلاً. إيناس هي معلمة، تعمل في مدرستين، واحدة في القطاع العام والثانية في القطاع الخاص. يبدأ نهار إيناس مع ولديها من السابعة صباحًا وينتهي عند الثامنة مساءً. ثم تشرع بمزاولة عملها وتستمر في ذلك إلى الثالثة صباحًا. تقوم بالتحضير للطلاب كأنهم يذهبون بشكل طبيعي إلى المدرسة. تحضير الشرح والفروض وامتحانات مع متابعة على التلفونات مع الاهالي. عمل شاق ومرهق تقوم به إيناس. لا طلبات الأطفال تنتهي، ولا طلبات المدرسة والطلاب كذلك. تصف إيناس هذا الأمر بأصعب الأمور في الحياة، على الرغم من أن زوجها يساعدها في المنزل، وفي الاهتمام بالأطفال حتى مع متابعته للعمل أونلاين. تقول إيناس " إيدي وإيدو سوا، وهو متفهم لوضعي يعني أنا لا أستطيع القيام بجميع الأمور المنزلية كحد أقصى أقوم بتنظيف الأرض أو تحضير الطعام. " ما عم نلحق".
صحيح أنها تحصل على التقدير المعنوي من المدرسة التي تعمل بها، فيما التقدير المالي غائب. اذ تحصل ايناس اليوم على نصف راتبها لأن المدرسة أصلا تعاني اليوم. رغم كل هذا، تقول "لا وقت للاهتمام بنفسي، جسمي الذي له حق عليّ مرهق أما راحتي فغير موجودة ".
الحجر الصحي: نقمة على النساء اليوم
منذ بداية الحجر الصحي، يحاول البعض تصويره على أنه فرصة للراحة والتعلم واقتناص الوقت في مهارات جديدة بعيدًا عن ضغوطات العمل. صورة لا تمت للواقع بصلة. ناهيك عن الضغط النفسي بسبب انتشار الوباء في لبنان، والقلق الاقتصادي من جهة ثانية. في هذه المرحلة، أضيفت أعباء جديدة على المرأة بسبب التواجد في المنزل على مدار الوقت. الأم التي هي ربة منزل من الأساس تضاعفت ساعات عملها في تأدية الوظائف المنزلية وتلبية احتياجات الأطفال، أما الأم العاملة، فلديها مسؤوليات مهنية من جهة، ومسؤولياتها العائلية.
انتشار الوباء جعل النساء يعشن تحديات صعبة جرّاء خوضهن الحرب على مختلف الجهات، النساء تقدن الحرب على كورونا، كل من مكانها. الممرضات، الأمهات والعاملات من منازلهن والمدرّسات تقمن بجهود جبارة للتخفيف من حدة الوضع في الوقت الذي تبرز مخاوف جديّة لدى المجتمع النسوي من سيطرة الذكورية على المجتمع من جديد. تقول عبير شبارو، خبيرة جندرية في حديث لـ "مهارات نيوز" أن " هذا النظام البطريركي الذي قسم الأدوار سابقًا، يعود اليوم لإعادة تثبيت المكتسبات والأدوار القديمة. وعليه، تحمل المرأة اليوم عبء الأعمال المنزلية، تربية الأطفال والاهتمام بهم وإشغالهم كي تبعد الملل عنهم، تحضير الطعام، وقد أضيف إليها إجراءات التعقيم، من دون أن ننسى واجباتها بالاهتمام بالزوج. وقد ارتفعت وتيرة هذه الأعمال بسبب الحجر اليوم، إذ هي تعمل بوتيرة مضاعفة. على سبيل المثال: التنظيف أكثر من مرة في اليوم".
مع كل هذه الأعباء الإضافية على المرأة، تطرح شبارو حلاً من الممكن أن يساهم في التخفيف عن المرأة، برأيها أن "هذا الوقت المهم جدًا للرجال لكي يروا كمية الأعمال التي تقوم بها زوجاتهم خلال اليوم والشعور بالمسؤولية ثم المبادرة لمشاركة زوجاتهم تلك المسؤولية. هذه المشاركة من شأنها تعزيز دور الأب وتجعل الجميع يشعرون بأهميته كفرد من هذه الأسرة. وهذا ما ينعكس ترابطًا أسريًا مع تقديم صورة مثالية عن دور الأب سيكبر الأولاد معها".
المرأة المثالية: عقدة المرأة ووهمها
ما تقوله شبارو مهم جدًا، لكن يبقى السؤال كيف يمكن إخراج الرجل من عقدته الوجودية "أنا الرجل". إذ تشكّل هذه الأزمة الوقت المناسب للمبادرة والمساعدة في المسؤوليات. كما نعلم، تعاني المرأة اليوم من ضغوط نفسية واجتماعية كبيرة. هذا المجتمع الذكوري ساهم في اللعب على وتر المرأة المثالية، حيث صارت النساء تعانين من قلق إكمال واجباتهن على أكمل وجه، لارضاء نفسهن بالدرجة الأولى، ثم عائلاتهن. وبالتالي تسخير جهودهن وطاقاتهن في سبيل تحقيق هذا.
فكرة المرأة المثالية، المضحية، الخارقة، واحدة من الموروثات التي ترسخت لدى جيل كبير من النساء والرجال على حد سواء، فليس الرجل وحده من يتبجّج بعدم مسؤوليته تجاه الأعمال المنزلية والأسرية، بل المرأة أحيانًا تكون عدوة نفسها، تريد أن تكون على قدر التوقعات بإمكانياتها العالية وقدرتها على الإنجاز وإيجاد الحلول. كل هذا للحصول على الرضى من الجميع، متناسية أثر ذلك على صحتها من جهة، والصورة التي تقوم بتلقينها لأولادها عن المرأة مرسخة لنفس المكتسبات القديمة.
وإن كان المجتمع الذكوري قد أرسى هذه الأدوار التقليدية، فإن الإعلام فعل فعله أيضًا. حيث عزز تواجد المرأة في قوالب الأعمال المنزلية، على سبيل المثال: ما هي حجم الإعلانات التي رأينا فيها الرجل يقوم بغسل الأطباق، أو تقديم مسحوق جديد لاستعماله خلال عمله في المنزل، في مقابل تلك الموجهة للمرأة؟
وها هو يعود للعب نفس الدور خلال الحجر الصحي، عبر تعزيز دور المرأة في العمل المنزلي، وقد زادت السوشيل ميديا والناشطين أيضَا من ترسيخها لهذا الدور. حيث عادت النساء إلى دورهن من خلال ما نراه لدى فئة كبيرة من المؤثرات والناشطات، كتقديم أشهى الأطباق والحلويات.
عامل آخر سلبي هو التهاء الاعلام والسوشيل ميديا بالقشور، وعدم الغوص في آثار الحجر الصحي، فكيف للمرأة اليوم رغم كل أعبائها وأعمالها الاهتمام بصحتها ورشاقتها وممارسة الرياضة. كأن هموم المرأة لا تكفي، فيأتي هذا الاعلام لزيادة همومها وإشعارها بالنقص لعدم قدرتها على الاهتمام بنفسها بينما هي غارقة بالاهتمام بالآخرين.
العمل المنزلي أولاً
وبينما يحاول البعض تظهير الحجر الصحي بصورة " فرصة الراحة"، فئة قليلة من النساء تخرج لتشكي من الأعباء، وتعبّر عن حجم المعاناة التي تعيشها. فالمجتمع يعود اليوم إلى أصله، ويرسخ تلك الموروثات والمكتسبات القديمة بأن المرأة كُتب لها أن تقوم بأعمال الرعاية المنزلية، وأن عملها الذي تنتج من خلاله المال هو عمل جانبي وإضافي يجب أن تتخلى عنه متى قالت الضرورة. فالأعمال المنزلية والاهتمام بالعائلة هي أولوية، فيما العكس بالنسبة للرجل حيث يكون عمله ومهنته هي الأولوية.
كُثر من الرجال اليوم، يطلبون من المرأة القيام بواجباتها على أكمل وجه وفي حال التقصير يتم التقليل من قيمة ما تقوم به، وحتى الوصول إلى تخييرها بين عائلتها وعملها، مصحوبًا مع عنف يمارس بحقها. فتجد نفسها بين خيارين كلاهما أصعب. فتتحول إلى أسيرة المنزل وسجينة واجباتها ومسؤولياتها العائلية التي تتكرر كل يوم ولا تنتهي ولا تنقص. ويظهر ذلك في الأرقام التي نشرتها منظمة العمل الدولية في تقريرها إذ " تؤدي النساء على الصعيد العالمي 76.2 في المائة من مجموع ساعات عمل الرعاية غير مدفوعة الأجر، أي أكثر من الرجال بثلاثة أضعاف. وفي آسيا والمحيط الهادئ، ترتفع هذه النسبة إلى 80 في المائة".
يقول التقرير أن عمل الرعاية غير مدفوع الأجر هو العائق الرئيسي الذي يمنع النساء من الدخول إلى القوى العاملة والبقاء والتقدم فيها. في عام 2018، قالت 606 مليون امرأة في سن العمل إنها لم تكن قادرة على القيام بذلك بسبب أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر. قال 41 مليون رجل فقط إنهم ليسوا في القوى العاملة لنفس السبب.
الصحة النفسية ضرورة
تنصح شبارو، خلال الحجر، يجب التعاون بين الزوجين لإنهاء الواجبات وتقسيمها بين الطرفين حتى يكونوا متساوين ولكي لا يمل أحدهم خلال الحجر بينما الآخر منهك بسبب المسؤوليات الملقاة على عاتقه.
وتضيف أن "تأثير ما نمر به كارثي على صحة المرأة النفسية، ليس هي وحدها بل على المجتمع الذي يحتاج إلى إعادة تأهيل نفسي وتلقين للأفكار الجديدة التي عملنها عليها منذ سنوات". واليوم في ظل هذا الوضع لدينا تحد كبير وهو عدم خسارة المكتسبات والثقافة النسوية وحقوق المرأة التي عملنا على توعية المجتمع عليها منذ سنوات. كما أن على الإعلام دور حقيقي في هذا الشأن من خلال نقل الصورة الحقيقية للتحديات التي تعيشها المرأة اليوم، وليس معاناتها فقط، وإظهارها كمحارب حقيقي في هذه الأزمة إضافة إلى فتح الحوار وتشجيع المجتمع من الرجال والنساء على المشاركة في المسؤولية.
ميلاد حدشيتي، مختص في علم النفس الإيجابي في حديث لـ "مهارات نيوز" يقول أن " الحجر المنزلي سبب ضغط على كل العائلة مع الخوف من انتقال المرض وهذا ينعكس توترًا على العائلة التي لا تواجه هذا الأمر بمرونة نفسية. وقد زاد هذا الوضع من مسؤوليات المرأة.
قبلاً كانت تدير هذه الأعمال من خلال تقسيمها للوقت فهي كانت تهتم بالعائلة وتخرج لعملها. الأمر المختلف اليوم هو تغير النظام وروتين المرأة اليومي مع إضافة طلبات ملحة وهذا ما قد يؤثر على صحتها النفسية. أمام هذا الحمل، للبدء في تخفيف المشاكل، علينا البدء بالحوار. إذ يجب أن تتشارك المرأة مع زوجها حملها الكبير وتقسيم الأدوار بين الطرفين. ثانيًا محاولة اشراك الأطفال في المشاعر وفي العمل المنزلي. كما يجب التركيز على محاولة إيجاد المرأة وقتًا لنفسها، ولو لمدة 30 دقيقة للقيام بشيء تحبه كاستماع الموسيقى مثلاُ. وأنصح بالحرص على النوم لساعات كافية وتقسيم النهار وتحضير الأعمال التي يجب القيام بها مع إشراك العائلة".
TAG : ,additional burden ,lockdown ,covid19 ,الحجر المنزلي ,المجتمع الذكوري