لا يحتاج الفرد في لبنان إلى تحليل معمّق ليُدرك حجم التهرّب الضريبي القائم. هذه الظاهرة تشبه مرضاً له أعراض عدّة، تبدأ من الصفحات الإلكترونية التي تبيع منتجاتها عبر الإنترنت دون تسجيل رسمي أو رقم مالي، ولا تنتهي بـ"الفاليه باركينغ" الذي يطلب مبالغ نقدية دون إصدار فواتير صحيحة. ولا يمكن تجاهل تداول العملات الرقمية وبثوث تطبيقات التواصل الاجتماعي، التي لا تعرف أرباحها طريقاً إلى الدولة.
مع ظهور مصادر دخل جديدة، طوّرت دول عدّة طرق رصد متقدّمة تواكب العصر، من بينها فرنسا وبريطانيا والهند وباكستان وإيطاليا، حيث اعتمدت حلولاً مبتكرة مستخدمةً الذكاء الاصطناعي لمكافحة التهرب الضريبي، وقد أثبتت هذه الآليات فعاليتها في كشف عمليات التهرب وتحقيق إيرادات إضافية لخزائن الدولة.
أما لبنان، فقد خطا أولى خطواته نحو الرقمنة من خلال استراتيجية التحوّل الرقمي 2020-2030، وهي خطوة تهدف إلى تحديث القطاعات العامة والخاصة باستخدام التكنولوجيا، وفي مطلع أيلول/سبتمبر من العام الحالي، دشّنت وزارة المالية خارطة التحوّل الرقمي في الإدارة الضريبية بالتعاون مع دائرة الشؤون المالية في صندوق النقد الدولي (FAD) خلال اجتماع ترأسه وزير المالية ياسين جابر.
وفي الشهر التالي، أطلقت وزارتا المالية والعمل، بالتعاون مع وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية، "بوابة الدفع الإلكتروني". وأكد جابر أن خطة الوزارة تشمل تقديم المعاملات الضريبية إلكترونياً، واعتماد التبليغ عبر البريد الإلكتروني، وإطلاق خدمة القيمة التأجيرية إلكترونياً، إضافة إلى منصّة للشكاوى وتطبيق للهواتف الذكيّة قريباً.
رغم ما سبق، تبقى رحلة الشفافية محفوفة بتحديات كبيرة على المستويات البشرية والتقنية والاقتصادية والبنية التحتية لا بد من التوقف عندها، لمعرفة إلى أين سيؤول هذا القطاع في لبنان.
واقع ضريبي صعب والرقمنة جزء من الحلّ!
تلفت مصادر في وزارة المالية لـ"النهار" إلى غياب أرقام دقيقة تحدّد حجم التهرّب الضريبي في لبنان، من دون نفي وجود المشكلة التي تتجلّى في الغالب ضمن الاقتصاد النقدي والأعمال عبر الإنترنت، حيث يسهل التهرّب الضريبي مقارنة بالدفع عبر المصارف أو البطاقات المصرفية التي تتيح رصد التحركات المالية. وتشير المصادر إلى أنّ "الاعتماد الواسع اليوم على مؤسسات الحوالات المالية، يعقّد عملية التتبّع ويزيد من مساحة الاقتصاد غير الرسمي".
ورغم أنّ وزارة المالية خطت خطوات باتجاه الرقمنة، مثل التصريح الإلكتروني وإمكانية تقديم وتتبع الشكاوى "أونلاين"، ما زالت التحديات كبيرة. فالحاجة ملحّة إلى كفاءات بشرية مؤهلة قادرة على مواكبة التحوّل الرقمي والحوكمة المالية، بعيداً عن منطق المحسوبيات والطائفية في التعيينات. و"المطلوب اليوم مبرمجون يعملون جنباً إلى جنب مع المراقبين الماليين، لتطوير أنظمة فعّالة تُمكّن من الملاحقة الضريبية".
والواقع الأمني في بعض المناطق لا يزال عائقاً أمام عمليات المراقبة والملاحقة، إذ يصعب على فرق الجباية الوصول إلى مناطق معيّنة، "خصوصاً في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية"، حيث تؤدي الظروف الأمنية إلى تعطيل المراقبة الضريبية، فضلاً عن أنّ "جزءاً كبيراً من السكان في هذه المناطق خسروا منازلهم ومصادر رزقهم بفعل القصف".
توضّح المصادر أنّ أحد التحديات الأساسية هو انعدام ثقة المواطنين بالدولة، فالكثيرون يبرّرون تهرّبهم بالقول: "ماذا قدّمت الدولة؟ أين نظام التقاعد وملف الشيخوخة؟ ماذا عن المستشفيات وأموالنا المحجوزة في المصارف؟"، معتبرين أنّ الدولة التي عجزت عن حماية ودائعهم لا تستحقّ التزامهم الضريبي. ومن الإجراءات المقترحة لمكافحة التهرّب الضريبي وتعزيز الشفافية:
- رفع السرية المصرفية عن الشركات المساهمة الكبرى (ش.م.ل) التي لا مبرّر لاستمرار حجب بياناتها.
- تسهيل دفع الضرائب عبر أموال المودعين في المصارف، مثلاً بدفع 50% من الحساب المصرفي للفرد و50% نقداً، بما ينعكس إيجاباً على الدولة والمواطن معاً.
- اعتماد الفوترة الإلكترونية، وهي تجربة بدأت بها دول مثل مصر والسودان، وتُعدّ من أهم الأدوات في رصد حركة البيع والشراء، إذ تُسجَّل العمليات تلقائياً ضمن نظام وزارة المالية، ما يؤمّن قاعدة بيانات دقيقة وشفافة للإدارات الرسمية، ويحدّ كثيراً من إمكان التلاعب أو التهرّب.
انطلاقاً من اعتبار الرقمنة المدخل الأساس لتعزيز الشفافية المالية، أطلقت وزارة المالية خريطة طريق للتحوّل الرقمي في الإدارة الضريبية. فما أبرز ملامح هذه الخطة؟
نحو التماشي مع أفضل الممارسات الدولية
في ظل الضغوط المالية والاقتصادية المتزايدة، أدركت وزارة المالية اللبنانية أن التحول الرقمي لم يعد خياراً تجميلياً أو خطوة تكنولوجية عابرة، بل حاجة وطنية ملحّة. فالرقمنة لا تسهم فقط في زيادة الإيرادات وتحسين التحصيل الضريبي، بل تُعيد تنظيم سير العمل داخل الوزارة، وتُخفّف عن الموظفين عبء الإجراءات الورقية، ما ينعكس كفاءةً وشفافيةً في الأداء العام.
في هذا السياق، يشدد المدير العام لوزارة المالية جورج المعراوي في حديثه لـ"النهار" على أن خريطة الطريق الشاملة للتحوّل الرقمي في الإدارة الضريبية، تهدف إلى تعزيز الشفافية ورفع كفاءة التحصيل وتوسيع القاعدة الضريبية، بما يتماشى مع أفضل الممارسات الدولية. وتقوم الخطة على خمس مراحل مترابطة:
- تحديث الإطار التشريعي والمؤسسي لتأمين البيئة القانونية والتنظيمية المناسبة للتحول الرقمي.
- إطلاق بوابة إلكترونية موحدة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتسهيل تسجيل المكلفين وتقديم التصاريح والدفع إلكترونياً.
- تطوير منظومة الدفع والفوترة الإلكترونية.
- الربط البيني مع الوزارات والقطاعات الاقتصادية ذات الصلة.
- تفعيل آليات الحوكمة والشفافية عبر أنظمة تتبع رقمية ولوحات تحكم تحليلية تتيح مراقبة الأداء المالي والضريبي بشكل لحظي.
ويؤكد معراوي أن "هذا التحول الرقمي سيسهم في تبسيط الإجراءات للمكلفين وتقليص فجوة الالتزام، إلى جانب تعزيز الثقة بين الدولة والمواطن. ومن شأنه دعم استقرار المالية العامة ومواءمة النظام الضريبي مع المعايير الدولية الحديثة".

خارطة الطريق الشاملة للتحول الرقمي في الإدارة الضريبية (النهار)
حلم مؤجّل يعرقله غياب المكننة
في وقتٍ تتجه فيه دول العالم إلى توظيف التكنولوجيا الحديثة لتعزيز الشفافية والرقابة المالية، يقف لبنان متأخراً عن الركب، ما يطرح تساؤلات ملحّة حول سبل توظيف الرقمنة والذكاء الاصطناعي لمواجهة التهرّب الضريبي.
يؤكد المستشار في شؤون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عامر طبش، في حديثه إلى "النهار"، أن هناك إمكانيات كبيرة يمكن للبنان الاستفادة منها في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصاً ضمن الدائرة الاقتصادية. ويوضح: "يمكن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى وزارة المالية مثلاً للقيام بمهام محددة، كالمساعدة في عمليات التدقيق المالي، ورصد أي مخالفات في العمليات المالية، إضافة إلى تطوير المهام الإدارية والرقابية المرتبطة بهذه الدائرة".
في المقابل فإن تطبيق الذكاء الاصطناعي بحسب طبش يتطلب بنية تحتية تقنية متقدمة لا تزال غائبة في لبنان، قائلاً: "نحن ما زلنا نتحدث عن الذكاء الاصطناعي بالورقة والقلم، ولم نبدأ بعد بصناعته كما فعلت الدول الأخرى. صحيح أن هناك إنجازات فردية لخبراء ومبرمجين لبنانيين، لكننا بحاجة إلى صناعة متكاملة للذكاء الاصطناعي، ليصبح جزءاً محورياً في مراكز القرار المالي، عبر التدقيق، والتحقق من صحة المعاملات، ومراقبة العمليات المالية، وإصدار الإحصاءات بسرعة، والعمل على إعداد الموازنات والاستعانة بالموازنات السابقة لاستشراف رؤية مستقبلية".
ورغم إقراره بأهمية الذكاء الاصطناعي في تطوير العمل المالي والبنية التحتية الرقمية، يلفت طبش إلى أن "لبنان ما زال بعيداً جداً عن تحقيق ذلك. فلا تزال مؤسسات الدولة تفتقر حتى إلى المكننة الأساسية، وما زالت تعتمد الورقة والقلم لتغطية الفساد".
والمكننة الشاملة هي الخطوة الأولى قبل الوصول إلى الذكاء الاصطناعي، "فالتحوّل الرقمي لا يعني الاستغناء عن الموظفين، بل يهدف إلى تسهيل مهامهم وزيادة الإنتاجية". لكنه يختم بتحفّظ واضح: "حتى الآن، لا أرى الجدية المطلوبة لدى الدولة في هذا الاتجاه، ولا خطوات فعلية نحو تدريب الموظفين وتأهيلهم رقمياً".
العالم يسبقنا
قطعت دول عدة أشواطاً كبيرة في توظيف الذكاء الاصطناعي لمراقبة نمط حياة المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعي، ومقارنة أنماط الإنفاق مع الإقرارات الضريبية، بالإضافة إلى تحليل البيانات المالية للأفراد بسرعة ودقة.
في فرنسا، دمجت السلطات أدوات الذكاء الاصطناعي مع عمليات الفحص التقليدية للكشف عن المخالفات الضريبية. يمكن لهذه الأدوات مسح المنشورات العامة على وسائل التواصل الاجتماعي لمطابقة أنماط الحياة مع الدخل المعلن، ما يسهم في تحسين كفاءة المراقبة المالية بين الإدارات.
وفي بريطانيا مثلاً، يستخدم نظام Connect بيانات البنوك وسجلات الملكية والأسواق الإلكترونية لإنشاء ملفات رقمية لكل دافع ضرائب، وتتبّع مصادر الدخل المتعددة، بما في ذلك الوظائف والعمل الحرّ والمبيعات عبر الإنترنت والإيجارات والعملات المشفرة. يميّز النظام التباينات بين الدخل المبلغ عنه ونمط الحياة، مقارنةً بالمتوسّطات الوطنية وأسعار العقارات والعادات الشخصية.
ومن العلامات الحمراء التي تؤدي إلى فتح تحقيق: إنفاق يفوق الدخل المعلن، إيرادات إيجار أو إيرادات جانبية غير مذكورة، ودائع نقدية كبيرة غير مبررة، والإبلاغ المستمر عن الخسائر، وعند اكتشاف أيّ من هذه المؤشرات، تبدأ هيئة الإيرادات والجمارك البريطانية بإجراء تحقيقات موسّعة.

العلامات الحمراء التي تؤدي إلى فتح تحقيق (النهار)
يتمتع لبنان بكفاءات بشرية وعقول نيّرة قادرة على تمهيد الطريق نحو الرقمنة، وتسخير التكنولوجيا لتسهيل حياة المواطنين ودفعهم إلى التصريح الضريبي وتعزيز الشفافية المالية، إضافة إلى تمكين عمل الأجهزة الرسمية وربط عمل الإدارات بعضها ببعض، ولكن يبقى هذا الأمل ينتظر نية جديّة وعمليّة لدى المعنيين للوصول إلى الأهداف المنشودة.
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول "قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية" تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية - CFLI. وتم نشر التقرير بالتزامن مع موقع النهار.