Loading...

رقمنة الإدارة الضريبية: خطوة إصلاحية لإعادة هيكلة الخدمات المالية... فهل تنجح؟

 

في بلدٍ يُصارع للّحاق بالإصلاحات المطلوبة محليًا وخارجيًا لانتشال اسمه من التصنيفات التي قبع فيها واستراح، مثل "اللائحة الرمادية" لمجموعة FATF، يطلّ اليوم مع أمل جديد عبر خطّة للتحوّل الرقمي، تسعى إلى تحويل المعاملات الماليّة والضريبيّة والعقاريّة والجمركية إلى خدمات رقميّة بالكامل، بشكل تدريجي ومنهجي، في محاولة لإنقاذ الواقع المالي بل وإعادة الحياة إلى القطاع برمّته. وكانت قد أطلقت وزارة المالية خريطة التحول الرقمي في الإدارة الضريبية  بالتعاون مع دائرة الشؤون المالية في صندوق النقد الدولي (FAD)، وذلك خلال اجتماع عمل ترأسه وزير المالية ياسين جابر. 

 

يُحدّد المدير العام لوزارة المالية جورج المعرّاوي في حديث لـ "مهارات نيوز" الأهداف المركزيّة للخطّة. أولًا، تبسيط المعاملات وتقليص التكلفة والوقت، وثانيًا مكافحة الفساد عبر تقليص التماس المباشر بين الموظف والمواطن، إضافةً إلى تحسين إدارة المال العام من خلال توحيد البيانات، وبناء قاعدة بيانات مترابطة تضم الضرائب العقارية والجمارك.  كما يؤكّد بدء الوزارة فعليًا إنشاء مركز بيانات بتمويل من المانحين الدوليين، ليشكل بيئة آمنة وموحدة لإدارة قواعد البيانات، مع العمل على تكاملها وتنقيتها لتسهيل استخدامها في التحليل المالي والإداري واتخاذ القرارات.



 

غير أنّ هذه الخطوة، على أهميّتها، لا تخلو من التحديات والعقبات التي تهدّد نجاحها، بدءًا من ضعف البنية التحتيّة وصولًا إلى غياب الثقة بين المواطن والإدارة. فما أهدافها الأساسيّة؟ وما إمكانيّاتها لإصلاح الواقع المالي؟ وكيف يمكن مواجهة العراقيل لتنفيذها؟ وهل الرقمنة وحدها كافية لتحقيق الشفافيّة، أم أنّها تحتاج إلى نظام ضريبي جديد يُعيد صياغة قواعد العدالة؟

 

تحديات بنيوية في وجه التحول الرقمي

في واقع تستمر فيه انقطاعات الكهرباء وضعف الإنترنت، يواجه المشروع المُرتقب تحديات بنيوية حقيقية، تضاف إليها صعوبات مرتبطة بنقص الكفاءات البشرية المتخصصة في الرقمنة والأمن السيبراني، فضلًا عن فجوة الثقة بين المواطن والإدارة بسبب التجارب السابقة المتعثّرة.

 

ولمواجهة هذه العقبات، يشدّد المعرّاوري على اعتماد الوزارة مقاربة تدريجية تبدأ بخدمات قابلة للتنفيذ الفوري مثل: التصاريح الضريبية الإلكترونية، والدفع عبر الإنترنت، وإصدار الإفادات إلكترونيًا، إضافةً إلى المعاملات الإلكترونيّة في الأملاك المبنيّة والعقاريّة. كما تعمل الوزارة على تجهيز مراكز خدمة مؤمَّنة بالطاقة المستقلة، وذلك لضمان استمرارية العمل حتى في ظل الانقطاعات.

 

هنا يُطرح السؤال: كيف يمكن للبنان أن يعيد بناء إدارته الضريبية بما يضمن الشفافية ويحدّ من الفساد؟ في هذا السياق، تُشير مصادر في الادارة الضريبية لـ "مهارات نيوز" إلى أنّ أبرز الصعوبات التي تواجه الإدارة إضافةً إلى العوائق اللوجستيّة التي ذكرها المعرّاوي، تتمثل في النقص الحاد في عدد الموظفين نتيجة غياب التوظيف واستقالة العديد من العاملين أو لجوئهم إلى إجازات طويلة. أما على صعيد الكفاءات التقنية، فالوزارة تعتمد بشكل أساسي على مبرمجين يعملون بنظام "الفريلانس"، ما يجعل استمراريتهم غير مضمونة. وترى المصادر أنّ الرقمنة يمكن أن تسد جزءًا من هذه الثغرات، إذ تقلّل الحاجة إلى أعداد كبيرة من الموظفين وتزيد القدرة على إنجاز المعاملات بكفاءة، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على المواطن.



 

أولويات الخطّة وسُبل ضمان استمراريتها

ارتأت وزارة الماليّة أن تبدأ عملية التحول الرقمي في قطاعات أساسية، وهي: الجمارك، الضرائب، والعقارات. وفي هذا الإطار، يذكر المدير العام للمالية ثلاثة أسباب رئيسة لذلك: أوّلًا، هذه القطاعات تمثل الحجم الأكبر من الإيرادات العامة، وثانيًا، لأنها تضم العدد الأكبر من المعاملات مع المواطنين. إضافةً إلى تأثيرها المباشر على مناخ الأعمال والاستثمار. هذه الأولويات من شأنها أن تسرّع تحقيق نتائج ملموسة، إذ تسمح بإجراء معظم المعاملات إلكترونيًا، مما يقلص الوقت والكلفة ويعزز الشفافية ويحد من الرشوة والمحسوبيّات عبر تتبّع إلكتروني كامل للملفات.

 

تدرك وزارة المالية أنّ الرقمنة لا يمكن أن تنجح بمعزل عن النظام الاقتصادي والاجتماعي، لذلك تبنّت سياسة شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية. فهي تشجع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية (FinTech) على تطوير حلول محلية مبتكرة تتناسب مع التحديات اللبنانية. أما على المستوى الأكاديمي، فقد أطلقت الوزارة تعاونًا مع الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) والجامعة اللبنانية الأميركية (LAU)، على أن يتم توسيع هذه الشراكات لتشمل جامعات أخرى، بهدف تطوير أبحاث وتطبيقات عملية وتدريب الكفاءات الشابة التي ستكون العمود الفقري للحوكمة الرقمية. هذه الشراكات تسهم في تعزيز الابتكار المحلي، وخلق فرص عمل نوعية، ودمج الاقتصاد الرقمي ضمن عملية الإصلاح.


ولفت المعرّاوي إلى أنه يرافق خطة التحول الرقمي دعم من الاتحاد الأوروبي والدول المانحة، من بينها الدنمارك، فرنسا، ألمانيا، النروج، وكندا. كما يوجد تنسيق مع الوزارات المعنية مثل وزارة شؤون التنمية الإدارية ووزارة الذكاء الاصطناعي. هذا الدعم الدولي لا يقتصر على التمويل بل يشمل أيضًا تبادل الخبرات والتقنيات اللازمة لتأمين نجاح المشروع على المدى الطويل.

 

الرقمنة كوسيلة للحد من التهرّب الضريبي

وعن تأثير الرقمنة على ملف التهرب الضريبي، توضح مصادر الادارة الضريبية أنّ الدفع الإلكتروني للضرائب وإتمام المعاملات عبر الإنترنت يقلل بشكل ملحوظ من فرص الفساد ومن دور "السماسرة" الذين يتلاعبون بالمعاملات، كما يخفّف عن المواطنين عبء التنقل والانتظار. الأهم أنّ الرقمنة تمكّن من تعزيز التنسيق مع الوزارات الأخرى وتأمين تبادل البيانات، ما يساهم مباشرة في مكافحة التهرّب. إلاّ أنّ الرقمنة وحدها لا تكفي، إذ يجب أن ترافقها إجراءات أخرى داعمة لضمان فعاليتها على أرض الواقع.

 

وحول إمكانية الاستفادة من تجارب دول ذات قدرات اقتصادية مشابهة للبنان، تذكر المصادر عن تجارب كل من مصر والسودان في مجال الفوترة الإلكترونية، حيث تُرسل كل فاتورة مباشرة إلى خادم في وزارة المالية، ما يتيح متابعة دقيقة للإنفاق ويكشف محاولات التهرّب. وتضيف أنّ على لبنان أن يبني تجربته الخاصة، انطلاقًا من تركيبته الاقتصادية والإدارية، عبر إنشاء نظام معلومات مشترك يربط الوزارات بالمصارف، الأمر الذي يتيح تقدير المداخيل بدقة أكبر وفرض ضرائب أكثر عدالة.

 

بهذا، تتضح ملامح خطة التحول الرقمي لوزارة المالية كجزء من مسار إصلاحي أشمل، يرمي إلى بناء إدارة ضريبية ومالية أكثر كفاءة وعدالة. لكنّ نجاح هذا المسار لا يتوقف على الجانب التقني فقط، بل يتطلّب إطاراً تشريعيًا متينًا يعيد صياغة النظام الضريبي وفق معايير الشفافية والعدالة الدولية. في هذا السياق، يرى المحامي والخبير المالي والضرائبي كريم ضاهر أنّ الرقمنة في الإدارة الضريبية ليست ترفًا إداريًا بل ضرورة قصوى. فالمسألة لا تتعلق فقط بربط الإدارات الأساسية ببعضها البعض، بل بالذهاب أبعد من ذلك لربطها بالمصارف، بهدف الحد من الاقتصاد النقدي وتشجيع الشمول المالي. ويشدّد على أنّ هذه الخطوة لا تحسّن فقط ضبط الإيرادات، بل تحد أيضًا من التهرّب الضريبي وتبييض الأموال.
 

تطوير البيئة التشريعية ضروري

صدر قانون رفع السرية المصرفية رقم 306 في العام 2022 مشترطًا صدور مرسوم يحدّد آلية تطبيقه، ثم عُدّل القانون مجددًا في العام 2025. ومع ذلك، مازال المرسوم التطبيقي غائبًا حتى اليوم، ما يعني أنّ أربع سنوات قد مرّت من دون أي إطار عملي ينفّذ هذا التشريع. في هذا السياق، يؤكّد ضاهر"أنّ غياب هذا المرسوم لا يُعطّل فقط مفاعيل القانون بل يجعل الحديث عن المكننة والإصلاحات التقنية بلا جدوى، طالما أنّ السرية المصرفية ما زالت عائقًا أمام الشفافية والمحاسبة الفعلية".

 

كما يشدّد ضاهر على ضرورة تفعيل القانون 55 الخاص بتبادل المعلومات الضريبية، لما له من دور أساسي في كشف المتموّلين اللبنانيين الذين يملكون أموالًا في الخارج ويتفادون تسديد الضرائب في لبنان. فبرأيه، لا يمكن الحديث عن عدالة ضريبية حقيقية ما لم يقتنع المواطن بأن النظام منصف، يحمي الفقير ويحاسب الثري بالقدر نفسه، ويضمن أنّ العبء الضريبي موزّع بإنصاف على مختلف الفئات.

 

وفي إطار التشريعات، يُنبّه إلى أنّ اللجنة المتخصّصة قد أنجزت مشروع قانون الضريبة الموحدة على الدخل في الحكومة السابقة برئاسة نجيب ميقاتي، وهو اليوم بانتظار قرار الحكومة الجديدة. وفي هذا الإطار، يؤكّد من جهته أنّ غياب الجدية والسرعة يضع لبنان أمام خطر البقاء أو حتى الانتقال إلى لائحة الدول الرمادية غير المتعاونة، وهو ما ستكون له انعكاسات كارثية.

 

التكنولوجيا لا تكفي: لا بد من إعادة صياغة النظام الضريبي

رغم ما تحمله الرقمنة الضريبيّة من إمكانات واعدة لتطوير الإدارة الضريبيّة وتحقيق الشفافيّة، إلّا أنّ نجاحها يبقى مشروطًا بإصلاحاتٍِ أعمق في بنية النظام الضريبي نفسه. فمن وجهة نظر ضاهر، لا يُمكن الاعتماد على التكنولوجيا وحدها لتضمن العدالة، ما لم يترافق الأمر مع إعادة صياغة شاملة للتشريعات الضريبيّة. فالتكنولوجيا بدورها قادرة على ربط وزارة المالية بالجمارك والمصارف ووزارة الاقتصاد، حيث يتم تسجيل كل عملية استيراد ضمن نظام لا يمكن تعديله أو التلاعب به من خلال اعتماد تقنيّة الـ Blockchain مثلًا.

 

في المقابل، يرى ضاهر ضرورة في أن يترافق ما سبق مع إعادة صياغة شاملة للنظام الضريبي، تبدأ بتطبيق الضريبة الموحّدة على الدخل، وإنهاء الامتيازات غير المجدية. كذلك يشدد على ضرورة تعديل ضريبة الأملاك المبنية، بحيث تتحوّل من ضريبة إلى رسم يعود ريعه للبلديات، مع دمجها ضمن الضريبة التصاعدية على الدخل. كما يدعو إلى تعديل قوانين الرسوم الانتقالية لتحفيز الاقتصاد المنتج، عبر إعفاءات مخصّصة للمشاريع التنموية في لبنان.

 

أخيرًا، يرى ضاهر أنّه لا بدّ من عقد اجتماعي جديد يؤسس لعدالة ضريبية شاملة، وإدارة مالية شفافة، وحكومة إصلاحية جادّة. فالخروج من الأزمات ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية صلبة وتطبيق القوانين بدل تركها معلّقة.