في آب 2025، صدر مرسوم رقم ٨٢٣ المتعلّق بالتشكيلات القضائية الجديدة في لبنان. وقد حصدت النساء 44 منصبًا قضائياً من أصل 106، أي ما يعادل 40% من المناصب.
وعلى الرغم من التقدّم الملموس في نسبة القاضيات النساء مقارنة مع مؤسسات الدولة الأخرى، إلاّ أنّ هناك تحديات وعقبات راسخة تتمثّل بأنّ المناصب العليا لا تزال حكراً على الرجال، وهو ما يترجمه المرسوم بتخصيص المناصب الثلاثة الأعلى في الهرم القضائي للرجال.
ويطرح هذا الواقع تساؤلاتٍ حول مدى التزام لبنان بتعهّداته الدولية في مجال المساواة الجندرية وتمكين النساء في مواقع صنع القرار، ولا سيّما القرار 1325 الصادر عن مجلس الأمن عام 2000، الذي يُلزم الدول باتخاذ التدابير اللازمة لضمان مشاركة النساء على قدم المساواة مع الرجال في الحياة العامة، بما في ذلك السلطة القضائية.
تقدّم على الورق
وزّع المرسوم الجديد القضاة على مختلف المحاكم، حيث برزت مشاركة نسائية وازنة في مواقع الادعاء والتحقيق. وأكدت مصادر قضائية أن النساء لم يعدن محصورات في الأدوار الثانوية أو الوسطية، وأصبحن ممثلات في النيابات العامة وفي التحقيق وفي موقع رئاسة الوحدات.
وعلى سبيل المثال في بيروت، تترأس النساء عدداً من الفرق التحقيقية بحيث يقتصر الحضور الذكوري أحياناً على قاضٍ أو اثنين فقط. كما أن حضور القاضيات في النيابات العامة أصبح واضحاً، وهو ما يعكس تراكماً تدريجياً منذ نحو عقدين.
وفي هذا الإطار، توضح المديرة التنفيذية للهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية ميشلين إلياس مسعد، في مقابلةٍ مع مهارات نيوز، أنّ "ارتفاع نسبة القاضيات في الجسم القضائي يشكّل "خطوةً إيجابيةً وأساسية" ووجود نساءٍ في مواقع القرار القضائي يعكس تراكمًا مهمًا في مسار تمكين النساء ضمن مؤسسات الدولة".
وتشير إلى أنّ القاضيات "يلعبن دوراً حيويًا في الملفات الحساسة، ولا سيّما قضايا العنف الأسري والتحرّش الجنسي، حيث يساهم حضورهن في تقديم مقاربةٍ أكثر تفهّمًا لواقع النساء وخبراتهن اليومية".
وتؤكد مسعد أنّ هذا التطوّر "يعزّز ثقة النساء بالقضاء ويشجّعهنّ على اللجوء إليه"، مشدّدةً على أنّ مشاركة النساء في العدالة "تعني عدالةً أكثر شمولًا للنساء والرجال على حدّ سواء".
على الرغم من هذا التطوّر في التمثيل النسائي، إلا أنّه وعند الوصول إلى قمة الهرم، تتغير الصورة، إذ لا تزال مناصب الرئيس الأول لمحكمة التمييز، والنائب العام لدى محكمة التمييز، ورئيس هيئة التفتيش القضائي، وهي جميعها تخضع لتعيين مباشر من مجلس الوزراء، بيد الرجال.
في هذا السياق، تتابع مسعد موضحةً أنّ "التحدّيات التي تواجهها النساء في القضاء لا تختلف عن تلك التي تعترضهنّ في مواقع صنع القرار الأخرى في السياسة والشأن العام، وأوّل هذه التحدّيات هو العنف السياسي الذي يُمارَس على القاضيات، فبمجرّد أن تتّخذ قاضيةٌ قرارًا ما، قد تتعرّض لاستهدافٍ شخصيّ ولحملاتٍ إعلاميةٍ مسيئةٍ تطال حياتها الخاصة".
وتعتبر أنّ المشكلة "ليست مسألة كفاءة إطلاقًا"، بل ترتبط بثقافةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ لا تزال تُقصي النساء عن مواقع النفوذ. وتتابع: "في معظم المواقع، القاعدة مليئة بالنساء، لكنّ المراكز الأساسية تغيب عنها المرأة، إذ إنّ الترشيح والتعيين والتسمية تبقى في غالبيتها بيد الرجال، وبالتالي تستمرّ الحلقة نفسها".
وتكشف معطيات مهنية داخل القضاء أنّ هذا الإقصاء لا يقتصر على التحليل النظري، بل ينعكس مباشرةً في توزيع المناصب العليا، حيث تتراجع حظوظ القاضيات كلّما ارتفع مستوى الهرم القضائي.
إذا، تُعزى محدودية تمثيل النساء في قمّة الهرم القضائي إلى طبيعة نظام التعيينات الذي يخضع لتوازنات سياسية وطائفية تُقصي في كثير من الأحيان الكفاءات النسائية. فالمناصب العليا تُمنح عادةً وفق معايير الولاء والانتماء، لا على أساس الاستحقاق المهني، ما يجعل حضور النساء رهينًا لإرادةٍ سياسيةٍ بدل أن يكون نتيجةً لآليةٍ مؤسساتيةٍ عادلة.
تحديات خفيّة ترويها القاضيات
على الرغم من حيازة النساء نسبة ملحوظة في التعيينات القضائية الأخيرة، ما زالت بعض الممارسات الخفية قائمة. فقد روت قاضية أنها استُبعدت من غرفة قضائية لأن "العدد فيها كبير من النساء أصلاً". وأشارت إلى أنها حُرمت من منصب رغبت فيه لأن زملاءها رأوا أن النساء لا يجب أن يسيطرن على تلك الدائرة.
وتضيف القاضية أنّ "هذه الذهنيات تتراجع بين الأجيال الجديدة لكنها تبقى متجذّرة في المستويات العليا فالعقلية بدأت تتغيّر، مشيرة إلى أن "اليوم معظم القضاة الجدد لا يرون فرقاً بين رجل وامرأة. ومع الوقت ستزول الصور النمطية".
التعيينات الأخيرة: التزام دولي جزئي
إذاً، لا تزال المناصب القضائية الأعلى بيدّ الرجال، وهو ما يتعارض جزئيا مع التزامات لبنان الدولية، إذ يلتزم لبنان بتعزيز مشاركة النساء في مجالات السلام والأمن والعدالة بموجب القرار 1325 الصادر عن مجلس الأمن عام 2000. وفي عام 2019، أقرّ لبنان الخطة الوطنية لتطبيق القرار (NAP 1325)، التي نصّت بوضوح على توسيع حضور النساء في مواقع القرار بما في ذلك القضاء.
تعيينات آب 2025 عكست هذا الالتزام جزئياً. فمع نيل النساء 40% من التشكيلات الجديدة واحتلالهن أكثر من نصف المواقع في الجسم القضائي إجمالاً، يُعتبر القضاء اللبناني من أكثر مؤسسات الدولة توازناً على مستوى النوع الاجتماعي في المنطقة.
كما أن إدخال نساء إلى مواقع مرتبطة بالقضاء العسكري ينسجم مع جوهر القرار 1325 الذي يربط مشاركة النساء بمسائل الأمن والسلام. لكن استمرار استبعادهن من قمة الهرم يقوّض أهداف الخطة الوطنية.
النساء في مواقع قضائية أساسية
على الرغم من القيود، وصلت القاضيات إلى مواقع حساسة وقيادية كانت تُعتبر بعيدة المنال سابقاً. ومن الأمثلة التي ذكرتها مصادر قضائية:
في محكمة التمييز، وهي أعلى هيئة قضائية في لبنان، باتت النساء يشكّلن ما يقارب نصف القضاة. وفي وزارة العدل، تولّت قاضيات خلال فترة واحدة مناصب قيادية أساسية، بينها رئاسة هيئة القضايا وهيئة الاستشارات والتشريع والمديرية العامة. ساهمت هذه التطورات في تعزيز حضور النساء داخل الجسم القضائي وفي مواقع صنع القرار.
وأكدت قاضية فضّلت عدم ذكر اسمها لأسباب مهنية أن "في فترة معينة، تولّت النساء جميع المديريات القضائية الأساسية، وهو أمر لم يكن مألوفًا قبل جيل واحد فقط، ويعكس تحوّلًا تدريجيًا في بنية القضاء اللبناني".
ومع تزايد أعداد النساء في القضاء، ترى إحدى القاضيات أن اعتماد كوتا جندرية في المناصب العليا قد يكون ضروريًا مرحليًا إلى أن تصل النساء طبيعياً إلى المناصفة، مضيفةً أنّه "إذا عُيّن خمسة رجال وخمس نساء لرئاسة المحاكم، تصبح المساواة هي القاعدة".
يقف القضاء اللبناني اليوم عند مفترق طرق. فالنساء يشكّلن غالبية الجسم القضائي وحصلن على 40% من التعيينات الأخيرة، ما يمنحهن وزناً متزايداً داخل الجسم القضائي. ومع مرور الوقت، سيزداد الضغط لكسر احتكار الرجال قمة الهرم.
ويوضح أحد القضاة أنه "لا يوجد ما يمنع امرأة من أن تصبح الرئيس الأول لمحكمة التمييز أو النائب العام التمييزي والعائق الوحيد هو الإرادة السياسية".
إذا، وفي حال انسجمت التعيينات المقبلة مع روح القرار 1325 والخطة الوطنية، قد نشهد قريباً تعيينات لنساء في المراكز القضائية العليا والتي بقيت حكرا على الرجال لفترات طويلة.
ومع ترسّخ حضور القاضيات في مختلف المستويات، من التحقيق إلى الاستئناف والمديريات، تتراجع الحواجز القديمة تدريجياً، على أن يتم استكمال الضغط مستقبلا لتعيين القاضيات في المناصب العليا ليتم بذلك اعادة رسم صورة العدالة في لبنان وتأكيد أنها منصفة للجميع، رجالا ونساء.