في صباح حارّ عند مدخل مركز تسجيل السيارات المعروف بـ"النافعة" في طرابلس، يقف أبو عمر إلى جانب سيارته القديمة، يتأملها بقلق قبل أن يدير محركها. يخشى أن يوقفه حاجز أمني فيحجز سيارته لأنها غير مسجّلة باسمه ولم يُجدَّد ميكانيكها منذ سنوات، إذ إن تكلفة تسجيلها تعادل نصف قيمتها. يشير بحسرة إلى أن مئات مثله باتوا يركنون سياراتهم و يستعيضون عنها بدراجات نارية هرباً من هذه المتاهة، ويطالب الدولة بتخفيض الرسوم وتسهيل الإجراءات.
هذه الحكاية ليست استثناء، ففي شوارع طرابلس، يتردد صدى الشكاوى ذاتها بين السائقين، لتشي بفوضى كبيرة لقطاع السير في لبنان وأبرز انعكاسات هذه الفوضى ما تشهده النافعة من تلكؤ في معاملات المواطنين وشبهات عدة بالفساد والتواطؤ مع السماسرة لتسهيل معاملات المواطنين.
التسجيل أصبح كابوساً!
قصة أبو عمر ليست استثناءً. فخلف عجلة القيادة في شوارع المدينة، يتردد صدى الشكوى نفسها. خالد المصري، سائق تاكسي في طرابلس، يؤكد أنّه يضطر لقيادة سيارته وهو يشك في أعطالها، لأنه يفضّل إنفاق دخله على أولاده بدل التصليح الذي يبدأ من 20 أو 30 دولاراً وقد يتجاوز المئة.
ويضيف أن دخول "التوك توك" إلى السوق دمّر عمل سيارات الأجرة، إذ يتم تسجيله بشكل طبيعي رغم مخاطره، بينما كلفة تسجيل سيارته وحدها تتخطى 300 دولار. في النافعة، كما يقول، "إذا لم تدفع لا تدخل"، مشيراً إلى ورقة مهترئة أعطيت له بدل دفتر السوق، يمكن أن تتمزق في أي لحظة، وهو دليل في رأيه على إهدار حقوق المواطنين.
سطوة السماسرة
يصف أبو سعيد، أحد أصحاب السيارات السمسار، بأنه جزء مفروض من المعاملة، "الكلفة النظامية لتسجيل السيارة قد تصل إلى 700 دولار، لكن من دون وسيط لا يمكن الوصول إلى الموظف، والسمسار يطلب عادةً أكثر من 400 دولار إضافية، لترتفع الكلفة إلى نحو 1100 دولار". ووفق أبو سعيد، إن دور السمسار لم يعد مجرد خدمة تسهيلية، بل امتد إلى تهديد مباشر، وصولاً إلى كسر زجاج السيارة إذا لم تُدفع المبالغ.
وشهادات أخرى تفيد بأن المنصّة الإلكترونية لا تعمل إلا عند دخولها عبر أرقام السماسرة، ما يعزز الشكوك بوجود تفاهمات غير معلنة بينهم وبين بعض الموظفين.
في المقابل، يرد أحد السماسرة المعروفين يوسف الحسن في حديث لـ "مهارات نيوز"، على أن دوره عبارة عن وساطة لا أكثر، فالمواطن لا يعرف الإجراءات ولا يجد الموظف ليساعده، بينما هو يقف أمام الدائرة طوال النهار. ويبرّر كلفته التي تبدأ من 10 دولارات وتصل أحياناً إلى 100 بأنها مرتبطة بمدى تعقيد المعاملة. ويرى أن الاستغناء عن خدمات السماسرة قد يكون ممكناً إذا عززت الدولة الرقابة وعيّنت موظفين إضافيين.
منصّة معطّلة ووعود بالمكننة
القضية لا تتعلق فقط بالسماسرة، فالمواطنون اشتكوا من منصّة إلكترونية لا تفتح إلا ثوانٍ محدودة صباحاً، ما يجعل حجز موعد لإنجاز معاملة شبه مستحيل. بعض الموظفين أشاروا إلى أن المنصة تعمل بصورة أفضل عند إدخال بيانات عبر السماسرة، الأمر الذي عزز الشعور بوجود تواطؤ، فبذلك يتحول ما كان يفترض أن يكون إصلاحاً رقمياً إلى باب إضافي للفوضى.
على الجهة الأخرى، يوضح رئيس قسم تسجيل السيارات والآليات في الشمال فهد يوسف الحزوري في حديثٍ لـ"مهارات نيوز"، أن المركز يتعامل مع نحو مئة معاملة يومياً، 90% منها تسجيل أو إعادة بيع سيارات. الضغط الكبير تفاقم بسبب نقص الموظفين (من 25 موظفاً قبل 2019 إلى 9 فقط اليوم)، إلى جانب انقطاع الكهرباء وتعطّل نظام إدخال الداتا. لكنه يكشف عن خطة إصلاحية تقوم على المكننة الشاملة للوصول إلى "صفر ورق"، بحيث تنجز المعاملة بالكامل إلكترونياً من دون حضور شخصي.
ربما لم تعد الأزمة مسألة معاملة إدارية، بل باتت تشكّل انعكاساً لضعف مؤسسي يتجاوز حدود النافعة. المواطن يُستنزف مالياً بين رسوم التأمين والفحوص السنوية وكلفة الصيانة التي قد تصل إلى 300 دولار سنوياً، وهو مبلغ يفوق قدرة معظم موظفي القطاع العام. السائقون يواجهون خيارين أحلاهما مرّ، إما قيادة سيارات غير صالحة أو ركنها والتخلي عنها، أما الثقة بالمؤسسات فتهتزّ مع كل معاملة مؤجلة أو كل رشوة تُدفع.
السلامة على الطرقات في خطر
ينبّه مؤسس جمعية اليازا للسلامة المرورية زياد عقل في حديث لـ "مهارت نيوز"، إلى أن المشكلة لا تكمن في قانون السير الصادر عام 2012 بل في غياب تطبيقه. فبينما يبقى القانون حبراً على ورق، تتزايد ضحايا الحوادث، 68 وفاة في شهر واحد فقط، بحسب أرقام الجمعية. وتشدد الجمعية على أن الحل ليس بعيد المنال، إذ إن دولاً عديدة خفّضت ضحايا السير عبر قوانين صارمة وتعاون بين الدولة والمجتمع المدني.
بين شهادات المواطنين والسماسرة والجمعيات والموظفين الرسميين، تترسخ صورة واحدة، أن تسجيل السيارة في لبنان لم يعد إجراءً روتينياً بل معاناة تعكس فوضى مؤسساتية. رسوم باهظة، منصّة إلكترونية معطّلة، نقص في الكادر البشري، وغياب التطبيق الجدي للقوانين جعلت من العملية رحلة شاقة تستنزف جيوب اللبنانيين وتهدد سلامة الطرقات. ويبقى الإصلاح الحقيقي مرهوناً بإرادة سياسية تفرض الرقابة وتعيد الثقة وتضع حداً لهيمنة السماسرة والفوضى التي ترافق تسجيل السيارات في البلاد.