في ظل الحروب والأزمات لا تكون الجرائم عسكرية وأمنية حصرًا، وإنما قد تترجم بتعنيف الفئات الأكثر هشاشة والأقل حماية في المجتمع. وهنا نتحدث تحديدًا عن النساء. هذا النوع من العنف ليس بظاهرة جديدة وإنما هو امتداد لظلم مستمر عبر السنوات، ليصل في كثيرٍ من الأحيان إلى جرائم قتل.
غالبًا ما يستغلّ المُعنّف ظروف الحرب لتصعيد عنفه ضد النساء، والذي يتراوح ما بين الضرب والتحرش والابتزاز والاغتصاب والقتل؛ وهي جرائم غالبًا ما لا يُبلّغ عنها، إما لخوف المرأة من حرمانها من أطفالها أو لافتقارها إلى الاستقلالية وإلى مجتمع يُنصفها.
آخر أوجه هذه الوحشية تجلّى خلال الحرب الأخيرة على لبنان في جريمة قتل المواطنة دارين الأحمر النازحة من قرية كفركلا إلى خلدة، وهي أمٌ لتسعة أطفال. وفقاً للتقارير الإعلامية تعرضت دارين للعنف المتكرر من زوجها، من دون إعلام أيّ فرد من عائلتها، أو حتى اللجوء إلى القضاء، إلى أن انتهت حياتها على يد زوجها وأخيه، وضاعت قصتها وسط لهيب الحرب وصخبها. وعليه، فإن حكاية هذه السيدة أكبر دليل على أن خلف الأبواب حكايات نساءٍ يعشن الظلم بصمت ويُقتلن بصمت.
ندى سيّدة أخرى، تبلغ من العمر 38 عامًا، تشارك قصتها في حوار خاص قائلة "واجهتُ أشكالًا قاسية من العنف النفسي مع زوج يرى نفسه "كتير علييّ وجائزتي الكبرى في الحياة". وتعرضتُ بسبب ذلك لشتى أنواع الإهانات من صراخ وتجريح وتهديد، وكلّ ذلك أمام طفلتيّ اللتين امتلكهما الخوف من والدهما وتمنّيتا غيابه عن المنزل".
تُكمل ندى "قبل الحرب، تعرفتُ على التجمع النسائي الديمقراطي من خلال صديقة لي، ولجأتُ إلى المركز طلبًا للدعم. هناك، تعرّفتُ على خدمات إدارة الحالة، والدعم النفسي، والمساندة القانونية، مع التأكيد على مبدأ السرية والخصوصية. وبعد موافقتي على تلقّي الدعم، اخترتُ خدمة الدعم النفسي الاجتماعي".
تتابع "لكن مع اندلاع الحرب، تصاعدت وتيرة العنف لتشمل الحرمان من الموارد، إذ منعني زوجي من مغادرة المنزل أو التواصل مع الجيران، أو شراء مستلزمات لي ولطفلتي، كما قطع تواصلي مع أسرتي، وفرض عليّ الصمت الدائم".
وتضيف ندى "الوصول إلى أسرتي أو السلطات الأمنية خلال الحرب لم يكن ممكنًا. فقد انعدمت المراكز بسبب كثافة القصف وبُعد مكان سكن أهلي عني، ففضّلتُ الاكتفاء بالدعم النفسي خوفًا على طفلتيّ من تداعيات الانفصال، على الرغم من توافر الخدمة القانونية في الجمعية، التي يديرها محامٍ متخصّص يتابع ملفات الحماية ودعاوى الناجيات".
التحديات القانونية
شهدت الفترة الأخيرة ازديادًا في حالات العنف ضد النساء من مختلف الجنسيات، خاصة في ظل ظروف الحرب التي أجبرت العائلات على العيش معًا تحت سقف واحد، وفقاً لما يؤكده المحامي محمد عراجي من التجمع النسائي الديمقراطي في حديث خاص.
هذا التغيير أثّر جذريًا على العلاقة الزوجية، وفاقم المشاكل السابقة والمتراكمة وظروف المعيشة في الحرب. ولم يكن أمام النساء، هذه المرة، سوى التضحية ببعض حقوقهن الزوجية والأسرية، خصوصًا بعد انتقالهن إلى أماكن اللجوء، سواءً أكانت مدارس أم منازل أحد المعارف".
ويتابع عراجي "حتى في الحالات التي أبلغنا القوى الأمنية بها، لم يكن باستطاعة الأمن توفير آليات مثل المداهمة أو التبليغ أو الكشف عن أماكن وقوع العنف. لم يقتصر الأمر على ظروف الحرب التي فاقمت الوضع، بل شمل أيضًا نقص الآليات المتاحة لدى مراكز قوى الأمن الداخلي، وعدم تمكن العديد من العناصر من التواجد في المخافر".
ويضيف "من التسهيلات التي قدمتها الدولة كان اعتماد الخط الساخن 1745 للإبلاغ عن العنف، وهو ما كان يفي بالغرض لاستدعاء الزوج إلى المخفر والتعهد بعدم التعرض. أما أوامر الحماية، فقد كان صدورها عن قاضي العجلة شبه مستحيل، نظرًا لعدم تمكن القضاة من التواجد في المحاكم. في بعض الحالات النادرة التي تواجد فيها قاضٍ، كان طلب الحماية يستغرق أكثر من عشرين يومًا للبت فيه، خاصة أن كاتب المحكمة كان يُضطر لنقل الملفات إلى مكان إقامة القاضي نظرًا للأوضاع الأمنية".
ويختم عراجي حديثه "إحدى المشكلات الكبرى تمثلت في عدم القدرة على متابعة بعض حالات العنف كانت بسبب وجود الزوج في منطقة ذات خصوصية أمنية، بينما تعيش المعنَّفة في منطقة آمنة. هذا الوضع كان ينعكس سلبًا على إمكانية الاستدعاء أو تنفيذ أوامر منع التعرض".
من جهتها، تشير المحامية فداء عبد الفتاح، التي تتابع ملفات لنساء معنّفات، إلى وجود تحديات كبيرة تواجه قضايا العنف الأسري، موضحة بأن هناك إشكالية في القضاء تعود إلى ما قبل الحرب، منها البطء في البت بالقضايا وآليات التعامل مع قضايا العنف الأسري. يعاني النظام القضائي من نقص في الاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين، إضافة إلى غياب المتابعة الفعّالة للتبليغات. خلال الحرب، تفاقمت هذه الأزمة وتحول الوضع إلى مأساة حقيقية في ما يتعلق بقضايا العنف الأسري.
دور القوى الأمنية في حماية النساء المعنّفات
في ما يخص دور القوى الأمنية، تؤكد المصادر الأمنية أنه "خلال فترة الحرب، ومع تزايد فترات بقاء الأشخاص في داخل المنازل، ارتفعت معدلات العنف الأسري، وتلقت قوى الأمن الداخلي عددًا من الشكاوى التي استجابت لها وفقًا للقوانين والتعليمات السارية، مع إعطاء الأولوية للحالات الطارئة".
وتشير المصادر عينها إلى أن "المزاعم حول تقاعس القوى الأمنية عن حماية النساء خلال الحرب غير صحيحة. فقوى الأمن الداخلي تعاملت مع كافة النداءات الواردة إليها من دون تأخير، وخصصت خطًا ساخنًا (1745) للتبليغ عن حالات العنف الأسري، مع إعطاء هذا الموضوع اهتمامًا خاصًا من خلال التدريبات والتعليمات المناسبة. إضافة إلى ذلك، لم ترد أي بلاغات حول تقاعس عناصر القوى الأمنية، مع وجود خط ساخن آخر (1755) تابع لوزارة الداخلية والمفتشية العامة لمراقبة هذا الأمر".
أما في ما يتعلق بالدخول إلى أماكن ذات خصوصية أمنية مثل الملاجئ، فتضيف "إن قوى الأمن الداخلي تمتلك صلاحية شاملة على كامل الأراضي اللبنانية. عند ورود أي شكوى من هذه الأماكن، تمارس القوى الأمنية صلاحياتها الكاملة وفق مقتضيات المهمة، من دون أن تشكل هذه المواقع عائقًا أمام التدخل أو التنفيذ".
العنف بالأرقام في لبنان والعالم
تزايد وتيرة العنف خلال الحرب يفتح الباب على أزمة أوسع وهي استمرار تعرض النساء للعنف الأسري على مدار السنة، على الرغم من نشر التوعية وتفعيل آليات تقديم الشكاوى ووجود قوانين حماية. فبالأرقام، وبحسب منظمة أبعاد، وحتى تشرين الأول 2024، تم الإبلاغ عن 623 شكوى تتعلق بالعنف الأسري في لبنان عبر الخط الساخن 1745، منها 525 حالة عنف جسدي، و90 حالة عنف معنوي، و3 حالات عنف جنسي، فيما كان لافتاً أن العدد الأكبر من المعتدين كان من الأزواج والآباء.
هذا الأمر ليس محصورًا بلبنان بطبيعة الحال، إذ أظهرت البيانات المتاحة التي جُمعت في تقرير بعنوان "جرائم قتل الإناث في عام 2023"، من إعداد كل من هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أنه على مستوى العالم، قُتلت 85 ألف امرأة وفتاة عمدًا في عام 2023. وارتُكبت 60 في المئة من جرائم القتل هذه (أي 51 ألفاً) على يد شركاء حميمين أو أفراد آخرين من الأسرة. وأوضح التقرير بأن 140 امرأة وفتاة تموت كل يوم على أيدي شريك لهن أو أحد أقاربهن المقربين، مما يعني مقتل امرأة واحدة كل 10 دقائق.
انطلاقًا من هذه الأرقام يمكن تسليط الضوء على التحديات التي تمر بها النساء وصعوبة التبليغ عن العنف، خاصة في ظل عدم وجود ملاجئ كافية أو إجراءات كفيلة بحمايتهن من التعرّض للإساءة مجددًا، ليبقى السؤال الأهم من يحمي النساء؟
دور المنظمات غير الحكومية
ضمن آليات الحماية، وفي ظل تزايد حالات العنف ضد النساء في لبنان، خاصة خلال الحرب، تقوم منظمة أبعاد بالتنسيق مع مختلف الجهات لضمان وصول الناجيات إلى خدمات الحماية والدعم النفسي والاجتماعي. يعتمد التنسيق مع القوى الأمنية على الإجراءات التشغيلية الوطنية للعنف القائم على الأدوار الاجتماعية، التي أطلقتها المنظمة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية. تسهل المنظمة عملية الإبلاغ بسرية، وتقدم مرافقة قانونية للناجيات، بالتنسيق مع الجهات القضائية، كما تنفذ تدريبات للعناصر الأمنية لتعزيز قدراتهم في التعامل مع الناجيات بحساسية.
علمًا أنه وبموازاة المساعدة التي تقدّمها الجمعيات والمنظمات التي تعنى بشؤون النساء المعنّفات، وفّر القانون 293/2014 حماية قانونية للنساء ضمن آلية موحّدة تضمن الحق باللجوء إلى القضاء في حالات العنف الأسري. فهذا القانون يؤمن الحماية للنساء وأفراد الأسرة من العنف من خلال إطار قانوني يشمل أنواعًا متعددة من العنف، مثل الجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي. ينص القانون على إصدار أوامر حماية فورية وتعزيز آليات التبليغ وضمان السرية، بالإضافة إلى فرض عقوبات صارمة على مرتكبي العنف، كما يركز على توفير خدمات الحماية والمساعدة القانونية والنفسية بالتعاون مع الجهات المختصة.
إذن، ورغم وجود هذه الأُطر القانونية والأمنية لحماية النساء، تبقى المحاسبة على أرض الواقع خجولة، مما يُضعف الثقة بالقضاء ويمنع النساء من التبليغ. هذا الواقع يتطلب تطبيق القانون بشكل صارم وتوفير حماية أفضل للناجيات من العنف بعيدًا عن المحسوبيات السياسية والطائفية والعشائرية والعائلية، كما يستلزم مزيدًا من الشجاعة من قبل النساء للخروج من عباءة الذكورية والتبليغ عن أيّة ممارسات تُهين كرامتهن الإنسانية.
يُنشر هذا التقرير في إطار البرنامج التدريبي حول "أسس ومبادئ التغطية الإعلامية لقضايا الأمن في لبنان" الذي نظمّته مؤسسة "مهارات" بدعم من مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن "DCAF". هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن. تم نشر التقرير في موقع النهار.