تتعمد اسرائيل في حربها على غزة وردها المتواصل على جنوب لبنان تطبيق سياسة الأرض المحروقة. وعلى طول الخط الجنوبي الموازي للحدود كانت الأحراج والأراضي الزراعية تتلقف قنابل الفوسفور الأبيض الحارقة وتحصي الخسائر الكارثية التي يتكبدها لبنان كل يوم.
يواصل عدّاد الخسائر البيئية صعوده، أكثر من 4.6 مليون متر مكعب أحرقتها القذائف والقنابل الاسرائيلية على الغابات والمساحات الخضراء الموجودة في جنوب لبنان، ما يعني أن 462 هكتار من المساحات الحرجية أصبحت رماداً وسراب، وعشرات آلاف أشجار الزيتون أصبحت محروقة على الأرض.
أمام هذه الممارسات، تعمل الحكومة اللبنانية على تقديم شكوى موثقة ضد سياسة الأرض المحروقة واستخدام الفوسفور من قبل اسرائيل وقيامها عمدًا بإحراق الأحراج والغابات اللبنانية.
وفي السياق نفسه، كانت منظمة العفو الدولية قد نشرت تقريراً أكدت فيه أن الجيش الإسرائيلي أطلق قذائف مدفعية تحتوي على الفسفور الأبيض، وهو سلاح محرق، خلال العمليات العسكرية على طول حدود لبنان الجنوبية بين 10 و16 تشرين الأول 2023.
وطالبت المنظمة بالتحقيق في عدد من هذه الاستهدافات بوصفها #جرائم_حرب، لا سيّما أنّ قوات الاحتلال كثّفت اعتمادها على قذائف #الفوسفور_الأبيَض المحرَّمة دولياً.
ماذا نعرف عن الفوسفور الأبيض؟
يعدّ الفوسفور الأبيض مادة حارقة تُستخدم غالبًا لإحداث حاجز دخاني كثيف أو لتحديد الأهداف أو حجب الرؤية. وعند تعرضه للهواء، يحترق بدرجات حرارة عالية للغاية، وغالبًا ما يُشعل الحرائق في المناطق التي ينتشر فيها.
ويعتبر استخدام الفوسفور الأبيض محظور بموجب القانون الدولي الإنساني برغم من عدم حظره عسكرياً في شروط محددة. ومع ذلك، لا يسمح باستخدامه في مناطق سكنية أو لبنى تحتية مدنية.
يشتعل الفوسفور الأبيض لدى تعرضه للهواء، حيث يتأكسد ويتحول إلى خامس أكسيد الفوسفور ويولِّد هذا التفاعل حرارة كبيرة تؤدي إلى انفجار العنصر ذاته، لينتج لهباً أصفر اللون، ودخاناً كثيفاً أبيض يدوم لمدة سبع دقائق، ويُطلق احتراقه رائحة لاذعة تشبه رائحة الثوم.
تتسبّب شظايا الفوسفور الأبيض التي تشتعل تلقائياً لحظة احتكاكها بالأوكسجين، وتنتشر على مساحة تصل إلى مئات الأمتار المربعة، بإشعال الحرائق في مناطق حرجية وزراعية واسعة.
ماذا بعد الشكوى الرسمية؟
لا يُخفي وزير البيئة ناصر ياسين في حديثه لـ "مهارات نيوز" أن المقصود اليوم من استخدام الفوسفور الأبيض في جنوب لبنان هو اعتماد سياسة الأرض المحروقة. وحتى الساعة تشير الخسائر الأولية إلى فقدان 4.6 مليون متر مربع أي ٤٦٢ هكتار من المساحات الخضراء، وتعتبر هذه الحصيلة خسارة مباشرة للأشجار المثمرة والتي تقدر بعشرات ملايين الدولار، في انتظار مسح شامل للأضرار لتحديد قيمتها الفعلية. كذلك تمّ تسجيل أكثر من 100 حريق امتدت على مساحات حرجية شاسعة ذات أهمية بيئية عالية، ناهيك عن عشرات آلاف أشجار الزيتون."
ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة، يزرع الزيتون على أكثر من 20% من الأراضي الزراعية في لبنان، ويوفر دخلًا لأكثر من 110 آلاف مزارع، بما يمثل 7% من الناتج المحلي الإجمالي الزراعي للبلاد.
وتجدر الإشارة إلى أن المساحات المحترقة تتطلب سنوات لنموها من جديد وقد تحتاج بعض الأشجار بين 5 إلى 10 سنوات لتعيش مجدداً.
وعن فحوى الشكوى التي تستعد الحكومة اللبنانية لتقديمها بحق اسرائيل، يؤكد ياسين أن هناك "فريق تقني وقانوني يعمل على توثيق كل الانتهاكات والخسائر التي طالت المساحات الحرجية في المناطق الجنوبية، ويتوقع انتهاء التقرير قبل جلسة مجلس الوزراء قبل أن يسلك مجراه إلى وزارة الخارجية. ويتضمن التوثيق المقدم على المساحات الخضراء المحروقة وأنواع الزراعات المتضررة ودراسة تأثيرات استخدام الفوسفور في المدى القريب والطويل.
كما قد تتخذ الدولة اللبنانية صفة الإدعاء وندرس كل الإحتمالات مع الخبراء القانونيين لدراستها، فالشكوى المقدمة ضد اسرائيل هي نتيجة الاعتداءات والأضرار التي سببتها وتطبيق سياسة الأرض المحروقة.
ويستذكر ياسين أنه "بعد عدوان 2006، تقدم لبنان بشكوى بعد التسرب النفطي في منطقة الجية وارتأت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن تعوض اسرائيل بدفع مبلغ 850 مليون دولار كتعويض للبنان، ولكن لم تدفع اسرائيل شيئاً لأنها لا تحترم القوانين والمواثيق الدولية. ومع ذلك، هذا لن يمنع لبنان بالسكوت عن حقه وما زال يطالب به ولن نسقط عن الحق مهما طال".
سياسة الأرض المحروقة
تسعى جمعية "الجنوبيون الخضر" منذ توتر الأوضاع في جنوب لبنان إلى توثيق كل الانتهاكات المرتبكة من قبل اسرائيل على البيئة في لبنان وتحديداً الجنوب. وبناءً على كل الصور والفيديوهات التي تنشرها على صفحتها على "إكس"، يبدو أن الخسائر البيئية والزراعية فادحة، وبعضها قد يستغرق سنوات لمعالجته حتى تعود قابلة للزرع والحياة.
ونعرف تماماً أن الحرائق الناجمة عن الفوسفور الأبيض تؤدي إلى تدمير الغابات وبساتين الزيتون على طول الخط الحدودي والبلدات الجنوبية المجاورة، والأخطر ما يترتب على ذلك من عواقب على المدى القصير والطويل.
وفي هذا الصدد، يشرح ئيس جمعية "الجنوبيون الخضر" هشام يونس في حديثه لـ"مهارات نيوز" أنه في متابعة لطريقة القصف التي تشنها اسرائيل على الغابات والأراضي الزراعية، يبدو واضحاً اصرار الاحتلال الإسرائيلي على تدمير هذه الأرض حتى بعد احتراقها، ومعاودة قصفها من جديد لضمان القضاء عليها على المدى البعيد وليس فقط القريب".
ويستذكر يونس أن الاحتلال الإسرائيلي استخدم هذا الأسلوب في حرب تموز 2006 وحتى في فترة احتلال الجنوب والذي يعتمد على سياسة العقاب الجماعي والأهم والأخطر سياسة الأرض المحروقة. "من المهم أن نعرف أن الحرائق التي تطال منطقة الجنوب اللبناني من شأنها أن تجعل المنطقة غير آهلة للسكن والعيش خصوصاً إذا كان هناك تلوث مرتفع في التربة والمياه وحرق كروم الزيتون والبساتين المثمرة، وبالتالي نرى أن جزء من أهداف اسرائيل ليس فقط حرق الغابات وإنما جعل المنطقة غير قابلة للعيش نتيجة الخلل الكبير الذي حصل في النظام البيئي".
تدمير نظام بيئي كامل
وعن الآثار الناتجة عن هذه الحرائق المتعمدة والمتواصلة للأرض نفسها، يشدد يونس على "وجود آثار قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى. وتكمن خطورة الأثار طويلة المدى في تحديد تركز حمض الفوسفوري والذي يرتبط بمدى التركز في القصف الدائم لموقع معين. وعليه، المقصود ليس حرق الأرض فقط بل تحويلها إلى أرض منكوبة بيئياً بحيث يؤدي إلى اختلال كبير في النظام البيئي".
المسألة لا تقتصر على الأشجار وانما على منطقة غنية بيولوجياً، وهي جزء من التوازن البيئي والشبكة الغذائية. ويصف يونس ما يحصل "بالكارثة الحقيقية" لاسيما أنها كانت تلعب دوراً في الخزانات الجوفية. إذ لا يوجد خزان جوفي من دون وجود أشجار التي تنظم جريان المياه السطحية. ونتيجة انعدام الأشجار، ستؤدي المياه الناتجة من الأمطار إلى انجراف التربة وعدم ذهابها لتغذية الخزانات الجوفية. وعليه، سنواجه مشكلة أخرى تتمثل بتراجع كمية المخزون الجوفي.
جميع هذه الدلائل تجعل لبنان أمام تحدي متعدد الأوجه، ولا يمكن اعتبار ما يحصل أنه مجرد حريق يطال الغطاء الأخضر، اذ ان هناك تدمير نظام بيئي كامل بشكل منهجي ومتعمد. مع خسارة أشجار من السنديان والصنوبر والبطم بالإضافة إلى الأشجار المثمرة والزيتون.
تواجه الأقضية الأربعة من كفرشوبا – حاصبيا مروراً بقضاء مرجعيون وبنت جبيل إلى الغربي في صور أضراراً كبيرة. وتعتبر المناطق الأكثر تضرراً هي المناطق الحرجية الموجودة في رميش والناقورة ومنطقة حاصبيا وتلال كفرشوبا وحلتا وأطراف الهبارية".
الإشكالية اليوم وفق يونس أن "الحرب لم تنته بعد والقصف ما زال مستمراً على المناطق الجنوبية، ما يعني استحالة تقييم الوضع البيئي والأضرارالناتجة عن القنابل الفوسفورية. لذلك نحتاج إلى اجراء مسح للأراضي لمعرفة مدى تكثف الفوسفور ( تربة وماء) في كل موقع ، وقياس درجة الترّكز في الترسبات التي تساعدنا على تحديد نقطتين أساسيتين:
1- هل الأرض ما زالت صالحة ؟
2- ما هي الجهود والطريقة التي نحتاجها للمعالجة؟
وعليه، يمكن تحديد الأضرار وكيف معالجتها وفق كل موقع، ولا يمكن الحديث اليوم عن أي تقييم نهائي قبل اجراء مسح شامل للأراضي المحروقة لرسم صورة كاملة بكل تفاصيلها.
TAG : ,اسرائيل ,غزة ,فلسطين ,جنوب لبنان ,سياسة الأرض المحروقة ,لبنان ,الأحراج ,الأراضي الزراعية ,قنابل الفوسفور الأبيض ,الخسائر البيئية ,الغابات ,المساحات الخضراء ,الحكومة اللبنانية