Loading...

مشاركة النساء في الأجهزة الأمنية... خطوة إلى الأمام تعيقها القيود البنيوية والثقافية

 

في السنوات الأخيرة، بدأت المرأة اللبنانية تشقّ طريقها نحو مجالات كانت حكرًا على الرجال، من بينها القطاع الأمني. وعلى الرغم من الخطوات الإيجابية، يبقى حضورها محدودًا من حيث العدد والموقع والدور. فالنساء موجودات، لكن في الغالب ضمن الأقسام الإدارية والمساندة، بينما تبقى المواقع الميدانية والقيادية بيد الرجال.

 

الحدث الأبرز مؤخرًا تمثّل في موافقة الحكومة اللبنانية على توظيف 500 رجل وامرأة في المديرية العامة لأمن الدولة من دون تحديد كوتا نسائية، ما أعاد طرح السؤال حول مدى التزام لبنان فعليًا بتطبيق القرار 1325 الصادر عن مجلس الأمن، الذي يدعو إلى تعزيز مشاركة النساء في الأمن والسلامة.

 

تحدّيات الميدان

تروي الرائد لارا كلاّس تجربتها كامرأة اختارت العمل الأمني بدافع الشغف والتحدّي. تقول إنها كانت تبحث عن مجال غير تقليدي يمنحها فرصة لإثبات ذاتها، وإن انضمامها إلى أمن الدولة شكّل صدمة لعائلتها في البداية، لكنها تحوّلت لاحقًا إلى فخر ودعم بعد أن أثبتت كفاءتها في الميدان والإدارة.

 

وترى كلاّس أن المرأة اليوم باتت حاضرة في معظم أقسام أمن الدولة، من الإداري إلى الميداني، "ولا يوجد أي مجال مغلق رسميًا أمامها". بعض زميلاتها طلبن شخصيّاً الانضمام إلى المهمات الميدانية لأنها تمنحهن إحساسًا بالتحدي والانتماء، إلا أنّ الفارق الوحيد يتمثل في عدم المشاركة في المناوبات الليلية "بحجة الحفاظ على الخصوصية"، ما يحدّ من اكتساب النساء خبرة ميدانية متكاملة.

 

وتشير إلى أنّ بعض المراكز القيادية الحساسة ما زالت تُفضّل أن يشغلها الرجال، ليس بسبب ضعف في الكفاءة، بل بسبب ذهنية تقليدية تحتاج وقتًا لتتغيّر. أما التمييز الصريح، فتعتبره نادرًا، لكنه يظهر أحيانًا في شكل "تمييز ناعم" يشكّك في قدرة المرأة على القيادة.

 

وتضيف أنّ التحدي الأكبر يتمثّل في التوفيق بين العمل والأسرة، في ظل غياب أي تسهيلات مؤسساتية أو حضانات تساعد النساء العاملات في القطاع الأمني. تقول: "نؤدي المهام نفسها التي يؤديها الزملاء، لكننا نعود إلى منازلنا لنبدأ دوامًا ثانيًا مع الأولاد. لا توجد بنية داعمة تراعي هذا الواقع".

 

وتختم قائلة إنّ نسبة النساء في أمن الدولة لا تتجاوز 3% من مجموع العناصر، لكنها في ارتفاع تدريجي مع كل دورة جديدة، مؤكدة أن الطريق نحو المساواة "ليس سهلًا، لكنه بات مفتوحًا، والجيل الجديد أكثر تقبّلًا لهذه التغييرات".

 

وعلى الرغم هذا التقدّم المحدود في الميدان، يبقى حضور النساء مرتبطًا إلى حدٍّ كبير بآليات القبول والتطويع داخل الأجهزة الأمنية، التي ما زالت خاضعة لإطار قانوني لم يُدرج بعد منظور المساواة الجندرية بشكل واضح. فالقوانين التي تنظّم عمليات التوظيف والتدرّج المهني، بحسب المعنيين، تشكّل نقطة الانطلاق لأيّ تغيير فعلي في تمثيل النساء.

 

 

حضور النساء وآليات القبول

يؤكّد اللواء أنور حميّة، رئيس شعبة شؤون العديد في المديرية العامة لأمن الدولة، أنّ عملية اختيار الضباط الجدد تخضع لمسار قانوني وإداري دقيق يستند إلى القانون رقم 17 والمرسوم رقم 2661 اللذيّن يحدّدان شروط وآليات التطويع في الأجهزة الأمنية.

 

ويشير حميّه إلى أنّ القانون رقم 17 لعام 1990، الذي ينظّم شؤون قوى الأمن الداخلي، والمرسوم رقم 2661 الصادر عام 1985 لتنظيم المديرية العامة لأمن الدولة، يضعان الإطار العام للتطويع من خلال شروط تتعلق بالجنسية اللبنانية منذ أكثر من عشر سنوات، واللياقة البدنية والنفسية، وحسن السلوك، والمستوى العلمي المطلوب بحسب الرتبة.

 

كما تحدد النصوص آلية دقيقة تبدأ بإعلان الحاجة إلى التطويع، مرورًا بالفحوص الطبية والاختبارات الخطية والبدنية، وصولًا إلى صدور قرارات التعيين بمرسوم بناءً على اقتراح المدير العام وموافقة مجلس القيادة. ويؤكد أنّه لا يرد في أيٍّ من هذين النصين ذكرٌ صريح لكوتا نسائية، إذ إنّ قبول النساء يتم وفق الشروط والمعايير نفسها المطبَّقة على المرشحين الذكور، مع مراعاة الفروقات الطبيعية في الفحوص البدنية.

 

تبدأ العملية عندما تُعلن الكلية الحربية عن فتح باب التطويع، فتتقدّم المديرية بطلب رسمي إلى رئاسة الحكومة لتحديد حاجتها من الضباط الجدد. بعد الموافقة، تُحال الملفات إلى قيادة الجيش التي تتولّى إدارة مختلف مراحل الاختبارات، من الفحوص الطبية والنفسية إلى اللياقة البدنية والامتحانات الخطّية.

 

ويشرح حميّة أنّ أمن الدولة يشارك في هذه العملية عبر إرسال ممثّل عنها للتنسيق مع قيادة الجيش، بما يضمن سير الإجراءات ضمن القنوات الرسمية وبمعايير موحّدة. كما تُجرى جميع الامتحانات الخطّية والاختبارات التقنية بطريقة تضمن المساواة بين المرشحين والمرشحات، إذ تُغلق أوراق الامتحان ولا تُذكر عليها الأسماء، ما يجعل التصحيح يتمّ بشكل محايد تمامًا ومن دون معرفة هوية المتقدّمين.

 

أما في الاختبارات البدنية، فتُراعى الفروقات الطبيعية بين النساء والرجال من خلال معايير منفصلة تقيس الكفاءة بالنسبة إلى القدرات المطلوبة لكل فئة، من دون الإخلال بمبدأ العدالة أو المعايير المهنية.

 

ويعترف حميّة بأنّ مشاركة النساء في لجان الامتحانات تكاد تكون شبه معدومة، مشيرًا إلى أنّ النقص في عدد الضابطات داخل الجهاز يجعل من الصعب إشراكهن في اللجان التقييمية أو الإشرافية. ولهذا، عندنا تقوم المديرية العامة لأمن الدولة بإجراء إمتحانات للتطويع للرتباء والأفراد إلى هذه المديرية، تستعين بطبيبات مدنيات فقط في الفحوصات الخاصة بالمرشحات، نظرًا للحاجة إلى وجود عنصر نسائي في هذه المرحلة من الاختبارات.

 

ويُبرز هذا الواقع أنّ غياب النساء عن اللجان المختصّة باختيار المرشحين الجدد يرتبط بقرار إداري وكذلك بخلل بنيوي في التوازن الجندري داخل المؤسسة الأمنية، مما يحدّ من إدماج المنظور الجندري في آلية الاختيار.

 

الكوتا النسائية والفجوة البنيوية في الإدماج

 

يقرّ حميّة بوجود ثغرات لوجستية تعيق المساواة الفعلية، إذ لم تتمكّن أمن الدولة حتى اليوم من توفير البنية التحتية اللازمة لدمج النساء في الخدمة الميدانية على قدم المساواة. فالمؤسسة تفتقر إلى مراكز مخصّصة للمبيت أو مرافق مجهّزة للنساء خلال المهمات الطويلة، مما يدفعها إلى استبعادهن عن بعض الخدمات الليلية والمناوبات.

 

ويؤكد حميّة أنّ هذا الأمر لا يرتبط بقدرات النساء، بل بواقع اجتماعي لم يتقبّل بعد فكرة وجود امرأة في مركز مختلط. لكنّ هذه المقاربة، وإن جاءت بدافع الحماية، تؤدي عمليًا إلى تقييد فرص التقدّم المهني للنساء وإبقائهن في الأدوار الإدارية.

 

أما بالنسبة إلى الكوتا النسائية، فيوضح أنه لا توجد نسبة قانونية ثابتة تُفرض مسبقًا، لأن عدد المتقدّمات يختلف من دورةٍ إلى أخرى. إلا أن المديرية تعتمد نسبةً واقعية شبه ثابتة تقارب 25% من العدد الإجمالي، تُحدَّد وفق القدرة التشغيلية وطبيعة المهمات المطلوبة، ويصفها بأنها محاولة لتحقيق توازنٍ عملي أكثر منها سياسة تمكينٍ واضحة.

 

وفي هذا الإطار تؤكد أيضًا ميشلين مسعد، المديرة التنفيذية للهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، أن الكوتا النسائية ليست هدفًا بحدّ ذاتها، بل أداة مرحلية لكسر الذهنية التقليدية وتقبل وجود المرأة في مواقع صنع القرار، مؤكدة أن "الإنصاف من شأنه إزالة العوائق التي تمنع المرأة من أداء مهامها بفعالية".

 

نحو مقاربة مؤسساتية شاملة للمساواة الأمنية

توضح ميشلين الياس مسعد، المديرة التنفيذية للهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، أن تعزيز مشاركة النساء في المؤسسات الأمنية يشكّل "هدفًا محوريًا في الإستراتيجي الوطنية للمرأة 2022–2030 وفي الخطة الوطنية لتطبيق قرار مجلس الأمن 1325  حول المرأة والسلام والأمن".

 

وتشير إلى أن الهيئة، من خلال شبكة "ضباط وضابطات الارتكاز الجندري" في الوزارات والأجهزة الأمنية، تعمل على "تعميم ثقافة المساواة بين الجنسين وتضمين احتياجات النساء في الخطط والسياسات العامة"، مؤكدة أن التعاون بين الهيئة والمؤسسات الأمنية والعسكرية أثمر خطوات ملموسة، أبرزها إنشاء قسم النوع الاجتماعي وإطلاق سياسة للوقاية والاستجابة ومعاقبة التحرّش الجنسي والعنف الأسري في الجيش اللبناني بالشراكة مع الأمم المتحدة للمرأة والسفارة النرويجية.

 

وعلى الرغم من هذا التقدّم، تؤكد مسعد أن تعزيز مشاركة المرأة في القطاع الأمني والعسكري لا يزال يواجه تحديات منها الثقافة السائدة التي تحصر هذا القطاع بالرجال ولا تتقبل أحياناً وجود النساء في مواقع صنع القرار، وغياب التجهيزات اللوجستية التي تستجيب لاحتياجات النساء في هذا القطاع.

 

طريق طويل نحو أمنٍ شاملٍ للجميع

تُظهر تجربة النساء في أمن الدولة أن التقدّم ممكن، لكنه لا يتحقّق من تلقاء نفسه. فتمكين المرأة في القطاع الأمني لا يقتصر على فتح الأبواب أمامها، بل على إعادة تصميمها لتكون صالحة لعبور الجميع على قدم المساواة.

 

المطلوب اليوم إرادة مؤسساتية تترجم المساواة من النصوص إلى الممارسة، وتحوّل المشاركة النسائية من استثناءٍ إلى قاعدة. فالأمن الشامل لن يتحقّق إلا عندما تصبح المرأة، بكل طاقتها وخبرتها، جزءًا أصيلًا من منظومة الحماية وصنع القرار، لا تفصيلًا رمزيًا على هامش المؤسسة.