بأثوابهن البيضاء وبعتادهن الكامل، تخرج النساء إلى المواجهة، فالحرب ضد كورونا تستلزم منهن حضورهن الكامل للفوز فيها. لطالما اعتادت النساء على المواجهة، وخضن وما زلن حروبًا ضد القوانين والتقاليد والمجتمعات الظالمة من أجل البقاء. في حرب الكورونا، المواجهة ايضا تتطلب تصدّر الصفوف الأمامية.
تشكّل النساء الفئة الأكبر من العاملين في أنظمة الرعاية الصحية، مهنة التمريض تحديدًا. عالميًا، تبلغ نسبة النساء من القوى العاملة الصحية والاجتماعية حول العالم 70 في المائة، ويتركز جزء كبير من هذه النسبة في مجالي التمريض والقبالة. إلا أن هذه الأرقام ليست كافية، فالطلب على الممرضين والممرضات في ارتفاع مستمر، إذ سيكون العالم بحاجة إلى 9 ملايين عامل وعاملة إضافيين في مجالي التمريض والقبالة إذا ما كنا نصبو إلى تحقيق التغطية الصحية الشاملة بحلول عام 2030، بحسب منظمة الصحة العالمية.
في لبنان، من أصل 16356 ممرضة وممرضة، يبلغ عدد الممرضات 13 ألف عاملة أي بنسبة 79.52 % بحسب إحصاءات نقابة الممرضين والممرضات لعام 2019. أماكن العمل ليست محصورة بالمستشفيات فقط، بل تتوزع على المستوصفات والمراكز الصحية والمدارس والشركات وتقديم اللقاحات لذلك قد يكون العاملون في هذه المهنة مصدر الرعاية لمجتمعاتهم.
نظرة المجتمع إلى الممرضين والممرضات
لطالما اشتكى العاملون والعاملات في مهنة التمريض من نظرة المجتمع السلبية، إذ ينظر إلى جهودهم كواجب لتأمين خدمات الرعاية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تعامل المرضى معهم حيث يُنظر إليهم كآلات لتنفيس الغضب. كثيرًا ما تعاني النساء الممرضات من هذ النظرة، تقول الممرضة ر.ق. في حديثها لـ "مهارات نيوز" " نحن نعطي الأولوية لصحة المريض ونبديهم على صحتنا، نعمل لساعات متواصلة وطويلة، لا يمكننا أحيانًا الجلوس، لكن النظرة إلينا كأنهم ”مالكينا"، حيث يصبون جام غضبهم علينا، إذ يأتي المريض وذويه بحالة متوترة وعصبية بسبب الوضع الصحي، وينفعلون علينا كأننا السبب من دون احترامنا".
وليس هذا وحده، "تتعرض سمعة الممرضة للتشويه من مجتمعها بفعل خروجها أو عودتها ليلاً بسبب دوامها الصعب من دون أن يعوا صعوبة عملنا" وأحيانًا كثيرة ما نتعرض للتحرش داخل وخارج عملنا.
مصاعب هذا العمل كثيرة، بدءًا من الدوامات الصعبة والطويلة، مشقة العمل والتواصل مع المرضى والناس، تدني المعاشات إذ تتراوح بين 700 ألف للمتعاقدين، ومليون إلى مليون 500 للمثبتين، مزاجية المستشفيات وأصحاب العمل لاسيما في القطاع الخاص، الحرمان من قضاء الوقت والأعياد مع العائلة. كل هذه الصعوبات تعاني منها العاملات في هذا القطاع دون أن يعلو الهدف الأسمى وهو العمل الإنساني.
تقول زينات علاء الدين العاملة في مستشفى رفيق الحريري لـ "مهارات نيوز" أنها تعمل في مهنة التمريض منذ أكثر من 8 سنوات اختارتها بسبب حبها لها وللعمل الإنساني الذي تقوم عليه. تضطر زينات أحيانًا إلى النوم في العمل وترك عائلتها ليلاً، إلا أن العمل فيها يجعلها فخورة، لاسيما في ظل هذه الظروف وفي ظل انتشار وباء كورونا". هي سعيدة بكل التقدير التي تحصل عليه من الدولة والمواطنين لوقوفها في الصفوف الأمامية، إلا أن التقدير الحقيقي هو حصولها على حقوقها من سلسلة الرتب والرواتب.
زينات اليوم لا تزور عائلتها ولم تر والدها المريض منذ بدء انتشار الوباء وتحزن لعدم رؤية أولاد اخوتها.
انتشار وباء كورونا أعاد لهذه المهنة اعتبارها وقد أظهر للناس جميعًا أهمية ما يقوم به العاملون والعاملات في هذا القطاع في محاربتهم للوباء والموت.
تقدير المجتمع ظهر بشكل كبير لهذه المهنة التي لولا الجهود المبذولة ما كان يمكن البقاء على قيد الحياة. صور الممرضون والممرضات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، كمية الحب والتقدير كبيرة وحجم المساندة لهذه المهنة ارتفع. وإن كانت النظرة تغيرت الآن، إلا أن هناك نظرة أخرى سادت اليوم بسبب كورونا، ألا وهو الخوف من هذه الفئة بسبب بقائهم في المستشفيات، واعتبارهم مصدرًا لنقلهم الفيروس، فصار يُنظر إلينا "كزومبي يخشى الناس الاقتراب منا أو التحدث معنا" تقول ر.ق.
تجهيزات المستشفيات
أولت المستشفيات الخاصة والحكومية اهتمامًا بالغًا بصحة المواطنين والعاملين لديها، ومارست إجراءات وقائية عديدة للحد من سرعة انتقال الفيروس، إلا أن هذا قابله إجراءات مهنية بحق الممرضين والممرضات العاملين لديها. عدد من المستشفيات قامت بتقليص الطاقم الطبي واتباع نظام المداورة في العمل الأمر الذي انعكس ضغطًا في العمل، في حين عمدت بعضها إلى اقتطاع جزء من الراتب وصل إلى 30 في المئة طالت فئة المتعاقدين أو منحهم نصف راتب.
ع. ج. إحدى الممرضات العاملات في مستشفى في صيدا قالت لـ "مهارات نيوز" أن المستشفى أقامت دورات تدريبية لكيفية الحماية من الفيروس، وأرجأت العمليات الجراحية غير المستعجلة، ولم تعد تستقبل المرضى في قسم الطوارئ إلا بعد مرورهم إلى غرفة خارج المبنى يتم التحقيق فيها مع المريض والكشف المسبق عليه. وقسّمت فريق الممرضين إلى فرق يعملون فيها 7 أيام في الأسبوع متواصلة والتوقف عن العمل لمدة 14 يوم. هذا الاجراء تم الغاؤه بعد رؤية المشفى التكلفة المالية الباهظة وأعادت تقسيم الفرق إلى 4 أيام للمناوبة من قبل فرق الممرضين". هذه الممرضة كانت سابقًا تعمل في فريق من 3 ممرضين في طابق خاص يستوعب 13 مريضًا وكانت تهتم برعاية 4 مرضى، اليوم صارت تعمل مع ممرضة أخرى فقط مع استلامها ل 6 مرضى.
القلق الأكبر اليوم الذي تعيشه هو انتقال العدوى لديها من أحد المرضى الذي لم تظهر عليه العوارض بعد. هذه الممرضة متعاقدة مع مستشفى خاص في صيدا، تحمل إجازة تمريضية من الجامعة اللبنانية إلا أن معاشها لا يتخطى المليون ليرة في الوقت الذي يرتفع الراتب في المستشفيات الحكومية.
الحال مشابه لدى ج.ش التي تعمل كممرضة متعاقدة في مشفى خاص، حيث قامت إدارة المشفى إلى اقتطاع نصف راتبها الشهري وتخفيض عدد ساعات العمل. تصف ج.ش. السياسة الجديدة لإدارة المستشفى بالظالمة والمجحفة، ولا حل أمامها سوى الرضوخ للواقع الجديد فالعمل أفضل من المكوث في المنزل. وبحسب ج.ش. أن إدراة المشفى بررت الإجراء الجديد بعدم توفر المال والواقع الاقتصادي الكارثي.
العمل في المستشفيات الحكومية له مميزاته لناحية الراتب المرتفع نسبيا، حيث يبدأ أساس الراتب ب مليون و20 ألف بينما في المستشفيات الخاصة يخضع الراتب الشهري لسياسة إدارة المشفى.
عوامل عدة تتحكم في حصول العاملين في مهنة التمريض على راتب جيد وامتيازات إضافية، منها طبيعة المستشفى إذا كانت خاصة أو حكومية، المنطقة التي تقع فيها المستشفى حيث ينخفض الراتب في المستشفيات في المناطق البعيدة عن بيروت.
وليس هذا فقط، فقد طالت الأزمة الاقتصادية هذا القطاع. بحسب نقابة الممرضين والممرضات فإن " عدد كبير من العاملين في المهنة لم يتقاضى رواتبه منذ عدّة أشهر، وعدد من المستشفيات لم تطبّق سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام، واليوم بدأت بإجراءات قاسية جدًا كدفع نصف راتب أو حتى الاستغناء تعسفيًا عن الممرضات والممرضين .
المرأة في الأماكن القيادية
على الرغم من سيطرة النساء على هذا القطاع، إلا أن الممرضات حتى اليوم لا يستطعن المشاركة في اتخاذ القرارات الإدارية، إذ يُناط بهن تقديم خدمات الرعاية مع حرمانهن من إبداء الرأي في الإجراءات التي تمسهن شخصيًا، بحسب الممرضة ع. ج. العاملة في إحدى مستشفيات صيدا " أن القرار نتبلغه من الإدارة بعد الاجتماع مع كافة الأقسام ونحن علينا التنفيذ، ولا يتم استشارتنا بالقرارات الصادرة عن الإدارة حتى لو كانت تعنينا بشكل مباشر".
بدرورها، تقول ر.ق. أن " الإدارة تتخذ الإجراءات التي تراها مناسبة لها، من دون الأخذ بعين الاعتبار رأينا الشخصي. يمكن استشارتنا أحيانا في آلية وضع الدوامات ليس أكثر. وفي حال أردنا الاعتراض يُطلب الينا التقدم بشكوى في صندوق الشكاوى وبالتأكيد لن يتم النظر فيها".
في إحدى المستشفيات الحكومية، قررت إدارة المشفى منح الممرضات المتعاقدات عطل تخصم من رواتبهن أو العمل بساعات أقل، في الوقت الذي زاد الضغط على باقي الممرضات مع ساعات العمل والعناية بالمرضى من دون الرجوع إليهن. هذا واحد من القرارات التي تحدثت عنها ممرضة لـ "مهارات نيوز" موجزة الأمر "بأن رأينا لن يقدّم ولا يؤخر".
استلام الممرضة لمناصب عالية في المستشفى يخضع غالبًا للكفاءة إلا أن هناك عوامل أخرى تتحكم بذلك منها الواسطة، وهذا ما تؤكده الممرضة ر.ق. التي أسرّت لـ" مهارات نيوز" حيث أن الواسطة تلعب دورًا كبيرًا في حصول المرأة على منصب في عملها.
وبما أن غالبية هذا القطاع من النساء، فإن المرأة تستطيع تبوّؤ مناصب في مكان عملها، وقد أكد سامر نزال رئيس "لجنة موظفي وأجراء مستشفى رفيق الحريري" لـ "مهارات نيوز" أن أغلب رؤساء المصالح في مستشفى رفيق الحريري هم من النساء.
من وجهة نظر نقيبة الممرضين والممرضات ميرنا ضومط لـ "مهارات نيوز"، فإن إشراك الممرضات هو أمر نظري، لكن عند اتخاذ القرارات، الإدارات لا تشرك أحد، وحده الوضع المالي من يقرّر من دون الأخذ بعين الاعتبار مصلحة العاملين والعاملات، كما أن أغلب مديرات ومدراء التمريض لا يقومون بفرض مطالب الموظفين، إذ يُنظر إليهم على أنهم الحلقة الأضعف. ترى ضومط أن "التضامن بين المدراء في المستشفيات من شأنه رفع مطالب الموظفين والموظفات، وتحويل هذه الفئة العاملة إلى الحلقة الأقوى، إلا أن القطاع الخاص المتمكن من هذه الفئة وسيطرة النفوذ والسياسة على إدارات وأقسام المستشفيات يحول دون ذلك".
آثار عدم اشراك الممرضات في صوغ السياسات والقرارات له آثار وتداعيات كبيرة على الجسم التمريضي من جهة وعلى الوضع الصحي في لبنان ككل. بحسب ضومط فإن هذا الأمر يؤثر على كافة المستويات، ماديًا، معنويًا، نفسيًا ومهنيًا. وهذا ما يجعل المرأة تتخلى عن مهنتها في آخر المطاف، والبحث عن مكان عمل في بلد آخر في الوقت الذي يرتفع الطلب على العاملين في هذه المهنة في لبنان، وحاجة هذا القطاع للعاملين في تزايد مستمر".
بحسب منظمة الصحة العالمية، تشكل النساء قرابة 90 في المائة من مجموع كادر التمريض، غير أن قلة منهن يتقلدن مناصب قيادية عليا في مجالهن، حيث يحتل الرجال معظم هذه المناصب. غير أن تمكين الممرضات من تقلد أدوار قيادية من شأنه تحسين ظروف عمل كادر التمريض. وقد أوصى التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية بضرورة استحداث مناصب قيادية في مهنة التمريض، من بينها منصب كبير الممرضين/الممرضات على المستوى الحكومي ودعم تنمية المهارات القيادية في صفوف الشباب من الممرضين والممرضات.
TAG : ,corona ,covid-19 ,لبنان ,الممرضات ,منظمة الصحة العالمية