بين خزّانات مهترئة وتلوّث نفطي قديم، تتفاقم الأزمة البيئية والصحية بصمت في منطقة البداوي شمال لبنان، فيما يحاول السكان التأقلم مع واقع صعب في ظلّ غياب حلول جذرية. شهاداتهم تنقل صورة صادقة عن معاناة مستمرة، وتدق ناقوس الخطر لضرورة التحرّك نحو معالجات مسؤولة تضمن أبسط الحقوق: مياه نظيفة وآمنة.
"نحن نشرب المرض كل يوم"، بهذه الكلمات يختصر أحمد (إسم مستعار) من سكان المنطقة واقعًا قاسيًا تعيشه العديد من العائلات، مشيرًا إلى أن المياه التي تصلهم عبر صنبور المياه تنبعث منها رائحة الكاز بشكل دائم، ومع ذلك تبقى المصدر الوحيد المتاح. ويضيف "نشرب منها ونستخدمها لإعداد طعامنا، لأنه ليس لدينا قدرة لشراء مياه معبّأة أو لطلب صهاريج مياه نظيفة".
في المقابل، هناك من يحاول حماية نفسه وعائلته، إذ يعتبر هذه المياه غير طبيعية وغير نظيفة على الإطلاق، "لذلك أنا وعائلتي نتجنب استخدامها للشرب أو الطهي حفاظًا على صحتنا"، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى أن الأزمة لا تقف عند هذا الحدّ، "فالوضع الاقتصادي المتدهور وارتفاع أسعار المياه البديلة يجعل الوصول إلى مصادر مضمونة للنظافة مسألة في غاية التعقيد، خصوصًا للأسر ذات الدخل المحدود".
وفي مشهد يعكس التكيّف مع الخطر، تقول منى (إسم مستعار) من سكان المنطقة "فقدت الأمل بموضوع تنقية المياه أو تحسينها، وبت الآن أشرب منها، أطبخ وأستحمّ فيها"، وتضيف أنها قد اعتادت هذا الوضع "رغم أني أحيانًا بشوف الميّ سوداء بعيني داخل الخزان".
شهادات كهذه تضيء على جانب مظلم من أزمة تلوث المياه في لبنان، حيث يتحوّل الخطر البيئي إلى جزء من الحياة اليومية، في ظلّ غياب سياسات فعّالة تضمن الحدّ الأدنى من الحق في مياه آمنة وصالحة للاستخدام.
في السياق، يوضح دكتور عبدالله خير الدين الحسن المرعبي، وهو طبيب متخصص في الصحة العامة والطوارئ، أن "المياه التي تحتوي على الفيول تؤذي الكائنات البحرية والحيوانية والطبيعة والإنسان على حدّ سواء".
ويُشدّد على أن استخدام الإنسان لهذه المياه الملوثة بالنفط، سواءً للاستحمام أو للطبخ أو لأي غرض يومي، يُعدّ "كارثة طبيعية بحدّ ذاتها"، نظراً لاحتوائها على مواد خطيرة، أبرزها مركب Benzopyrene، الذي يُعد ساماً وقادراً على قتل الكائنات الحية، كما يؤثر على لون المياه، ويتسبب بموت الطحالب في البحر، ويؤدي إلى أمراض سرطانية لدى الإنسان.
ويُضيف دكتور المرعبي، أن "التعرّض المتكرر لهذه المياه الممزوجة بالفيول والمشتقات النفطية يمكن أن يؤثر بالدرجة الأولى على الجهاز العصبي والجهاز التنفسي، وأيضاً على الجلد نتيجة الاحتكاك المباشر بها". أما العوارض الظاهرة، فيُشير إلى أنها تبدأ عادة بـ"طفح جلدي، أو حكّة جلدية، أو ظهور بقع حمراء وتهيّج في البشرة"، أما في الحالات الأكثر تقدماً، فقد يظهر التسمم على شكل "خسارة سوائل من جسم الإنسان، مع حالات استفراغ وارتفاع حرارة شديدة".
وبالنسبة للفحوصات الطبية المطلوبة في حال الشك بالتسمم، يُوصي دكتور المرعبي بإجراء تحاليل مثل Gazométrie ISO وCBC لفحص الدم، إضافة إلى فحوصات البوتاسيوم، الكالسيوم، والمغنيزيوم، وصور أشعة للصدر.
ويُضيف محذراً، "إن غلي المياه لا يجدي نفعاً لفصل المواد عن المياه، لأن هناك طرقاً محددة للفلترة وفصل الأجزاء النفطية عن المياه الطبيعية". ويختم دكتور عبدالله نصيحته بالتأكيد على "ضرورة التوجّه الفوري إلى أقرب مركز طبي في حال تعرّض أي شخص لهذه المياه أو ظهور أي من العوارض".
نتائج "كارثية"
وبنتيجة متابعته للأزمات البيئية في لبنان، من خلال إعداد ونشر عدد من الدراسات والمقالات العلمية والميدانية، ولا سيما حول تلوّث المياه الجوفية في مناطق: البداوي، دير عمار والمنية، يرى الخبير البيئي ومدير مختبر علوم البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية، دكتور جلال حلواني، أن نتائج الدراسات الميدانية "كارثية" خصوصاً في منطقة البداوي، فعند التعمق أكثر في الأسباب تبيّن أن أحد أهم أسباب تلوث المياه في المنطقة كان نتيجة القصف لخزانات النفط الموجودة في منطقة البداوي وعلى حدود مشارف دير عمار. وهذه الخزانات موجودة حتى الآن وشاهدة على هذه الجريمة البيئية.
ويشرح حلواني بالتفاصيل كيف أن المشتقات النفطية الموجودة في الخزّانات كانت تنساب إلى التربة نتيجة القصف، وكيف أن هطول الأمطار يؤدي إلى إنتقال هذه الملوثات الموجودة في التربة لتختلط مع المياه الجوفية. ويُضيف "كل المنطقة الموجودة على يمين الخط الدولي صعوداً إلى منطقة دير عمار هي منطقة تربتها مشبعة بالمواد الكيميائية إلى الآن، والمياه الجوفية ملوثة طبعاً بهذه المشتقات النفطية وليست صالحة للشرب وبالتالي الأرض ليست صالحة للاستغلال الزراعي".
ووفق دكتور حلواني فإن وزارة الطاقة كانت قد قامت بحفر آبار في المنطقة كان من المفترض استغلالها ولكن تبيّن أن التربة متأثرة بهذا التلوث وتمّ الاستغناء عنها. وبسبب التلوث الكبير تُعتبر هذه المنطقة موبوءة بالكامل، ولكي يعود الوضع إلى طبيعته فيها يحتاج علمياً على الأقل 50 سنة ليتم غسل كل الترسبات بالكامل ولتصبح التربة والمياه صالحة.
لمحة تاريخية عن منطقة البداوي
البداوي كانت تُصنّف المنطقة الصناعية الأساسية لطرابلس، وتضم منشآت نفط العراق (IPC – Iraq Petroleum Company) التي تأسست في خمسينيات القرن الماضي. وكان يُنقل النفط العراقي من كركوك إلى طرابلس، ويُخزّن في خزانات ضخمة بين منطقتي دير عمار والبداوي. وتم تكرير 10% من النفط في مصفاة طرابلس، لتأمين حاجات السوق اللبنانية والسورية، فيما كان يُنقل 90% من النفط الخام مباشرة إلى أوروبا وأميركا.
وبما أن منطقتي البداوي ودير عمار صنّفتا كمناطق صناعية من الفئة الأولى، كان يُمنع السكن فيها لحماية السكان من المخاطر الصحية والبيئية، إلا أن الحرب اللبنانية والفوضى الناتجة عنها، سمحت بانتشار سكن عشوائي في محيط الخزانات والمصفاة، ما وضع عوائق كبيرة أمام إمكانية تأهيل المنشآت النفطية أو إعادة تشغيلها.
ومع اكتشاف الغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، يرى دكتور حلواني أن ثمة فرصة لإحداث نهضة اقتصادية حقيقية، بشرط الالتزام الصارم بتطبيق القوانين البيئية، وفي مقدمتها "تقييم الأثر البيئي" الذي أصبح شرطاً أساسياً قبل أي مشروع صناعي أو استثماري. ويشدد على أهمية احترام معايير المسافات الآمنة، واقتراح تخصيص شعاع حماية لا يقل عن 2.5 كلم² حول المنشآت الصناعية، مع تأمين مساكن بديلة ومواصلات للعاملين.
وينصح دكتور جلال، بضرورة الفصل بين المناطق السكنية، الصناعية، الزراعية، والسياحية، وأن يكون هناك تكامل وتخطيط عمراني بين منطقتي طرابلس والبداوي وسكانها، الذين شكلوا دائماً جزءاً لا يتجزأ من نسيج المدينة. ويضيف "الفرصة الاقتصادية التي تنتظر طرابلس والبداوي، وربما الشمال كله، يجب أن تكون مشروطة بالتنمية المستدامة والحفاظ على البيئة والصحة العامة، وهو ما يفتح الباب أمام خلق آلاف فرص العمل وتحقيق ازدهار طال انتظاره".
وأخيراً، أزمة مياه البداوي ليست جديدة ولكن ظروف الناس الإقتصادية الصعبة تعيدها للواجهة. ويبقى الأمل معلقاً على صحوة بيئية تبدأ من صوت الناس وتنتهي بإرادة دولة.