كثيرةٌ في لبنان هي الملفات التي تُفتح ثم تُغلق، وتُقرّ نظريًا ثم تُهمل عمليًا، ومن بين هذه الملفات تشريع القنّب الهندي للاستخدام الطبي والصناعي، الذي أُقرّ عام 2020 بموجب القانون رقم 178، ليُترك جانبًا لخمسة أعوام قبل أن يُعاد إحياؤه في العهد الجديد، مع تعيين الهيئة الناظمة للقطاع منتصف تموز 2025 برئاسة داني فاضل.
عمليًا، شُكّلت الهيئة الناظمة لتطبيق هذا القانون الحساس أخيرًا، لكن المسار لا يزال في بداياته، ويتطلّب منظومة رقابية صارمة تضمن الحوكمة والشفافية. فأيّ تساهل أو إهمال في التنفيذ قد يُخرج هدف تشريع هذه الزراعة وحصرها بالإطار الطبي والصناعي عن مساره، وقد يُطفئ الأمل بعائدات اقتصادية قد نجنيها من خلاله.
بالعودة إلى العام 2019، وفي سياق إعداد رؤية اقتصادية للبلاد تمتدّ لخمس سنوات، اقترحت دراسة "ماكنزي" تشريع زراعة القنّب الهندي لأغراض طبيّة، مُقدّرةً أن تصل الإيرادات السنوية منه إلى نحو مليار دولار. اليوم، وبعد مضيّ سنوات على هذا الطرح، تُطرح علامات استفهام عديدة حول واقعيّة هذه الجدوى الاقتصادية: فهل ستُشكّل زراعة القنّب بالفعل رافعةً لاقتصادٍ يرزح تحت الأعباء المتراكمة؟ وما مدى القدرة على ضبط استخدامه وحصره في القطاعين الطبي والصناعي؟ ثمّة من يسأل أيضًا: هل جُهّزت آليات رقابيّة فاعلة لمواجهة أيّ انحراف أو استغلال خارج الإطار المشروع؟
الهيئة الناظمة: آليات رقابيّة في مواجهة المخالفات
تُعدّ الهيئة الناظمة لزراعة القنّب الهندي للاستخدام الطبي والصناعي المرجعيّة الأساسيّة في تنفيذ القانون وضمان حُسن تطبيقه، إذ أُوكلت إليها مهام تنظيمية ورقابية واسعة تُتيح لها الإشراف الكامل على المشروع بمراحله المختلفة. وتشمل المهام الرئيسة للهيئة بحسب القانون إعداد الأنظمة الداخلية والمراسيم التطبيقية التي تُترجم نصوص القانون إلى آليات تنفيذية واضحة، بالإضافة إلى تنظيم عمليات منح التراخيص وتجديدها أو إلغائها للمزارعين والشركات والمصانع والمختبرات العاملة في زراعة القنّب أو تصنيعه، بما يضمن الالتزام بالأطر القانونية والمعايير المعتمدة.
ومن أبرز صلاحيات الهيئة كذلك تحديد الأصناف والبذور المسموح استخدامها، بما يتماشى مع المعايير الدولية المعترف بها، ومراقبة دخولها إلى الأراضي اللبنانية. ولا تقف مسؤوليتها عند هذا الحد، بل تمتد لتشمل الإشراف على سلسلة القيمة الكاملة، بدءًا من تحليل التربة والمياه قبل الزراعة، ثم مراقبة مختلف مراحل الزراعة والإنتاج والتوضيب، وصولًا إلى مراقبة عمليات التصنيع والتحويل الصناعي، فالتسويق، مع تحديد المواصفات الفنية الدقيقة للمنتجات القنّبية التي تُستخدم لأغراض طبية أو صناعية.
وحرصًا على استدامة هذا المشروع وتطويره، تُكلَّف الهيئة بإعداد دراسات اقتصادية وتقنية تهدف إلى تعزيز بيئة الاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال، بالتوازي مع التنسيق الدائم مع الوزارات المعنية والأجهزة الأمنية لضبط أي مخالفات، وضمان التقيّد الكامل بالقانون. كما تشرف الهيئة على إدارة نظام التتبع الإلكتروني المعروف بـTraceability System ، الذي يسمح بتتبع مسار الإنتاج منذ البذور الأولى وحتى المنتج النهائي، ما يرسّخ الشفافية والمساءلة.
أما فيما يتعلّق بآليات منح التراخيص، فتُعتمد مجموعة من المعايير المتعددة الأبعاد. من الناحية القانونية، يُشترط أن يكون طالب الترخيص من الجنسية اللبنانية، وغير محكوم عليه بجرائم تتعلق بالمخدرات أو بجرائم جنائية. على المستوى التقني، يُؤخذ في الحسبان توافر أراضٍ زراعية مناسبة مدعومة بتحليل علمي للتربة، إلى جانب الالتزام الصارم بشروط الأمن الزراعي والصناعي. وفي ما يخص المعايير الاقتصادية، يُشترط وجود خطة استثمارية واضحة وقدرة فعلية على تلبية متطلبات الجودة والتصدير إلى الأسواق.
أما من حيث الشفافية، فتتّبع الهيئة آلية واضحة، تتجسّد بتنظيم مباراة أو تقييم معلن للطلبات، ونشر النتائج بشكل رسمي، مع اعتماد نظام رقمي لتقديم الطلبات ومتابعتها .(E-licensing) ولا تكتمل منظومة الشفافية من دون إشراك ممثلين عن وزارات وهيئات رقابية في مختلف مراحل الترخيص، لضمان رقابة فعّالة واستقلالية في اتخاذ القرارات.
في سبيل ضمان الحوكمة الفعليّة لهذا القطاع الحسّاس وحصر استخدامه ضمن الإطارين الصحي والصناعي، تتجه الهيئة الناظمة إلى اعتماد حزمة من الآليات الرقابية الصارمة. ويكشف رئيس الهيئة الناظمة داني فاضل في حديثه لـ"مهارات نيوز" أنّ أولى هذه الآليات برأيه تنطلق من اعتماد نظام تتبّع إلكتروني متكامل يُراقب دورة الإنتاج كاملة، من المزرعة إلى المصنع، وذلك من خلال تكنولوجيا QR Code أو شرائح RFID التي تتيح تتبّع كل شحنة أو منتج بشكل دقيق. يُضاف إلى ذلك، إخضاع كل طلب ترخيص للمزارعين والمصانع لدراسة دقيقة من قبل لجان فنية مختصّة، مع تحديد الكميات المسموح بإنتاجها أو تصنيعها لكل جهة مرخّصة. ويُعدّ إجراء الفحوص المخبرية إلزاميًا، للتحقّق من نسبة مادة الـ THC، وضمان بقائها ضمن الحدّ القانوني المسموح به، والذي لا يتجاوز عادة 1% في الاستخدامات الصناعية.
أما لجهة ضبط العمليات اللوجستية، فتشمل الإجراءات الرقابية مراقبة النقل والتخزين باستخدام أنظمة تتبّع عبر الـ GPS، وتوثيق الحركة في سجلات رسمية تخضع للتدقيق، فضلًا عن استخدام الدرونات والأقمار الاصطناعية عند الحاجة لتعقّب أي نشاط غير مشروع. كما تحرص الهيئة على إغلاق المنافذ غير الشرعية بالتنسيق مع القوى الأمنية، ما يعزّز قدرة الدولة على ضبط القطاع.
كما يُفترض بالجهات العاملة في الزراعة أو التصنيع تقديم تقارير مرحلية إلى الهيئة الناظمة عن كل خطوة إنتاجية، فيما يُراعى التدقيق في حركة الصادرات والواردات. كما يقترح فاضل إنشاء منصة إلكترونية متخصّصة تابعة للهيئة، تُستخدم لنشر الإرشادات والإعلانات الرسمية، وتُمنح من خلالها كل جهة مرخّصة حسابًا إلكترونيًا باسم المستخدم وكلمة مرور، يُحفظ عبره مسار العمل والبيانات الإنتاجية، بما يُمكّن الجهات الرقابية من مراجعتها عند اللزوم.
اعتماد كل ما سبق من الأدوات الرقابية والتقنية، يفتح المجال أمام تسهيل حصول المزارعين والمصنّعين على شهادات الجودة العالمية، مثل GACP للممارسات الزراعية الجيدة، وGMP للممارسات الصناعية الجيدة، بالإضافة إلى شهادات COA التي تؤكّد سلامة المنتجات وجودتها.
القنب اللبناني بين ميّزاته وتحدّيات استثماره
اقتصاديًا، فإنّ جوهر هذا الاستثمار وجدواه هما محل الاهتمام والجدل. إذ يشكّل استثمار لبنان في قطاع القنب الهندي الطبي والصناعي فرصة اقتصادية واستراتيجية واعدة، لكنّها لا تخلو من التحديات التي تتطلب تخطيطًا دقيقًا وحاسمًا.
يرى عميد كليّة إدارة الأعمال في الجامعة الأميركيّة للتكنولوجيا بيار الخوري أنّ الجدوى الاقتصادية في هذا الاستثمار تكمن في عدة نقاط رئيسية، أوّلها الميزة التنافسية الطبيعية التي يمتلكها لبنان، فمثلًا عدد أيام الشمس التي تتراوح بين 240 و 300 يوم سنويًا، يُخفّض من تكاليف الإنتاج نحو 40% مقارنةً بالدول الغربية، وبدوره يزيد من هامش الربح المحتمل. كما أن تحويل المواد الخام إلى منتجات طبية مصنعة ذات قيمة مضافة عالية، مثل الزيوت والمستخلصات، يمكن أن يساهم في تنويع مصادر الدخل.
وحرصًا على الاستفادة من الميّزات تلك، لا بدّ من التعامل بحذر مع التحديات التي تواجه هذه الفرصة، أهمّها التقلبات في الأسواق العالمية. فمنذ العام 2022، شهدت أسعار القنب الطبي انخفاضًا بنسبة 45%، مما يؤكد ضرورة وضع استراتيجيات تسويق وتصدير مرنة. مع الأخذ في الاعتبار، القيود الدولية والبيئة التشريعية التي تتطلب قوانين صارمة وآليات رقابة حازمة منعًا للتهريب والاستخدام المزدوج.
يُقدّر الخوري احتمال أن تتراوح الإيرادات المتوقعة في السنوات الأولى بين 200 و 400 مليون دولار سنويًا، وهو ما يمثل حوالي 10% من تحويلات المغتربين. ويضيف "في غضون عشر سنوات يمكن للبنان أن يحصل على مبيعات دولية بقيمة 500 مليون دولار إذا ما تم تطوير القطاع بشكل فعال".
في السياق نفسه، يرى أنّ تحقيق هذه الأهداف، يرتّب على لبنان تبنّي توصيات استراتيجية واضحة، أهمّها تخصيص نسبة من العوائد للبحث العلمي لتطوير سلالات جديدة ذات جودة عالية وفعالية طبية، مما يعزز الميزة التنافسية للإنتاج اللبناني. إضافةً إلى بناء قنوات تصدير موثوقة ومنع التسرب لقنوات الجريمة المنظمة، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتركيز على الابتكار والقيمة المضافة في المنتجات النهائية.
ويختم الخوري مؤكّدًا على الفرصة الاستثمارية التي يحملها قطاع القنب الهندي، لكن نجاحه يعتمد بشكل أساسي على الإدارة الحكيمة، والتنظيم الفعال، والتركيز على الابتكار والقيمة المضافة.
في المقابل، وسط ازدحام فوائد المشروع على المستويات الصحيّة والصناعيّة والاقتصاديّة لا يمكن إخفاء مخاوف خروجه عن السيطرة وتحوّله إلى أداة شرعيّة تُفاقم ظاهرة الإدمان. ففي سياق ضبط حوكمة استخدام القنّب الهندي يُطالب نقيب الصيادلة جو سلّوم في حديثه لـ"مهارات نيوز" الهيئة الناظمة بتعزيز دورها الرقابي في مكافحة الإدمان، كما يرى سلّوم أنّ احتمال تشعّب السّوق يزيد من خطر عمليّات التهريب وسهولتها، إلّا أنّه يجد الحزم والجديّة والصرامة هي الطريق الوحيد لمنعها.
ففي دراسة أجراها المركز الأوروبي لرصد الإدمان على المخدرات، بناءً على استبيان أُجري بين مارس ومايو من العام 2021 استهدف أفرادًا في لبنان استخدموا موادًا مخدّرة. أثبتت الدراسة في نتائجها أنّ 93% من المدمنين استخدموا القنّب الهندي، بينما تأتي مواد أخرى مثل الكوكايين و"الإكستازي" في المرتبة الثانية. وفي صدد الانتشار الواسع للقنّب الهندي كمادّة مخدرة يرى سلّوم أنّ هذه الحقيقة تُثبت صعوبة المراقبة وأهميّتها، لكن قوننة الموضوع من شأنه تفعيلها على أسس أكثر حزمًا وعزمًا على التطبيق.
ويؤكّد سلّوم وضع خبرات الصيادلة في مجال التصنيع الدوائي المستخرج من القنّب الهندي في خدمة المشروع، وأنّ دورهم الرقابيّ ينطلق من داخل الصيدليات من خلال دورها التوعويّ والإرشاديّ وهذا الدور الذي يلعبه الصيادلة في كل الميادين.
فرصة ذهبيّة غير مفعّلة
بعد طول انتظار منذ إقرار قانون شرعية زراعة القنب الهندي للأغراض الطبية والصناعية في العام 2020، يؤكّد النائب عن البقاع الأوسط بلال الحشيمي أنّ المشروع يُعدّ محوريًا للمناطق المحرومة في البقاع والجنوب، حيث يعاني المزارعون من "وضع ميؤوس منه" في ظل غياب الدولة عنهم، مشددًا على أنّ هذا المشروع "يأتي ليمنحهم فرصة طال انتظارها".
وأكد الحشيمي لـ"مهارات نيوز" أن المشروع قد يؤمّن حوالى عشرة آلاف فرصة مباشرة للمزارعين في حال تخصيص ألف هكتار من الأراضي، بمعدل دُنم واحد لكل مزارع. كما من المتوقع أن يخلق فرص عمل غير مباشرة في مجالات الري، الحراسة، والإشراف، ما ينعكس إيجابًا على الإنتاجية والاقتصاد المحلي، ويفتح المجال لاحقًا لتوسيع الشريحة المستفيدة.
ورغم أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه الشركات الخاصة في إنجاح المشروع من خلال الإشراف والمتابعة وتأمين فرص عمل في الإدارة والتسويق، حذّر الحشيمي من "خطر الاستغلال والسيطرة على المشروع من قبل هذه الشركات"، مطالبًا بـ"وضع أسس واضحة لتنظيم العلاقة الاقتصادية بين الأطراف المعنيّة، تأخذ بعين الاعتبار منطق المنافسة، وتضع منهجية تحمي حقوق المزارعين وتضمن استدامة المشروع".
وفي ما يتعلّق بالعلاقة بين الدولة والمزارعين، لفت الحشيمي إلى أنّ "المزارع اللبناني بطبعه لا يحبّ أن يتدخّل أحد في عمله"، معتبرًا أن نجاح المشروع مشروط بـ"رؤية تشاركية واضحة تحفّز المزارعين على الانخراط تحت مظلّة الشرعية" من دون الشعور بالإقصاء أو الوصاية. وختم حديثه بتفاؤل: "نحن شاطرين بهيدا الشي، والفرصة رهيبة... يبقى فقط أن نتبنّى المشروع بجدّية ونمنحه البيئة المناسبة لينجح ويزدهر".
في السياق نفسه، يؤكّد رئيس بلديّة بعلبك أحمد الطفيلي أنّ المزروعات عالية الطلب مثل القنب الهندي ستساهم في إنعاش القطاع وبالتالي زيادة فرص العمل بشكل ملحوظ وزيادة دخل فئة كبيرة من المواطنين وتحريك العجلة الاقتصادية، خصوصًا إذا ما ترافقت هذه الزراعة مع مشروعات رديفة كالتصنيع الدوائي. كما شدّد أنّ ضمان الحوكمة في القطاع لا يتمّ إلّا بالتشدد في تطبيق القانون وما يمنحه من صلاحيات للجهات المختصة ومنها البلديات.
في المقابل، أشار وزير الاقتصاد السابق رائد الخوري، المتابع لدراسة "ماكنزي"، إلى أنّ أبرز توصيات تلك الرؤية الاقتصاديّة هو قطاع القنّب الهندي "كفرصة ذهبيّة غير مفعّلة حتّى اليوم". وأوضح أنّ العوائد الضخمة المحتملة من هذا القطاع هي ما دفعت لاحقًا إلى إدراج الأسباب الموجبة لتشريعه للأغراض الطبية والصناعية، باعتباره قطاعًا ذا قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد اللبناني. لكنّه شدد في الوقت نفسه على أنّ النتائج المرجوّة لا تتحقّق بين ليلة وضحاها، بل إنّ تطوير هذا القطاع يحتاج إلى ما لا يقل عن خمس سنوات من العمل الجاد، تبدأ باستثمارات بملايين الدولارات، وتتصاعد تدريجيًا وصولًا إلى المليارات، على غرار ما شهدته عدّة ولايات أميركية بدأت بأرباح متواضعة قبل أن تتحوّل إلى قصص نجاح اقتصادي باهر.
وختم خوري بالتأكيد على ضرورة تفعيل الهيئة الناظمة لهذا القطاع في أسرع وقت، إلى جانب وضع خطط تسويقية ذكية تستهدف الشركات الخارجية، تمهيدًا لانطلاق عجلة الاستثمار والإنتاج، وجعل هذا القطاع محرّكًا اقتصاديًا حيويًا في المرحلة المقبلة.