انقضت في 26 كانون الثاني الماضي "هُدنة" الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان (تم تمديدها لاحقًا الى 18 شباط)، ونجح أهالي بعض البلدات في جنوب لبنان العودة إليها لتفقد ممتلكاتهم وقراهم، ليتكشّف للجميع حجم الكارثة، فقد خلّفت هذه الحرب دمارًا هائلًا في البنى التحتية ضمن الأحياء والقرى المستهدفة سواءً في جنوب لبنان، أو في الضاحية الجنوبية والبقاع. ورغم عودة الأهالي إلى منازلهم ورغبتهم في مواصلة حياتهم اليومية، إلا أن العديد منهم ما زالوا يعانون من انقطاع مياه الشفة.
ويفاقم مخاوف اللبنانيين من ازدياد معاناة أزمة المياه (بخلاف واقع الحرب والاعتداءات) الغموض في توزيع الأدوار بين وزارة الطاقة والمياه ومؤسسات حزبية ودوليّة، بالاضافة الى التجارب السابقة بموضوع خُطط المياه، حيث وُضعت دراسات عديدة لم تسلك طريقها إلى التنفيذ، مما يعكس غيابًا عضويًّا لسياسات مستدامة في قطاع المياه. ويتكثّف الغموض في الملف، مع صعوبة الوصول للمسوحات والخطط التي تساعد في تقييم تداعيات الحرب، ومتابعة الجهات المعنية بترميم هذا القطاع الحيوي ما ينذر بأزمة طويلة.
معاناة مستدامة
بحلول العام 2025، تجد العديد من العائلات اللبنانية المتضررة من الحرب نفسها محرومة من المياه، مما يُصعّب شروط العيش واستعادة الإيقاع اليومي الطبيعي.
فكوثر بزّي من بنت جبيل، هي واحدة من أبناء الجنوب العائدين إلى بيوتهم. غير أنّها حاذرت استخدام المياه خوفاً من احتمال تلوّثها بمواد سامة نتيجة القصف والمتفجرات الإسرائيلية. وترى أن معاناتها الحالية ليست سوى استمرار لمعاناة مستدامة ودائمة مع نقص المياه. وتقول لـ"مهارات نيوز": "يلجأ أكثرية سكان المنطقة إلى حفر آبار خاصة لتوفير المياه لمنازلهم، وعادة ما نعتمد على مياه الأمطار لملء الآبار. عند عودتي إلى المنزل، أغلقتُ فوهة تسرب الأمطار من السطح، فظل بئرنا فارغاً، وهذا ينطبق على بقية سكان القرية. فقد انتظرنا هطول الأمطار الطبيعية ثلاث مرات حتى تغسل السموم المتراكمة على الأسطح، ونتمكن من إعادة ملء آبارنا. في الأثناء، نستعين بصهاريج المياه المتنقلة".
تعبّر بزّي عن خوف يعيشه السكان من توقف الإمداد بالمياه "قسم من بنت جبيل، والمعروف بـ"البلد"، يتزوّد بالمياه من خزّان موجود على ارتفاع عند مشارف يارون، في منطقة لا تزال محتلّة، ونخشى باستمرار أن يتمّ تفجيره، وهذا ما تعمّدته إسرائيل. فمنذ أسبوع فجّر الإسرائيليون خزّان المياه لبلدة مارون الراس، وهو يقع على رأس الجبل".
أمّا في البقاع، يشكو الأهالي التعتيم على معاناتهم من تداعيات الحرب، ومنها انقطاع مياه الشرب، مثل بلدة علي النهري، واحدة من بلدات قضاء زحلة المتضررة جراء القصف الاسرائيلي، وقد تعطلت فيها محطة المياه جراء استهداف البلدة أول الحرب ثم تلقّيها غارات عنيفة في ليل 11 تشرين الثاني.
المواطن أحمد المكحل، عضو اللجان الأهلية في علي النهري، يوضح الأعطال التي لحقت بمحطة المياه، حيث تضررت غرفة التحكم واللوح الكهربائي ومحوّل الترانس، مما أدى إلى حرمان حوالي 60% من منازل المنطقة من المياه. ولكن، كما يقول المكحل: "لم تكن المحطة في حالة جيدة حتى قبل اندلاع الحرب، وعندما نتوجه إلى مصلحة مياه البقاع، نجد صعوبة في إيجاد حلول مرنة، كما أن العذر الدائم هو نقص التمويل. غالباً ما يكون الاعتماد على المنظمات الدولية، التي تتسم إجراءاتها بالبيروقراطية الطويلة التي تعيق إصلاح الأعطال البسيطة في الوقت المطلوب. أمّا بعد الحرب، بدأت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتعاون مع مصلحة مياه البقاع وبلدية علي النهري في إصلاح المحطة".
وإذا كانت قرى الجنوب والبقاع تعاني بطء التدخلات، فإنّ ضاحية بيروت الجنوبيّة تعكس مشهداً مركّباً.
يشير الصحافي محمد قليط لـ"مهارات نيوز" إلى أنّ شارع السيد عباس الموسوي في حارة حريك حيث تقطن عائلته، شهد انقطاعاً للمياه، ولكنها عادت في غضون 10 أيام من بدء الهدنة. وقد تكفلت مؤسسة "جهاد البناء" التابعة لحزب الله بتصليح الأعطال التي أصابت شبكة المياه، ووقعت تحديداً على شرائط الكهرباء المتشابكة في الجو والتي تصل البنايات بشبكة المياه وتسهل ضخها.
ويضيف: "تنكشف في الضاحية أضرار متفاوتة بين دمار محدّد وشامل، وقياساً يمكن أن نتوقّع الأضرار في شبكة المياه. وفي الكثير من الأحياء لا تزال عمليات رفع الأنقاض مستمرّة، ولا يمكن بالتالي شمل حارة حريك كلّها بتشخيص واحد عن المياه. ففي "الحي الفوقاني" وقعت أضرار جسيمة، بعكس حي المقداد مثلاً. وأحياء مثل الرويس والمعمورة، تلقّت ضربات متفرقة".
وبحسب قليط، تختلف آلية التدخل وتوقيته تبعًا للجهة المنفّذة، حيث تتدخّل مؤسسات حزب الله في مناطق سيطرتها، وأخرى تابعة لحركة أمل تنتظر دعماً حكوميّاً.
من ناحية ثانية، يعتبر "أنّ الحرب كشفت هشاشة البنى التحتية في أحياء من الضاحية. المنطقة تضمّ عشرات المباني المتداعية والمبنية بشكل عشوائيّ، وقد شاهدنا في الفيديوهات المصوّرة القليل منها بالكاد صمد تحت عنف الضربات".
مسح الأضرار
في 4 كانون الأوّل، عقد وزير الطاقة والمياه وليد فياض مؤتمراً صحافياً استعرض خلاله نتائج المسح الشامل الأولي لأضرار قطاع المياه الناتجة عن العدوان الاسرائيليّ، استناداً إلى تقارير المؤسسات الاستثماريّة للمياه. وشملت الأضرار المباني الإدارية، شبكات المياه، محطات الضخ، الخزانات، وأنظمة الطاقة الشمسية. كما قُدّرت تكاليف إعادة الإعمار أولياً بنحو 200 مليون دولار أميركي، إلى جانب خسائر الجباية التي تُقدّر بـ20 مليون دولار. وبرزت الأضرار كالآتي:
الجنوب: تجريف القرى الحدودية بالكامل مع بناها التحتية من خزانات وشبكات ومحطات ضخ وإعدادات، وهي في حاجة إلى إعادة بناء بشكل كامل. وتليها من حيث نسبة التدمير أقضية بنت جبيل، مرجعيون، صور، والنبطية، حيث تضررت كلياً أو جزئياً محطات صف الهوا، البص، الوزاني، الطيبة ونبع الطاسة. أمّا على صعيد مصلحة الليطاني فقدرت الأضرار الناجمة عن استهداف أقنية الري بحوالى 10 ملايين دولار.
البقاع: تضررت منشآت المياه في سحمر وبعلبك، إضافة إلى 14 محطة، منها اثنتان مدمرتان بالكامل.
الضاحية الجنوبية: بدء الإصلاح في الأحياء المتضررة لتوفير الحد الأدنى من الخدمات، بانتظار ورشة الإصلاح الشاملة.
حاولت "مهارات نيوز" الحصول على المسح التفصيلي للأضرار وكذلك خطة إعادة التأهيل، من خلال تقديم طلب حصول على المعلومات لوزارة الطاقة والمياه. وبعد مراجعة الوزارة، وانقضاء المهلة القانونية (15 يوماً) وتمديدها مرّة واحدة (15 يوماً)، لم نحصل على المعلومات.
تقدّم إصلاحي بطيء
وفي ظلّ عدم استجابة وزارة الطاقة والمياه لطلب المعلومات، تواصلت "مهارات نيوز" مع منظمات غير حكومية فاعلة في القطاع.
وعليه تقول جاسمين القارح منسقة جمعية LEWAP، الفاعلة منذ 2017 في قطاع المياه من خلال التنسيق مع وزارة الطاقة والمياه والمنظمات الدولية وإدماج مؤسسات أكاديمية، انّ الوزارة أعلنت بالفعل عن الأضرار الأولية الناجمة عن الحرب، ولكن كيفية إحصاء تكلفة إعادة التأهيل غير واضحةً. كما أنّ كلّ مصلحة مياه تتولّى مسح الأضرار في مناطقها، وقد أنجزت في منتصف كانون الثاني مصلحة مياه البقاع تقريرها. وفي أثنائه، أرسلت LEWAP، بالتنسيق مع وزارة الطاقة والمياه، استبياناً إلى منظمات غير حكومية، لتوضيح إمكانياتها في مساعدة العائلات المتضررة، ونطاق تدخلها وطبيعته.
وتشير القارح إلى فرصة مؤاتية مع فتح باب المقترحات لخطة لبنان للاستجابة للأزمة (LRP Lebanon Response Plan) للعام 2025، وقد مُدّدت مهلة إرسال المقترحات في قطاع المياه والصرف الصحي والنظافة العامة (WASH) الذي تتولاه اليونيسف على رأس تجمّع منظمات غير حكومية.
ومنذ العام 2022، يواصل الاتحاد الأوروبي ومجموعة الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) شراكة مع المكتب الفني للإنماء (BTD) في إطار مخطط إصلاحي لقطاع المياه وتطبيقه بشكل مباشر مع الوزارة، متناولين تحسين مقاربة المياه/النفايات في إدارة أحواض الأنهار، بالاستناد إلى دراسة تجريبية ضمن برنامج "حوكمة-الاتحاد الأوروبي" (2021-2024). وتناولت الدراسة أنهر الأسطوان والعاصي والغدير، تمهيدًا لهذه التجربة الضرورية خصوصًا في ظلّ التغير المناخي وتداعياته الكبيرة على الأمن المائي.
وفي سياق مرتبط بالإصلاح المستمرّ لقطاع المياه، كان وزير الطاقة والمياه وليد فياض قد وقّع في أيار 2024 ثمانية مراسيم تطبيقية لقانون المياه، كما وقّع آنذاك المرسوم المتضمّن النسخة النهائية للاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه بعد تعديلها. وترتكز على أربعة أسس:
تحصين الأمن المائي عبر زيادة التخزين السطحي وتحسين نوعية المياه ومراقبتها
تطوير الخدمة العامة عبر زيادة نسبة تغطية شبكات توزيع مياه الشفة ومنظومات الصرف الصحي والريّ
تحقيق الاستدامة المالية لمؤسسات المياه، عبر تغطية كلفة التشغيل والصيانة، ومستقبلاً الاستثمار، وزيادة الجباية ومعالجة الهدر الفني وغير الفني
إجراء الإصلاحات اللازمة في قطاع المياه، لا سيما تلك الواردة بقانون المياه، وإدخال الرقمنة إلى القطاع.
معضلة الجباية
وقبل إقرار الاستراتيجية الوطنية 2024 لقطاع المياه، كانت الوزارة قد وضعت أولويات إصلاحية ضمن إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار "3RF"، وهو شراكة تعاونية واستراتيجية بين حكومة لبنان والمجتمع المدني والمجتمع الدّولي، انطلقت في أعقاب إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. ويأتي في مقدّم الأولويات "إعداد خطة تمويل شاملة لضمان إنعاش قطاع المياه وسدّ الفجوة بين الإيرادات المحصلة والتكاليف الفعلية التي تتكبدها مؤسسات المياه، إلى حين استرداد التكاليف بالكامل"، ما يتّفق مع النقطة الثالثة في الخطة الاستراتيجية الوطنية 2024.
كما وُضعت خارطة طريق مقترحة من وزارة الطاقة والمياه والمؤسسات الاستثمارية العامة للمياه، بالتعاون مع الوكالة الفرنسية للتنمية والاتحاد الأوروبي لخمس سنوات من العام 2022 وحتى العام 2026 وذلك بهدف تأمين التعافي لقطاع المياه والصرف الصحي، وفي المحور الأول "تدابير مالية فورية وتدريجية" من خلال فرض زيادة سنوية وتدريجية للتعرفة تبدأ من مليون ليرة لبنانية في 2022 وتصل إلى ثلاثة ملايين ليرة في 2026.
غير أنّ الوزير وليد فياض، أقرّ مؤخرًا بأنّ الوزارة لم تتوصّل لتحقيق هذا الهدف، علمًا أنّ التعرفة باتت تبلغ ما بين 10 و15 مليون ليرة لبنانية سنوياً، لكنها لا تكفي لتغطية الكلفة التشغيلية للمياه.
في هذا الصّدد، تشير القارح إلى أنّ "وزارة الطاقة والمياه، كما سائر المؤسسات الحكوميّة اللبنانية، تعاني انقطاعًا في تنفيذ الخطط الاستراتيجية. وغالبًا ما يظهر التبرير الملازم لهذا النسق بـ"قررنا تغيير أولوياتنا". ولو انتهجت المثابرة في تحقيق الأهداف والتنسيق بين الخطط السابقة واللاحقة، لكانت العديد من الاصلاحات الهيكليّة هيّأت هذا القطاع لاحتواء تداعيات الحرب بمقوّمات أفضل. من ناحية ثانية، تتجه وزارة الطاقة والمياه إلى تعديل الأهداف باستمرار لجعلها أكثر قابلية للتحقق لكي توفي بالتزاماتها أمام البنك الدولي".
وتشرح أنّ عوائق عديدة في مسألة الجباية تحول دون تحصيل الكلفة التشغيلية:
هناك موضعان من الامتناع من المواطنين يصعّبان عملية الجباية. الأول يتعلق بالمتعدّين على الشبكة الذين لا يحصلون على المياه أساسًا، إضافة إلى أن مصلحة المياه لا تتابع إصلاح الأضرار، غالبًا بسبب نقص في عدد فريق العمل الناتج عن عجز مالي لا يسمح بتسديد المعاشات. أما الثاني، فيشمل المواطنين الذين فقدوا ثقتهم بالدولة اللبنانية ويمتنعون عن دفع الفواتير لصالحها. وتختلف نسبة ضبط هذه المخالفات باختلاف الهيمنة السياسية في كل منطقة، حيث تُسهم هذه الهيمنة في التستر على المخالفات أو منع الجباية، وهو ما أوردته الوزارة عن عدة مناطق.
إنّ رفع رسوم الجباية في 2022 وجد نوعًا من المقاومة لدى شريحة واسعة من المواطنين لاعتبارها مرتفعة مقارنة بمداخيلهم، وفي ذلك الوقت انخفضت نسب الاشتراكات والجباية بشكل كبير، في مصلحات المياه الأربع في لبنان.
وتشرح القارح أنّ ثمة محاولات قامت بها وزارة الطاقة والمياه بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية لتعزيز عملية الجباية مثل:
التدخّل بشكل مباشر وأساسي على مستوى مصالح المياه بهدف تعزيز قدراتها، وتدريبات تدعم كفاءة الموظفين في الجباية، وهذا توجه مشترك بين الوزارة والمنظمات الدولية.
عمل الجمعيات ميدانيًا من خلال التواصل المباشر مع المواطنين وإبراز إيجابيات دفع فاتورة المياه في انعكاسها على جودة الخدمات، وكانت منظمة "ACTED" قد بادرت بهذه اللقاءات في منطقة الأوزاعي، ولكنها تجربة تحتاج التعميم على نطاقات أوسع.
حاولت الوزارة إشراك البلديات في عملية الجباية. وتماشيًا مع مشروع "حوكمة- الاتحاد الأوروبي"، طوّرت جمعية "نحن" دراسة حول الشراكات العامة بين البلديات ومؤسسات المياه لتحسين خدمات المياه والصرف الصحي والجباية.
بدأت الجباية من خلال نظام إلكتروني في مناطق من جبل لبنان وبيروت ومصلحة مياه الجنوب، ولكن العملية لم تستمرّ بسبب الانهيار الذي أصاب لبنان في 2020.
وتخلص جاسمين القارح إلى أنّ "الجزء الأصعب في مهمة وزارة الطاقة والمياه هو كسب ثقة المواطنين. وربّما يفيد بأن تعمد الوزارة إلى أن يرى الناس أن العمل على إصلاح الأعطال في شبكة المياه جارٍ وأنّها موضع اتكال المواطنين".
في حين، يسود الالتباس خطّة وزارة الطاقة والمياه الفوريّة في إصلاح أضرار الحرب، في سياق مستمرّ لخطط استراتيجية لم تُحقق وأخرى لا تستكمل. يعمّق معاناة المواطنين عدم إلتزام الجيش الاسرائيلي بوقف إطلاق النار، وتواصل الخسائر البشرية قبل الماديّة، دون حلول حاسمة لهذه الانتهاكات.
يُنشر هذا التقرير في إطار زمالة صحافية تنظمها مؤسسة مهارات حول "التغطية الإعلامية لمسار الإصلاحات".