في الأسابيع الأخيرة، أطلقت وزارة الصحة العامة حملة توعوية للتحذير من الأدوية المزوّرة التي تتسلّل إلى السوق اللبنانية بطرق غير شرعية، محذّرة من مخاطرها على حياة المرضى. غير أنّ هذه الحملة، على أهميتها، ليست سوى وجه من وجوه أزمة دوائية شاملة تتعمّق يومًا بعد يوم. فمنذ الانهيار الاقتصادي عام 2019 وما تبعه من رفع الدعم عن الأدوية، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام معضلة غير مسبوقة: أسعار خيالية للأدوية المستوردة، فقدان أصناف أساسية من الصيدليات، وازدهار سوق سوداء لا تخضع لأي رقابة.
هذا الواقع جعل رحلة العلاج أشبه بكابوس يومي، خصوصًا لمرضى السرطان والأمراض المزمنة الذين يحتاجون إلى أدوية منتظمة للبقاء على قيد الحياة. وبين الغلاء والندرة، تحوّل المرضى إلى ضحايا خيارات قاسية: إما التوقّف عن العلاج، وإما شراء أدوية مشكوك بمصدرها، قد تكون مزوّرة أو منتهية الصلاحية، بما يحمله ذلك من أخطار جسيمة على الصحة العامة. وفي ظل تضارب المصالح بين المستوردين، شركات الأدوية والسلطات الرسمية، يبدو أنّ النقاش حول الإصلاحات غائب، فيما الفوضى هي العنوان العريض للقطاع.
هكذا، لم يعد الدواء في لبنان مسألة صحيّة فحسب، بل تحوّل إلى قضية اجتماعية واقتصادية وأمنية تمسّ حياة كل مواطن. والسؤال المطروح اليوم: هل يكفي التحذير من الأدوية المزوّرة لمواجهة أزمة بهذا الحجم، أم أنّ المطلوب مقاربة شاملة تنقذ حقّ اللبنانيين في العلاج من براثن الفوضى والفساد؟
أزمة دواء تثقل كاهل المواطن
من انهيار الليرة إلى فساد الدعم، تراكمت أزمة الدواء في لبنان عقودًا ليصبح المواطن هو الضحية الأولى.
رأى الصحافي الاقتصادي عماد الشدياق ورئيس حملة "الصحة حق وكرامة" الدكتور إسماعيل سكرية، في حديثين خاصين لـ"مهارات نيوز"، أنّ أزمة الدواء في لبنان هي نتيجة مباشرة لانهيار الليرة وسوء إدارة الدعم، إضافة إلى تراكمات عقود من الفساد وغياب الرقابة. فبحسب الشدياق، فقد المواطن قدرته الشرائية منذ العام 2020، إذ تُسعَّر الأدوية بالدولار فيما الرواتب بالليرة، ما أجبره أحيانًا على تخصيص راتبه كاملاً للدواء، وأوضح أنّ الدولة لجأت إلى الدعم لكنّه طُبّق بطريقة خاطئة سمح لشركات الأدوية بتحقيق أرباح غير مشروعة عبر طلبيات وهمية أو كميات أقل من المطلوب، ما فتح الباب أمام التهريب والاحتكار.
من جهته، شدّد سكرية على أنّ غياب إرادة سياسية واضحة وتضارب المصالح داخل وزارة الصحة منح شركات الأدوية نفوذًا واسعًا لتفرض تسعيراتها، لافتًا إلى أنّ لبنان هو الدولة الوحيدة التي لا تمتلك مختبرًا مركزيًا للرقابة منذ أكثر من أربعين عامًا. وذكّر بأنّ الخلل ليس جديدًا، إذ في عام 1971 حاول وزير الصحة خفض أسعار الأدوية لكن ضغط الشركات الكبرى دفع الحكومة للتراجع، وفي 1997 بدأ هو متابعة الملف في البرلمان حين كان الوضع أقل سوءًا، ثم في 2007 كُشف عن حقن لمعالجة السرطان تحتوي ماء بدل الدواء لكن الملف وُضع في عهدة القضاء وطُوي من دون نتيجة. وتساءل سكرية: "كم من الناس مات بسبب الأدوية المزوّرة أو المهرّبة؟"، معتبرًا أنّ الأزمة الحالية ليست مفاجئة بل نتيجة مسار طويل من الفساد وغياب الشفافية.
واتفق الشدياق وسكرية على تحميل الدولة المسؤولية، إذ دعا الأول إلى محاسبة الشركات التي استفادت من الدعم وتحديد هوامش ربح لا تتجاوز 20% والتفاوض مباشرة مع الشركات العالمية، فيما شدّد الثاني على أنّ أيّ إصلاح يتطلّب "لوبيًا" جديدًا يقوده المواطنون والطلاب بعيدًا عن النواب والوزراء الذين "لا يُعوَّل عليهم". وبينما يلتقي الطرفان على أنّ الأزمة مزيج من انهيار مالي داخلي وفساد متجذّر، يشدّدان على أنّ حماية المواطن تبدأ بمحاسبة المستفيدين، كسر احتكار الشركات، واستعادة دور الدولة في الرقابة والتسعير العادل.
بدوره قال نقيب صيادلة لبنان الدكتور جو سلوم لـ"مهارات نيوز" إن أزمة الدواء في لبنان ترجع إلى سياسات دوائية خاطئة خلال الأعوام الخمسة الماضية، أبرزها دعم كامل للدواء من دون رقابة، ما أدى إلى تهريبه وظهور أدوية منخفضة الجودة، لا سيما أدوية السرطان. وأضاف سلوم أنّ كل ذلك انعكس في إقفال المكاتب العلمية في لبنان، التي كانت تُشكّل مصدر ثقة للقطاع الصحي، وتراقب نوعية وجودة الدواء وتؤمّن فرص عمل، كما أدى إلى فقدان أدوية مبتكرة وجديدة من السوق اللبناني. وأوضح أنّ الخاسر الأول كان المريض، والخاسر الثاني القطاع الصحي بأكمله، مؤكّدًا أنّ النقابة أطلقت حملات للتصدي للدواء المهرّب والمزوّر منذ 2022، بالتعاون مع وزارة الصحة والأجهزة الأمنية والقضائية. ورغم هذه الجهود، لفت سلوم إلى أنّه حتى اليوم لم يُحاسَب أحد ولم يُوقَف أي متورّط في ملف التهريب أو التزوير، مشددًا على أنّ السياسة الدوائية يجب أن تكون قائمة على القانون، تحمي صحة المريض وتضمن نوعية وجودة الدواء في السوق اللبناني بعيدًا عن المصالح الخاصة، كما يجب أن تقوم الوكالة الوطنية للدواء على دعم الصناعة المحلية وإعادة الثقة بالمكاتب العلمية التي كانت وما زالت ركيزة أساسية للقطاع الصحي.
المجتمع المدني… خط دفاع أول
تعمل مؤسسات المجتمع المدني على سدّ جُزءًا من الفراغ الذي تتركه الدولة، مُقدّمة دعمًا أساسيًا للفئات الأكثر حاجة خلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
هنا أكد رئيس جمعية "بربارة نصّار لدعم مرضى السرطان"هاني نصّار، في حديث خاص لـ"مهارات نيوز" أنّ الجمعية واجهت منذ سنوات الأزمة الدوائية برفع الصوت واللجوء إلى الإعلام، خصوصًا بعدما انعكست الأزمة الاقتصادية وسرقة الأموال العامة على ميزانية وزارة الصحة، فتراجعت قدرتها على تغطية الأمراض المستعصية، فيما عجزت الجهات الضامنة عن القيام بدورها، ما جعل المرضى أمام خيارين: إمّا شراء الدواء من الخارج بكلفة باهظة أو تركهم لمصيرهم، وهو ما فتح الباب أمام دخول أدوية مزوّرة من دول عدّة بينها تركيا في ما يشبه "مجزرة" بحق المرضى. وأضاف نصّار أنّ التحركات والاحتجاجات، ولا سيما اعتصام 26 آب 2021 أمام مقر الأمم المتحدة، ساهمت في إعادة بعض الأدوية بكميات محدودة، لكن الفوضى بقيت قائمة حتى مع اعتماد الهبات وشراء أدوية مختومة بختم وزارة الصحة وتوزيعها بطرق غير شفافة، إلى أن ساعد الضغط الإعلامي مع وصول الوزير فراس أبيض إلى وزارة الصحة في إطلاق نظام "Bellows" لتتبّع الأدوية وضمان وصولها مباشرة باسم المريض إلى المستشفيات أو الصيدليات، ما حسّن نسبيًا عملية التوزيع من دون أن يحلّ الأزمة بشكل جذري. واختتم نصّار مشدّدًا على أنّ الجمعية ركّزت لاحقًا على الدعم النفسي-الاجتماعي عبر إنشاء مركز خاص لتأهيل المرضى نفسيًا وجسديًا يقدّم برامج متنوعة كالعلاج بالفنون والموسيقى واليوغا، إضافة إلى عيادات وصيدلية مجانية يستفيد منها أكثر من ألف مريض مسجّل، لافتًا إلى أنّ الجمعية أصبحت عضوًا في شبكات دولية مثل MACX وUISS، إلا أنّها ما زالت بحاجة إلى دعم دائم لمواجهة الضغوط النفسية والمادية المتزايدة، مؤكدًا أنّ أكثر ما يثقل كاهل المرضى اليوم هو خوفهم الدائم من انقطاع الدواء وحرمانهم من استكمال علاجهم في أي لحظة.
الرقابة الداخلية والشفافية في أولوية وزارة الصحة
يتركّز الدور الأساسي على حماية صحة المواطنين من خلال تنظيم الأسواق الصحية، مراقبة المستشفيات والصيدليات، وضمان توافر الأدوية الأساسية بطرق آمنة وشفافة.
قالت مصادر خاصة في وزارة الصحة في حديث لـ"مهارات نيوز" إنّ مسؤولية الوزارة الأساسية تكمن في الرقابة على السوق الداخلي، من صيدليات ومستودعات ومستشفيات، فيما تعود مهمة ضبط الأدوية المهرّبة والمزوّرة إلى الأجهزة الأمنية ولا سيّما الجمارك، على أن تعود المحاسبة لمستوردي الأدوية والصيدليات في حال ثبوت التلاعب أو المخالفات. وأوضحت أنّ رفع الدعم عن الدواء جاء في ظروف ماليّة قاهرة ما دفع بعض المرضى إلى السوق السوداء، إلا أنّ الوزارة تعمل على تأمين الأدوية الأساسية بأسعار مدروسة، كما تعمل على نشر حملات التوعية. وأضافت أنّها تسعى إلى تعزيز الشفافية عبر نشر بيانات أوضح حول النقص والضبط، لكنّ إطلاق خطة إصلاح دوائي شاملة يظل مرتبطًا بمعالجة تضارب المصالح وتوفير الغطاء السياسي والمؤسسي.
في ظل هذا الواقع المأساوي، يتضح أنّ أزمة الدواء في لبنان ليست مجرد خلل مؤقت أو مشكلة سعرية عابرة، بل هي نتاج تراكمات معقدة من انهيار مالي، فساد متجذّر، ضعف الرقابة، وتضارب مصالح بين القطاع العام والخاص. اللبناني اليوم لم يعد يشتري الدواء فحسب، بل يراهن على حياته في سوق مليء بالمجهول، بين أدوية مزوّرة، أسعار فلكية، ونقص أصناف أساسية قد تُحدث فرقًا بين الحياة والموت. ما يفرضه هذا الواقع هو استدعاء إرادة وطنية حقيقية لإعادة الدولة إلى دورها الأساسي: حماية حياة المواطن قبل أي اعتبار اقتصادي أو سياسي، وضمان وصول الدواء الجيد إلى كل لبناني دون تمييز. فالمسألة اليوم تتجاوز الاستهلاك الصحي لتصبح اختبارًا لنضج المجتمع وقدرته على استعادة حقوقه من براثن الفوضى والفساد. وإذا لم يتحرك النظام السياسي بجدية، فلن يكون للوعود الإعلامية أو التحذيرات من الأدوية المزوّرة أي قيمة، ويبقى اللبناني أسيرًا لغول الأزمة المستمرة، معلقًا بين الغلاء والموت البطيء.