لطالما شكّلت الزراعة عبر التاريخ مصدر رزق مستدام للآلاف العائلات اللبنانية، وكانت الضمانة الأولى للأمن الغذائي، كما أنّها تُعدّ رافعة أساسية للنهوض الاقتصادي. وبينما يرزح القطاع الزراعي تحت وطأة الإهمال والضعف المؤسسي، تعود الزراعة إلى الواجهة من خلال إتفاقية جديدة تحت عنوان "مشروع التحوّل الأخضر للأغذية الزراعية". وقد وافق مجلس النواب عبر القانون رقم 17 في تموز 2025 على ابرام اتفاقية قرض بقيمة 200 مليون دولار بين الجمهورية اللبنانية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير لتمويل مشروع التحول الأخضر في قطاع الأغذية الزراعية من أجل التعافي الإقتصادي.
لكن ما وراء الأرقام والوعود الذي يتضمّنها المشروع، تبرز التساؤلات حول آلية تطبيقه، ومدى قدرة الجهات المنفّذة للمشروع وعلى رأسها مجلس الإنماء والإعمار على تطبيق مبدأي الشفافية والمساءلة، لا سيما في ما يتعلّق بإدارة الأموال وإخضاع الإنفاق لموجبات قانون الشراء العام.
فهل سيشكّل مشروع التحول الأخضر خطوةً فعلية نحو إصلاح هذا القطاع؟ أم أنه سيُواجه المصير المعتاد للمشاريع التنموية في لبنان: غياب الرقابة والشفافية، إضافة إلى الافتقار للثقة؟
تحديات تواجه المزارعين
تعاني الزراعة في لبنان من مجموعة تحديات معقدة ومتشابكة تؤثر على إنتاجيتها واستدامتها. ومن أبرز هذه المشكلات هي ندرة المياه وتقلبات المناخ، ممّا يضع ضغوطًا كبيرة على الموارد الطبيعية. لذلك، يأتي مشروع التحوّل الأخضر كمبادرة طموحة تهدف لإعادة الزراعة إلى مسارها الصحيح.
ومن أبرز تحديات الزراعة في لبنان وفق ما يقول المزارع الياس فلّوح لـ"مهارات نيوز"، هو "نقص جودة المواد الأساسية مثل الأسمدة ومبيدات الآفات الزراعية والحشرية، حتى أصبح هذا الأمر مصدر قلق دائم، ويؤثر مباشرةً على جودة المحاصيل".
أمّا طوني عاصي، (يمتلك أراضي زراعية في البقاع)، فيعبّر عن خوفه من استمرار شحّ المياه ومن الرخص العشوائية التي تسمح بحفر آبار تمنع المياه من التدفق نحو السّهول. وأضاف قائلاً: "نحن نزرع، لكن الأرض لا تعطينا كما كانت، والمشاريع العمرانية تلتهم المساحات الزراعية شيئًا فشيئًا".
وفي نظرة أشمل على واقع القطاع الزراعي على الأرض يصف رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع ابراهيم الترشيشي هذا العام الزراعي بـ"النحس"، بعد أن انهالت على المزارعين سلسلة من الأزمات المتتالية، بدءًا من الحرب التي انتهت العام الماضي، تلتها زيادة الضريبة على مادة المازوت، والإرتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج، وصولًا إلى حالة الكساد التي ضربت السوق الزراعية مؤخرًا، فتوقّف التصدير وأُغلقت الطرق البرية، في حين بقيت الطرق البحرية ولكن بكلفة عالية جدًّا.
وفيما يتعلّق بارتفاع أسعار بعض أنواع الخضروات يشرح الترشيشي لـ"مهارات نيوز" أنّ السّبب يعود إلى تقلّص المساحات المزروعة، وشحّ المياه من الينابيع والآبار الارتوازية التي لا تغطي أكثر من عشرة بالمئة من حاجة الأرض إلى الماء.
وفي خضم هذا التدهور، أبدى الترشيشي تمنّيه بتنفيذ مشروع التحوّل الأخضر، إلا أنّه اعتبر أنّ التطبيق الفعلي على الأرض لا يزال بعيدًا جدًا عن الواقع.
خطوةً فعالة لإصلاح القطاع الزراعي
يهدف "مشروع التحوّل الأخضر للأغذية الزراعية" بشكل عام إلى تحسين القدرة على الصمود لدى المزارعين والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة العاملة في قطاع الأغذية الزراعية في لبنان، وسيشكل المشروع فرصة لإعادة تأهيل البنى التحتية الزراعية واستعادة إنتاجية المزارعين.
يشرح نائب رئيس مجلس الإنماء والإعمار ابراهيم شحرور في حديثه لـ"مهارات نيوز" أنّ مشروع التحوّل الأخضر يندرج في إطار سياق استراتيجي تخطيطي ورؤية شاملة أُعدّ من قبل المجلس ووزارة الزراعة والبنك الدوّلي، وذلك من أجل تحسين الوضع السيء الذي يعيشه القطاع الزراعي.
ويشكّل السّياق الاستراتيجي للمشروع انعكاسًا لعقدٍ من التراجع البنيوي للزراعة في لبنان، حيث تداخلت أزمات متعدّدة منها مالية، مؤسّسية واجتماعية، لتضع القطاع الزراعي تحت تحدَّ وجوديّ. فلبنان يواجه مستويات غير مسبوقة من التضخم، تدهور قيمة العملة الوطنية وارتفاع معدّلات الفقر، ما أثّر بشكلٍ مباشر على قدرة المزارعين على الإنتاج، التسويق والتوظيف. إلى جانب ذلك كشفت جائحة كورونا هشاشة هذا القطاع، خاصةً مع انقطاع سلاسل القيمة الغذائية، انخفاض نسبة الاكتفاء الذّاتي وتراجع الاستثمار المؤسسي في البحث الزراعي.
ولذلك بدا واضحًا أن الزراعة لم تعد مجرد قطاع إنتاجي، بل باتت محورًا للتعافي الاقتصادي والاجتماعي. ويرافق هذا التحوّل اهتمام دوليّ متزايد، كما يظهر من خلال عدّة مشاريع ودور للمؤسسات الكبرى، إضافةً إلى انخراط المنظمات الدولية، ما يعكس نضوجًا في النظرة نحو الزراعة.
وفي الوقت الذي تُطرح فيه مشاريع لإصلاح القطاع الزراعي، لا يزال القطاع الزراعي يعاني من الكثير من التحديات التي تحول دون تطوّره كقطاع استثماري الأمر الذي ينعكس سلبًا على المزارعين.
وهنا يُبدي رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع ابراهيم الترشيشي أمله بأن يتم تنفيذ المشروع بالشكل المطلوب. أما المزارع طوني عاصي فيقول: "لم نسمع بعد بمشروع التحول الأخضر، ولم نتلقَ أي دعم في هذا الخصوص، ونتأمّل ألّا يكون مشروعًا نظريًا فقط لا غير".
ويضيف، "نحن نطالب الدولة والمعنيين بوضع برنامج زراعي واضح وفعّال وسياسة زراعية تلبّي الحاجة المطلوبة اليوم، إذ أن أغلبية المزارعين يزرعون الأصناف نفسها، وبالتالي هناك غياب للتنوّع الزراعي. كما أن من أبرز مطالبنا الملحّة اليوم تأمين الأسمدة والأدوية والمبيدات لطرد الحشرات التي تُفسد مزروعاتنا وتؤثّر على الإنتاج الزراعي، على أن تكون أسعارها مدروسة ومدعومة لأصحاب الأراضي الزراعية والمزارعين".
بدوره يعتبر الياس فلّوح أن معظم العاملين في القطاع الزراعي بحاجة إلى تدريبات جدّية بسبب نقص الخبرة خاصةً فيما يتعلق بالزراعة الحديثة التي تساعد في زيادة الإنتاجية. ويضيف فلّوح بالقول: "يحتاج قطاعنا اليوم إلى دعم طويل الأمد لا سيما لناحية المساعدة في تكاليف الري وتأمين المعدّات اللازمة والأدوية الصالحة، وهذا ما ننتظره من مشروع التحول الأخضر إذا كان سيُنفّذ فعليًا ويكون لصالح كل المزارعين وأصحاب الأراضي الزراعية".
الشفافية بين القانون والتطبيق
يحدد القانون 17 - "مشروع التحوّل الأخضر للأغذية الزراعية" خمسة مكونات يتألف منها المشروع بالإضافة الى المبلغ المرصود لكل منها على الشكل التالي:
كون مشروع التحوّل الأخضر يُعدّ ضمن المشاريع الإصلاحية في القطاع الزراعي، فإنّ نجاحه لن يُقاس فقط بالخطط المعلنة، بل بكيفية ضبط إدارة الإنفاق وتحقيق الحوكمة الفعلية على الأرض. من هنا تبرز أهمية مراقبة الأداء كمؤشر أساسي على جدّية التنفيذ، فإنّ ضبط الإنفاق والحوكمة في القطاع الزراعي ليسا مجرد إجراءات روتينية بل هما أساسيان لتحقيق نمو مستدام، تعزيز الأمن الغذائي وتحسين معيشة المزارعين اللبنانيين.
كلّف القانون رقم 17، مجلس الإنماء والإعمار بإدارة تنفيذ "مشروع التحوّل الأخضر" بشكل عام، كما حدّد الجهات المعنيّة بالمشروع ضمن آلية تنسيقية تشمل عدّة وزارات ومؤسسات حكومية إلى جانب شركاء متخصصين.
أمّا فيما يخص الرّقابة على تنفيذ المشروع يكشف ابراهيم شحرور أنّ المجلس نفسه يخضع لرقابة داخلية تُمارَس من قِبل مفوّض الحكومة، وهو موظف في رتبة مدير عام تابع لرئاسة مجلس الوزراء، مهمته متابعة حسن تطبيق القوانين داخل المجلس. كذلك يخضع لتدقيق ديوان المحاسبة، الذي يُراجع قانونية الإنفاق سواء أكان التمويل محلّيًا أو مصدره القروض والهبات.
بدورها أوضحت الخبيرة في الشراء العام رنا رزق الله لـ"مهارات نيوز" أنّ اتفاقية " مشروع التحوّل الأخضر للأغذية الزراعية" تُصنَّف كقرض دولي، ما يعني أن الأموال المرتبطة بها ستدخل إلى الخزينة اللبنانية، ما يستلزم المرور بمسار قانوني محدّد، أبرز خطواته إحالة الاتفاقية إلى مجلس الوزراء للموافقة عليها قبل تحويل المبلغ من البنك الدولي.
وعند دخول الأموال إلى الخزينة العامة، تُطبّق آليات الصرف المرتبطة بقانون الشراء العام، شرط ألّا تنصّ الاتفاقية الموقعة بين الحكومة اللبنانية والبنك الدولي على تطبيق قانون خاص بالشراء، ألا وهو قانون البنك الدولي. ففي حال وجود هذا الشرط، يُطبَّق القانون المشار إليه في الاتفاقية. وإذا لم يُشترط في الاتفاقية تطبيق قانون البنك دولي، يُعتمد قانون الشراء العام بكامل مندرجاته، ما يعني:
- نشر إلزامي للمناقصات على المنصة الوطنية
- استخدام دفاتر الشروط الموضوعة من قبل هيئة الشراء العام
- اتباع طرق قانونية في الشراء مثل المناقصة العمومية أو استدراج العروض.
من جهته، أفاد شحرور، أنّ مصدر التمويل هو قرض دولي صادر عن البنك الدولي، الأمر الذي يجعل إجراءات الإنفاق محكومة بنظام الشراء العام المعتمد من قبل البنك نفسه. وشدّد شحرور، على أنّ هذا لا يعني غياب تطبيق القانون المحلي، إذ يُعتبر القرض مالًا عامًا، وبالتالي فإن قانون الشراء العام يُطبّق تلقائيًا ما لم تنصّ الاتفاقية على خلاف ذلك. وإذا وُجد تعارض بين مواد القانون وإجراءات البنك الدولي، فالأولوية تُمنح للأخيرة، نظرًا لصفة الاتفاقية الدولية.
وفيما يخص النشر، شدّد شحرور على أنّ الجهات المنفذة للمشروع مُلزَمة بنشر الإعلانات الخاصة بالمناقصات على ثلاث منصات رسمية، وهي الموقع الإلكتروني للمجلس، منصة هيئة الشراء العام ومنصة البنك الدولي، مؤكّداً أن هذا النشر لا يُعد خيارًا يُترك لتقدير الجهة المنفّذة، بل هو إلزام قانوني لضمان الشفافية. مشيرًا، أن عملية النشر لا تقتصر على الإعلانات، بل تشمل أيضًا نتائج المناقصات التي تُنشر على موقع المجلس في مراحل لاحقة.
ويرتبط كل ذلك بمجموعة من الإجراءات الرّقابية، أهمها الحصول على موافقة البنك الدولي في كل مرحلة، المعروفة بـ"عدم الممانعة"، والتي تشمل مراجعة ملفات التلزيم، سواءً كانت عقودًا استشارية أو تنفيذية، إلى جانب تقييم العروض، توقيع العقود، وكذلك أي تعديل يُطرأ عليها.