Loading...

من حق المعرفة إلى حق المحاسبة: كيف تعيق الإدارات العامة شفافية المعلومات المالية في لبنان؟

 

أصدر لبنان في 2 شباط 2017 قانون حق الوصول إلى المعلومات ليتمّ لاحقاً إدخال بعض التعديلات عليه في عام 2021، الذي أتاح بموجبه لأي فرد الحق في الطلب والحصول على المعلومات والوثائق من الإدارات العامة والمؤسسات الرسمية، باستثناء تلك التي تتعلق بالأمن القومي، الخصوصية الشخصية، أو المصالح التجارية والاقتصادية المحمية بموجب القانون. كما يُلزم القانون المؤسسات العامة بنشر المعلومات بشكل حكمي، ممّا يجعله أداة أساسية لتعزيز الشفافيّة ومكافحة الفساد.

 

ولكن على الرغم من تشديد القانون على أنّ رفض تسليم المعلومات يجب أن يكون مبررًا قانونيًا، مع منح الأفراد حق الطعن في حالات الرفض غير المبرر، إلا أن تطبيقه لا يزال يواجه عقبات عديدة، أبرزها عدم التزام بعض الجهات الرسمية بموجباته، ما يطرح تساؤلات جدية حول فعاليّته ومدى تطبيقه والالتزام به.

 

وفي هذا الإطار، كانت محاولة تطبيق حق الوصول إلى المعلومات المالية، التي قامت بها مبادرة غربال ضمن تقريرها السنوي السادس الذي حمل عنوان "تحليل مدى التزام الإدارات العامّة بتشكيل وحدات الشراء ولجان التلزيم والاستلام - 2024"، إحدى أكثر المحاولات الفاضحة للثغرات التطبيقية لهذا القانون. 

 

تقدّمت مبادرة غربال بـ 205 طلب معلومات إلى إدارات ومؤسسات عامّة وشركات مشغلة للمرافق العامّة وشركات مختلطة.

عند تقديم هذه الطلبات تفاوت التجاوب بين إدارة وأخرى وأتى على الشكل التالي:

وفي متابعة لهذه الطلبات لجمع المعلومات المالية المطلوبة من الإدارات المعنية أتت الردود على الشكل التالي:

 

لم تكن التجربة مع قانون الحق في الوصول إلى المعلومات مشجعة على المستوى المؤسسي، حيث واجهت مبادرة "غربال" صعوبات جمّة في تطبيقه عمليًا، إذ أشارت مديرة البرامج، كلارا بو غاريوس إلى أنّه "واجهت المبادرة تحديات كثيرة تمثّلت بعدم إلتزام الإدارات العامة بما فيها البلديات واتحادات البلديات بالنشر الحكمي للوثائق المهمة مثل البيانات المالية، والقرارات الإدارية، والعقود التي تفوق قيمتها الـ50 مليون ليرة، بالإضافة إلى البيروقراطية وضعف البنية التحتية بسبب نقص الموارد البشرية والمالية، وعدم وجود موظفي معلومات مخصَّصين للتعامل مع الطلبات في العديد من الإدارات العامة، ونقص الوعي في معرفة أهمية الحق في الوصول إلى المعلومات، سواء بين الموظفين العموميين أو المواطنين الذين لا يملكون المعرفة الكافية بحقوقهم بموجب القانون".

 

وشددت بو غاريوس على أنه "عملت مبادرة غربال منذ تأسيسها عام 2018، على تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد من خلال الضغط لتطبيق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات الذي أقرّه البرلمان اللبناني عام 2017، وساهمت في تقديم آلاف طلبات المعلومات منذ ذلك الوقت، وسخّرت خدمة الخط الساخن لدعم المواطنين والناشطين في تقديم طلبات الوصول إلى المعلومات للإدارات العامة، من دون أي تكلُفة وتنفيذًا للقانون، كما وتعمل المبادرة على نشر الوعي حول قانون حق الوصول إلى المعلومات من خلال ورش العمل التي تنظّمها في جميع المناطق اللبنانية".

 

وفي السياق عينه، تقاطعت النتائج التي توصل إليها تقرير "غربال"، مع تقرير حديث أصدرته مؤسسة مهارات حمل عنوان "قانون حق الوصول إلى المعلومات: صحافيون يروون واقع الحال"، والذي كشف بدوره عن تقاعس غالبية المؤسسات والإدارات العامة عن الالتزام بقانون الحق في الوصول إلى المعلومات، إذ امتنعت بعض الإدارات عن الرد على الطلبات ضمن المهلة القانونية، فيما رفضت إدارات أخرى الطلبات من دون أي تبرير، ما يشكل خرقًا واضحًا لنص القانون. وبذلك، تبقى نسبة الاستجابة محصورة بعدد محدود من المؤسسات، الأمر الذي يقوّض مبدأي الشفافية والمساءلة.

 

وبحسب الأرقام الواردة في التقرير، تبيّن أنه:

 

وفي شهادات وردت ضمن التقرير، تروي إحدى الصحافيات أنها تقدّمت بطلب إلى وزارة المالية للحصول على تفاصيل سلف الخزينة خلال عامي 2022 و2023، إلا أنها لم تتلقَّ أي رد ضمن المهلة القانونية. وعند متابعتها للاستفسار عن مصير الطلب، أُبلغت برفضه من دون أي توضيح للأسباب، ما اضطرها إلى اللجوء لمصادرها الخاصة داخل الوزارة للحصول على المعلومات.

 

ولم تتوقف التحديات عند هذا الحد، إذ شكّلت الردود غير المهنية التي تلقّاها الصحافيون وغياب آليات موحّدة لمعالجة الطلبات عائقًا إضافيًا. وفي هذا السياق، تذكر صحافية أخرى، ضمن روايتها لتجربتها مع وزارة الطاقة والمياه، أن "الحصول على معلومة من الوزارة كان بمثابة دخول في متاهة، بين الوقت الضائع والتعامل غير اللائق، لأخرج في النهاية خالية الوفاض".

 

وانطلاقًا من هذا الواقع، إنّ تعثُّر التنفيذ الكامل لقانون حق الوصول للمعلومات يؤثر سلبًا على الشفافية المالية في لبنان، في حين يُشكّل في تطبيقه الكامل أداة أسياسية لمكافحة الفساد وإرساء الشفافية، ممّا يساعد المواطنين والمؤسسات الحصول على بيانات دقيقة حول الإنفاق العام والقرارات المالية. فما هو الدور الذي تقوم به هيئة مكافحة الفساد لحلّ هذه العقد التطبيقية وفرض تنفيذ قانون حق الوصول إلى المعلومات في جميع الإدارات والمؤسسات المعنية؟

 

جهود الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في ظل غياب الالتزام الإداري

على الرغم من الاعتراضات حول عدم وجود نظام داخلي ينظم عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ما أثار تساؤلات حول مدى صلاحياتها في تنفيذ دورها، يُؤكد رئيس هيئة مكافحة الفساد القاضي كلود كرم على أنه تمّ التوصّل إلى توافق يقضي بأن صدور القانون وإنشاء الهيئة يمنحها صلاحية المضي في تنفيذه.

 

وفي هذا الإطار، أشار كرم إلى تمكّن الهيئة حتى اليوم من النظر في نحو 30 شكوى، وألزمت بموجبها الإدارات المعنية في معظم الحالات على الكشف عن المعلومات المطلوبة، وذلك وفق الصلاحيات القضائية المنوطة بالهيئة، التي تُجيز لها النظر في الشكاوى المقدّمة من المواطنين، بعد رفض أو تعذّر الوصول إلى إجابة من الإدارات التي توجهوا إليها بعد مدّة 15 يومًا من التقديم أو 30 يومًا في حال تمديد الإدارة لمهلة الرد 15 يومًا إضافيًا. وفي حال وجدت الهيئة بعد استقصاء وتتبع عملية التقديم أنه ليس هناك أي عائق قانوني يمنع مشاركة المعلومات المطلوبة، تُلزم الهيئة بالتالي الإدارة المعنية تسليم المعلومات.

 

ولكن مع إمكانية تطبيق القانون، هناك تحديات تواجه الإدارات العامة في الامتثال له، خصوصًا فيما يتعلق بتعيين موظفي معلومات في كل إدارة، وهو إجراء أساسي يفرضه القانون لضمان حق المواطنين في الحصول على المعلومات. من هنا، وبالتعاون مع الأمم المتحدة ومنظمات دولية، أجرت الهيئة مسحًا شاملًا للإدارات العامة والمحلية، بهدف تقييم مدى التزامها بتعيين موظفي معلومات وتطبيق القانون على أرض الواقع، وفق كرم.

 

تمّ وضع نتائج هذا المسح ضمن التقرير السنوي الأول حول مدى الالتزام بتطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومات 2023، الذي أطلقته الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 3 نيسان 2025، والذي أجري خلاله 310 مقابلات 190 منها كانت ناجحة، أي 61% من الإدارات المستهدفة.

 

وتبيّن إثر هذه المقابلات، أنّ مستوى المعرفة بالقانون ضعيف على الرغم من اعتبار 70% من المجيبين/ات على المستوى الوطني، وتقريباً نصف الإدارات على المستوى المحلي (49%) أنهم/ن يعرفون/ن ما يكفي عنه، غير أن تفسيرهم/ن لأحكامه تشوبه مغالطات واضحة.

 

أما بالنسبة للوصول إلى المعلومات تلقائياً وفقًا لموجبات النشر الحكمي، أقرت ما نسبتها 38% من الإدارات على المستوى الوطني، و41% من الإدارات على المستوى المحلي، بأنها لا تنشر أياً من المعلومات تلقائياً. ومن المتوقع أن تكون هذه النسبة أكثر ارتفاعاً لو تم إجراء المقابلات مع تلك الإدارات التي رفضت التجاوب. وحتى المعلومات التي نُشرت لا تتضمن التفاصيل الكاملة، ما يتعارض مع القانون.

 

أمّا عدد طلبات الحصول على معلومات التي تلقتها الإدارات على المستوى الوطني، فما زال خجولاً وفقاً للاستبيان، إذ ذكرت 44% من الإدارات على المستوى الوطني أنه لم يردها أي طلب، فيما 2% من الإدارات لم يكن لدى الموظفين/ات الذين/ اللواتي تمت مقابلاتهم/ن أي علم بما إذا كانت إدارتهم قد تلقت أي طلب، وتم تقدير عدد الطلبات ب 1763 طلباً تلقتها 98 إدارة خلال السنوات الأخيرة.

 

لهذا، بهدف تعزيز فهم الإدارات العامة والأجهزة التابعة لها لنصوص القانون وآليات تطبيقه، تُنظم الهيئة ورش عمل متخصصة، يُدعى إليها المسؤولون في مختلف الوزارات والإدارات، بهدف مناقشة كيفية تنفيذ القانون، والتوعية حول أهمية احترام حقوق المواطنين في الوصول إلى المعلومات.

 

وتواصل الهيئة جهودها في تطوير القانون وتحسينه، إذ أكد كرم على أن "الهيئة تعمل حاليًا على دراسة مقترحات لتعديله، نظرًا لاتساع نطاقه وشموله الإدارات العامة والمحلية، بالإضافة إلى تحديات التطبيق الفعلي، خاصة في البلديات، لا سيما في ظل التحديات اللوجستية التي تحول دون تمكن الهيئة من الوصول إلى كافة الأراضي اللبنانية".

 

كيف أثّر التمنّع عن النشر الحكمي للمعلومات المالية على مستوى الشفافية المالية للبنان؟

يُشكّل النشر الحكمي ركيزة أساسية لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات، إذ يُلزم الإدارات العامة بنشر المعلومات تلقائيًا وبشكل استباقي على مواقعها الإلكترونية، من دون الحاجة إلى طلبها، ليأتي طلب المعلومات كحلّ آخر للحصول على المعلومات.

 

غير أن الواقع يكشف عن تحديات جوهرية في هذا الإطار، كما تُظهر بوضوح في التقرير الصادر عن مؤسسة مهارات حول مدى تطبيق القانون. إذ تسود حالة من الغياب شبه التام لعملية النشر الحكمي في العديد من الإدارات، ما يؤدي إلى خلق فجوات خطيرة في الشفافية، ويقوّض حق المواطنين والصحافيين في الاطلاع والوصول إلى المعلومات بسهولة. بالإضافة إلى أنّ بعض الإدارات تنشر المعلومات بشكل غير قابل للبحث أو النسخ، مما يحد من فعاليتها.

 

وفي هذا السياق، يلفت أحد الصحافيين المشاركين في تقرير مؤسسة مهارات إلى أنّ "المشكلة الأولى والأساسية اليوم تكمن في أن معظم الإدارات والوزارات لا تلتزم بواجب النشر الحكمي، ما يُضيف عبئًا إضافيًا على الصحافيين وكل من يعمل في مجال مراقبة الأداء العام، ويجبرهم على خوض معارك يومية للحصول على معلومات كان من المفترض أن تكون متاحة تلقائيًا".

 

وتتعدد الأسباب التي تُعرقل تطبيق هذا المبدأ وفق التقريرين، في مقدمتها ضعف البنية التحتية ونقص الكوادر البشرية المؤهلة في العديد من الإدارات العامة، ما يحدّ من قدرتها على تحديث مواقعها الإلكترونية بشكل منتظم، أو حتى إنشائها في بعض الحالات، الأمر الذي ينعكس مباشرة على انتظام عملية النشر وسهولة الوصول إلى المعلومات.

 

كما تُستغلّ بعض الثغرات القانونية لتبرير حجب المعلومات، لا سيما تلك المنصوص عليها في المادة الخامسة من قانون حق الوصول إلى المعلومات، حيث تلجأ بعض الإدارات إلى تجزئة الفاتورة الواحدة إلى عدة فواتير تقلّ قيمتها عن خمسة ملايين ليرة لبنانية، لتفادي الالتزام بوجوب النشر، ما يُحوّل هذه المادة من وسيلة لحماية المعلومات الحساسة إلى أداة لتعطيل الشفافية في مخالفة صريحة لروحية القانون.

 

وتُضاف إلى ذلك ثقافة تكريس السرّية في بعض الإدارات العامة مقاومة داخلية لمبدأ الشفافية، إذ تُفضّل هذه الجهات الإبقاء على حجب المعلومات بدلاً من تبنّي نهج الانفتاح والمساءلة، ما يتنافى مع مبادئ الحوكمة الرشيدة ويُعيق تطبيق النشر الحكمي. 

 

وانطلاقًا من هذا الواقع، سجّل لبنان مستويات متدنية في تصنيف الشفافية المالية منذ أواخر عام 2021، بعدما توقّفت وزارة المالية عن نشر عدد كبير من التقارير والمعلومات التي كانت متاحة سابقًا للرأي العام، على الرغم من أنها كانت رائدة في المنطقة العربية في إتاحة البيانات المالية. ووفقًا للخبيرة الاقتصادية والمالية في معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، سابين حاتم، إنّ هذا التراجع يعود إلى أسباب متداخلة، أبرزها النقص في الكادر البشري داخل الوزارة، والعوائق التقنية في النظام الإلكتروني المعتمد للمعلوماتية المالية. وبالتالي، ساهم هذا التوقف في تقويض الجهود الرامية إلى تعزيز الشفافية والمساءلة، كما انعكس سلبًا على تصنيف لبنان ضمن المؤشرات الدولية لشفافية المالية العامة.

 

أما بما يخصّ التقارير التي استمّرت وزارة المالية بإصدارها، فاقتصرت حاليًا على تلك المرتبطة مباشرةً بالموازنة، مثل قانون الموازنة وموازنة المواطن ومشروع الموازنة، بينما غابت تقارير أساسية كانت تُعتبر ركيزة في عملية التقييم، كخطة الحكومة المالية السنوية وتقارير منتصف ونهاية العام والتقارير الدولية. كذلك، امتنع ديوان المحاسبة عن نشر تقارير قطع الحساب رغم إنجازه لها، ولم يُحِلها إلى مجلس النواب للمصادقة، مما أضعف الرقابة المالية وأفقد المواطنين إمكانية تتبّع مسار الأموال العامة.

 

لم تُقتصر الأزمة على المؤسسات التنفيذية فحسب، بل امتدت أيضًا إلى السلطة التشريعية، حيث تغيب الشفافية عن عمل لجنة المال والموازنة. فالمداولات التي تُجرى داخل اللجنة حول مشروع الموازنة لا تُرفَق بأي تقارير أو مستندات توثّق التوصيات والتعديلات، ما يدفع الجمهور إلى الاعتماد على التصريحات الإعلامية فقط لمعرفة ما يجري خلف الأبواب المغلقة. يمثّل هذا الغياب تقصيرًا واضحًا في الالتزام بمبدأ الشفافية، ويُفرغ النقاش العام من مضمونه الرقابي.

 

كما وتعكس نتائج "مسح الموازنة المفتوحة" هذا الواقع المتراجع بوضوح، إذ يُعدّ هذا المؤشر المرجع العالمي الأهم في تقييم مدى التزام الدول بنشر وثائق الموازنة الأساسية. ووفق نتائجه، سجّل لبنان 17 نقطة فقط من أصل 100 في مؤشر الشفافية، أي ما دون الحد الأدنى المقبول البالغ 61 نقطة، ما يؤكد ضعف التزام الدولة بنشر المعلومات المالية في الوقت المناسب وبالقدر الكافي. ووفق المنهجية المعتمدة، يُقيَّم المؤشر استنادًا إلى 109 مؤشرات موزونة بالتساوي، تُعنى برصد مدى توفر ثماني وثائق رئيسية عبر الإنترنت، وقياس شموليتها وتوقيتها، بما يُتيح إجراء نقاش عام حول السياسة المالية.

 

وأوضحت حاتم في هذا الإطار أنه "قلل لبنان من توافر معلومات أساسية مثل التقارير السنوية ومنتصف السنة، وتقرير التدقيق. كما أنه لا ينشر مطلقًا الميزانية الرئيسية وبيان ما قبل الموازنة الذي يُحدّد التوقعات الاقتصادية، والإيرادات، والنفقات، والديون المتوقعة. أما قانون الموازنة وموازنة المواطن يتم نشرهما ولكن متأخرين لأن الموازنة لا تُقر ضمن المهل الدستورية".

 

لهذا، تكشف هذه المعطيات، بمجملها، عن أزمة بنيوية في الالتزام بالنشر الحكمي، وعن غياب إرادة فعلية لدى مختلف الجهات المعنية لتكريس حق الوصول إلى المعلومات كأداة أساسية في محاسبة السلطة وتحقيق الشفافية المالية.

 

خارطة طريق إصلاحية لتعزيز الشفافية المالية وتفعيل قانون الوصول إلى المعلومات

تتطلّب مواجهة التراجع في الشفافية المالية في لبنان تبنّي حزمة من التوصيات العملية والإصلاحات البنيوية التي من شأنها تحسين مستوى الإفصاح المالي وتعزيز دور الرقابة والمساءلة. وفي هذا الإطار، أوصى مسح الموازنة المفتوحة بضرورة نشر الموازنة المقرّة وموازنة المواطن بشكل دوري عبر الإنترنت، إلى جانب إصدار بيان ما قبل الموازنة، ومراجعة منتصف السنة، وتقرير نهاية العام، وتقرير التدقيق النهائي في الوقت المناسب. كما يُفترض أن يتضمّن مقترح الموازنة الصادر عن السلطة التنفيذية بيانات مفصّلة حول النفقات والايرادات تمتد لسنتين قبل سنة الموازنة وسنتين بعدها، إلى جانب عرض الافتراضات الاقتصادية، مؤشرات الأداء، والسياسات المالية المعتمدة.

 

ولا بدّ من تفعيل دور لجنة المال والموازنة في متابعة تنفيذ الموازنة خلال العام، ونشر تقاريرها بشكل منتظم للرأي العام، فضلاً عن ضرورة استشارتها قبل إجراء أي تعديلات على بنود الإنفاق أو التحويلات المالية. كما يجب تعزيز استقلالية ديوان المحاسبة من خلال ربط تعيين رئيسه بموافقة تشريعية أو قضائية، وتحديد ميزانيته من جهة مستقلة كالمجلس النيابي، وضمان مراجعة نتائج التدقيق من قبل هيئة مستقلة لتعزيز الحياد المؤسسي.

 

وينبغي أيضًا تفعيل دور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، من خلال تمكينها من تلقّي الشكاوى والتحقيق بها بشكل فعّال، وضمان استقلاليتها، ومنحها الصلاحيات القضائية الكاملة لتطبيق القانون. ولا تكتمل الإصلاحات من دون إشراك المواطنين وتعزيز وعيهم بالقوانين الناظمة للشفافية، وعلى رأسها قانون حق الوصول إلى المعلومات.

 

إذًا، يكشف واقع الشفافية المالية في لبنان عن أزمة مزمنة في بنية الحكم المالي، تتخطى ضعف النشر وتقصير الإدارات، لتعكس غياب الإرادة السياسية الجدية في مأسسة الحق في الوصول إلى المعلومات وتفعيله كأداة للمساءلة. وبينما تؤكد المؤشرات الدولية ومبادرات الرقابة المجتمعية تراجع الالتزام بالمعايير الأساسية، تبقى فرص الإصلاح قائمة، شرط تحويل التوصيات إلى سياسات فعلية وخطط تنفيذية مترابطة، تبدأ من تعزيز شفافية الموازنة، وتفعيل دور البرلمان، وضمان استقلالية ديوان المحاسبة، وتمكين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وصولًا إلى إشراك المواطنين من خلال تبسيط القوانين ونشر الوعي. فاستعادة الشفافية ليست ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة وطنية لحماية المال العام، وبناء دولة قائمة على النزاهة والثقة والمساءلة.

 

تم نشر هذا التقرير أيضًا على موقع elgherbal.org.