تضطّر الطالبة الجامعية رانيا القاطنة في قرية "بان" في قضاء بشري، للاستيقاظ يومياً عند الخامسة فجراً لتتمكن من الوصول إلى بشري، التي تبعد نحو عشر دقائق بالسيارة، حيث تنطلق باصات شركة خاصة نحو بيروت.
وتقول: "ما في باصات للدولة بتوصل لقريتنا، والتكاسي صارت كتير غالية. مصروف النقل عم يزيد علينا يوم بعد يوم، وإذا ما لحقت السيارة الصبح أو ما لقيت حدا يوصلني، بضطر غيب عن صفوفي".
يلعب النقل المشترك دوراً مهماً في تحسين نوعية حياة المواطنين وتعزيز التنمية المتوازنة في مختلف البلدان. أمّا في لبنان، يعاني هذا القطاع من الإهمال منذ عقود، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة الوطنية، أصبحت كلفة التنقل عبئًا يوميًا على شريحة واسعة من المواطنين، ما جعل إعادة إحياء النقل المشترك حاجة ملحّة لا تحتمل التأجيل.
في هذا السياق، كانت قد قدّمت الدولة الفرنسية هبة للبنان في أيار 2022، شملت 50 حافلة حديثة مخصّصة لتفعيل النقل العام، ومع ذلك اصطدم المشروع بعدد من العراقيل التي أخّرت تفعيله، أبرزها الدراسات اللوجستية المتعلقة بتوزيع الخطوط، وارتفاع تكاليف التشغيل من وقود وصيانة، في ظل ضعف التمويل العام وتدنّي رواتب العاملين في القطاع.
وخلال توليه وزارة الأشغال العامة والنقل في 2022، أطلق الوزير علي حمية مشروعًا يهدف إلى تسيير 96 حافلة وفق خطوط مدروسة، تعتمد على التكنولوجيا الحديثة (GPS، كاميرات مراقبة، تطبيق تتبع، ونظام دفع إلكتروني) ضمن إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص. واعتُبر هذا المشروع خطوة نوعية نحو تنظيم قطاع النقل بشكل عصري، مع تأكيد أنه سيكون شاملًا لجميع المناطق اللبنانية.
غير أن الواقع على الأرض كان مختلفًا عمّا رُوّج له، فعند إطلاق الحافلات رسميًا في 10 تموز 2024، تبيّن أن المشروع اقتصر بشكل كبير على بيروت وبعض الضواحي، ولم يَطَل فعليًا العديد من المناطق، خصوصًا في شمال لبنان والقرى البعيدة التي تبقى حتى اليوم خارج تغطية هذا النظام الجديد.
الأمر الذي طرح تساؤلات حول مدى شمولية المشروع وفعاليته في معالجة الفوارق الجغرافية والاجتماعية، خاصة أن الفئات الأكثر حاجة إليه تعيش في تلك المناطق البعيدة نوعاً ما عن المدن.
النقل المشترك: ضعف القطاع نتيجة لضعف التخطيط
يُعرّف النقل المشترك رسميًا على أنه وسيلة لنقل مجموعة من الأشخاص مقابل بدل مادي، ضمن خطوط ومواعيد منتظمة.
لكن في لبنان يختلف الوضع، إذ يوضح الخبير في النقل البري علي الزين في مقابلة لـ مهارات نيوز" إن هذا المفهوم يعاني من اختلالات حادّة، لا بسبب غياب الموارد فقط، بل نتيجة غياب التخطيط وسوء الإدارة.
ويشرح الزين أن المشكلة الأساسية تكمن في النظرة غير الواقعية لطبيعة توزيع السكان، إذ "لا يمكن الحديث عن خطوط نقل مشترك في القرى أو المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة"، مؤكدًا أن هذا الأمر ليس فريدًا في لبنان، بل هو قاعدة عالمية. فالنقل المشترك عادةً ما يكون فعّالًا ومجديًا في المناطق المكتظة سكانيًا، حيث تتوافر أعداد كافية من الركاب تبرّر تشغيل الخطوط بشكل دائم.
في هذا الإطار، يشير رئيس اتحاد النقل البري بسام طليس في مقابلة لـ"مهارات نيوز" إلى أنّ "قطاع النقل البري في لبنان ينقسم إلى شقين: أحدهما عام تابع للدولة، والآخر خاص". ويلفت إلى أن "الاتحاد قدّم في العام 2011 خطة شاملة لتطوير القطاع، وضع فيها النقل المشترك على رأس الأولويات". إلا أن غياب الدولة خلال العقدين الماضيين، بحسب تعبيره، ساهم في ترسيخ اعتماد المواطنين على النقل الخاص (أي العمومي).
ويشير طليس إلى أن "الدولة اللبنانية فعّلت النقل المشترك في العام الماضي، لكنها فشلت في تشغيله بالشكل المطلوب بسبب غياب الاعتمادات المالية اللازمة لدعم هذا القطاع، ما اضطرها إلى تلزيمه للقطاع الخاص ضمن خطة شاملة تهدف إلى الوصول إلى مختلف المناطق اللبنانية". موضحاً أنه خلال الأشهر الماضية تم فتح خطوط نقل جديدة إلى مناطق مثل صور، صيدا، طرابلس، شتورا وغيرها، بمعدل خط جديد كل شهرين إلى ثلاثة أشهر.
الجهود الحالية: غير كافية
يقول جهاد، وهو موظف في مؤسسة خاصة ويقيم في إحدى القرى النائية في عكار: "ليت الباصات تصل إلى منطقتنا. أضطر يوميًا للذهاب إلى بيروت بسيارتي الخاصة، ما يحمّلني أعباءً متزايدة من مصروف البنزين، فضلًا عن زحمة السير والضغط اليومي على الطرقات".
من هنا، ووفقًا للمعايير العالمية، يُفترض أن يتمكّن الفرد من الوصول إلى أقرب خط نقل خلال 5 إلى 12 دقيقة سيرًا على الأقدام. ومن هنا، تُنظّم المدن شبكات نقل مترابطة تُراعي هذه القاعدة، بينما تُربط القرى الصغيرة عادةً بمركز موحّد، من دون الحاجة إلى تسيير خطوط بين القرى نفسها، إلا في حال قرّر اتحاد البلديات إنشاء خط خاص ضمن نطاقه الجغرافي.
لكن في لبنان، ورغم وضوح هذه المعايير الدولية، لا توجد خطة وطنية واضحة أو مُلزمة تحدد خريطة النقل العام. ويرى الخبير في النقل البري علي الزين أن غياب هذه الخطة هو من أبرز التحديات التي تُواجه قطاع النقل المشترك. "نحن نفتقر إلى منظومة تُجبر السائقين أو المشغّلين على الالتزام بخطوط معيّنة، وتسعيرات مُحددة، ومستوى سلامة واضح"، يقول الزين، مضيفًا أن الدولة لا تضع أي شروط أو آليات تنفيذ فعلية، مما يجعل كل المبادرات سطحية وغير مستدامة.
أما طليس، فيرى انه وبالرغم من تفعيل النقل المشترك وتوسيع الخطوط لتسمل مناطق أكثر، إلاّ أن "هذا لا يلبي الحاجة الفعلية للناس"، مشيرًا إلى أن "عدد الحافلات العاملة لا يتجاوز الـ90 حافلة (منها تلك التي وصلت من فرنسا وتلك التي تم إصلاحها محليًا)، في حين أن القطاع بحاجة إلى نحو 6000 حافلة لتغطية حاجات النقل بشكل فعّال". ويؤكد أن النقل الخاص هو من يتحمّل العبء الأكبر حاليًا، لكنه دعا إلى تعزيز النقل المشترك، مشددًا على أنه لا يتعارض مع النقل الخاص بل يتكامل معه.
وعن دور الدولة، يقول طليس إن "الاتحاد يسعى إلى تطبيق قانون السير، الذي من شأنه حماية قطاع النقل ومنع الجهات غير القانونية من العمل، مثل التوك توك والدراجات النارية وغيرها من الوسائل غير المرخّصة".
ويختم الزين: "في لبنان، همّ الدولة هو الشكل والمظاهر، وليس إفادة المواطن". وهذا ما يفسر لماذا تُطلق المشاريع غالبًا بصخب إعلامي، دون أن يتبعها تنفيذ فعلي يلبي حاجات الناس، لا سيما في المناطق الطرفية والمهمّشة.
اجتماع لمناقشة خطة النقل: تشاؤم من بطئ التنفيذ
في إطار أبرز التطوّرات في ما يخص النقل البري، عقد اجتماع في 10 حزيران 2025 في منزل رئيس الحكومة نواف سلام، جمعه برئيس اتحاد النقل البري بسام طليس وعدد من المعنيين، لبحث خطة إصلاح قطاع النقل في لبنان.
غداة هذا اللقاء، شارك طليس، في جلسة حكومية موسّعة برئاسة سلام، عُقدت صباح يوم 11 من الشهر الماضي (آي في اليوم التالي) بالسراي، وبحضور كل من: وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجار، وزير العمل محمد حيدر، رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، ممثل موزعي المحروقات فادي أبو شقرا، وعدد من أعضاء الاتحاد العمالي العام.
وقد تم الاتفاق خلال الاجتماعين على دعم قطاع النقل البري عبر إعفائه من بعض الرسوم، على أن يدرس وزير المالية آلية التنفيذ. كما تقرر البدء الفوري بتطبيق قانون السير بالتعاون مع القوى الأمنية لتنظيم القطاع وتعزيز السلامة. وشُدّد طليس على ضرورة ضبط المخالفات والتعديات كالتزوير والسائقين غير اللبنانيين.
وقد عبّر طليس خلال مقابلته مع "مهارات نيوز" عن تشاؤمه من بطء التنفيذ وعدم الجدية في متابعة هذا الملف، مؤكدًا أن "المطلوب الآن من الدولة أن تذهب إلى تطبيق القانون وتفعيل ما تم الاتفاق عليه من دون تأخير".
إذاً، قطاع النقل البري في لبنان يعاني من ضعف التنسيق وغياب الدعم الحكومي الفعلي، ما يترك الملايين من المواطنين في المناطق الريفية يعانون يوميًا من خدمات غير كافية ومكلفة. رغم الخطط والإعلانات التي تلتقي على أهمية النقل المشترك وتطبيق قانون السير، فإن التنفيذ لا يزال بطيئًا ومبعثرًا، مما يستدعي إرادة سياسية حقيقية وتعاونًا بين الدولة والقطاع الخاص لضمان نقل أفضل وأكثر أمانًا لجميع اللبنانيين.