Loading...

الضرائب والجباية بين عامي 2024 و 2025: هل نتعلّم من التجارب؟!

 

شكلت الموازنة العامة للدولة اللبنانية مُعضلة أساسية في السنوات الأخيرة، فلا تكاد تخلو سنة أُقرت فيها موازنة، إن أقرت أصلاً، إلا طالتها الاعتراضات، تارة حول دستوريتها ومدى إقرارها ضمن المهل أو إقرارها من دون قطع الحساب السنوي، وتارة أخرى حول مدى واقعية أرقامها أو للضرائب والرسوم العالية التي تحتويها، وخاصة في فترة ما بعد الانهيار المالي عام 2019.


تُعدّ الموازنة أساساً للانتظام المالي ومعياراً للشفافية في الإنفاق الحكومي، ونادت كل الجهات والمؤسسات الدولية التي حضرت إلى لبنان بضرورة إقرارها وفق أرقام واضحة وضمن إطار اقتصادي واضح وشفاف. ومع انطلاقة العهد الجديد بانتخاب العماد جوزف عون رئيساً للبلاد في التاسع من كانون الثاني/ يناير، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة نواف سلام ونيلها الثقة في 26 شباط/ فبراير، بات إقرار الموازنة أمراً ملحاً. وبناءً على ذلك، صدر في 11 آذار/ مارس 2025 عن رئيس الجمهورية مرسوم يحمل الرقم 56 ينصّ على اعتبار مشروع موازنة عام 2025 المُحال إلى مجلس النواب بموجب المرسوم رقم 14076 مرعياً ومعمولاً به. جاء هذا القرار بالاستناد إلى المادة 86 من الدستور اللبناني التي تسمح للحكومة بإصدار الموازنة بموجب مرسوم إن لم يبتّ مجلس النواب في شأن مشروع الموازنة بعد انقضاء العقد العادي والاستثنائي لعملية درسها.

 

طالت هذه الموازنة سهام الانتقادات والجدل، بين رأي الحكومة التي تعتبر أنها أفضل الممكن لضمان استمرارية المرافق العامة والخدمات الأساسية، وعدم التوجه للصرف وفق القاعدة "الاثني عشرية"، وبين رأي خبراء اقتصاديين يرون عدم واقعية أرقامها لكونها أُرسلت قبل توسع الحرب التي فرضت زيادة في النفقات يجب أن تُلحظ وتقلص الإيرادات المتوقع تحصيلها.

 

ومن الانتقادات الكبيرة للموازنة الحديث عن احتوائها ضرائب ورسوماً باهظة ستؤثر حتماً على الجباية لانخفاض قدرة المواطنين على الأداء. ولذا كُلّف وزير المال إعداد قانون لمراجعة الضرائب المدرجة في هذه الموازنة، خاصة أن التدابير الضريبية على السلع والخدمات المحلّية التي تم تضمينها في الموازنة أثارت قلقاً كبيراً لدى القطاع الخاص.


وإلى حين جلاء الحالة التي ستنتهي إليها الضرائب في موازنة 2025، يناقش هذا التقرير التجربة السابقة لموازنة عام 2024 وما فُرض فيها من رسوم وضرائب، ويحاول معرفة كيف أثرت هذه الرسوم على الجباية؟ وماذا عن “اللاعدالة الضريبية" بين المكلفين؟ وأفضل التوصيات لتعزيز الجباية.


ضرائب موازنة 2024
من أكثر ما لم يتمنّه أي مواطن لبناني طيلة الأعوام الماضية، وتحديداً ممن يعانون من تبعات الأزمة الاقتصادية، أن تزداد عليه الرسوم والضرائب على السلع الأساسية التي يستخدمها يومياً، ما يُرتب عليه أعباءً إضافية لا يستطيع تحملها. فهل كانت موازنة 2024 ضرائبية؟ وهل كرّست “اللاعدالة الضريبية"؟

 

بحسب كتيّب "موازنة المواطنة والمواطن" الصادر عن معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي ارتكزت موازنة 2024 على تعزيز الإيرادات الحكومية، من خلال:

- إعادة تقييم الشطور الضریبیة مثل الضريبة على الأرباح.
- دولرة بعض الضرائب والرسوم مثل الضريبة على الرواتب والأجور.
- تعدیل بعض المبالغ الخاضعة للضريبة، مثل الضريبة على القيمة المضافة.
- زیادة بعض الضرائب التصاعدیة، مثل ضریبة الدخل لغیر المقیمین.

 

وتظهر الأرقام أن الإيرادات المتوقعة من الضرائب غير المباشرة كالضريبة على القيمة المضافة، والرسوم الجمركية هي الأعلى، بينما نجد أن الضرائب المباشرة كالضريبة على الأرباح وعلى الرواتب والأجور ضئيلة جداً.

 

كذلك احتوت الموازنة على بعض الإعفاءات منها: 

- إعفاء الأشخاص الذین یقومون بعملیات تسلیم أموال أو تقدیم خدمات بین 100 ملیون و5 ملیارات ل.ل. خلال الأعوام 2020 لغاية 2023 من موجب التسجيل في الضريبة على القيمة المضافة ومن كل الموجبات الأخرى المفروضة عن تلك الفترة (المادة 14).

- إعفاء السيارات والمركبات والآليات غير الملوثة للبيئة من الرسوم الجمركية، ورسم الاستھلاك الداخلي و70% من رسم التسجيل ورسوم السیر (المیكانیك) لدى التسجیل للمرة الأولى فقط، وكذلك السيارات الجديدة الھجینة بنسب مختلفة (المادة 69).

 

يقول رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين (ALDIC) المحامي كريم ضاهر إنه في موازنة عام 2024 لم يتغير شيء في تكوين هيكلية الضرائب بل الموضوع الأساسي والأكبر كان مضاعفة الرسوم والشطور.

 

ويشرح ضاهر أن شطور الضرائب المباشرة "ضريبة الدخل والأرباح التجارية والصناعية وغير التجارية، ضريبة الرواتب والأجور، رسوم الانتقال، الضريبة على إيرادات الأملاك المبنية" كانت وفق سعر الصرف 1500 ليرة مقابل الدولار. وتمت مضاعفتها 60 ضعفاً لتتناسب مع ما كانت عليه الأوضاع سابقاً.


أما بالنسبة إلى الضرائب غير المباشرة، والرسوم المتفرقة في الوزارات المختلفة، والخدمات المقابلة، والرسوم القضائية وغيرها، فقد تضاعفت، ولكنها لم تُضاعف كلها 60 ضعفاً، فبعضها تضاعف 45 و46 ضعفاً كي لا تكون ثقيلة جداً على مستهلك الخدمات (المستهلك النهائي).


"لهذا السبب شعر الناس بأنه تمت زيادة الضرائب، ولكن فعلياً فالضرائب عادت إلى ما كانت عليه، ولكن مع سعر صرف جديد ثابت".

 

وعن "اللاعدالة الضريبية" يؤكد ضاهر أنها تكمن في أن هناك أشخاصاً ودائعهم محجوزة في المصارف وخاصة الودائع بالعملة الأجنبية، ولا يُسمح لهم بتسديد الضرائب المتوجبة عليهم من خلال حساباتهم. كما أن بين العاملين في قطاعات معينة، من يدفع ومنهم من لا يدفع، نتيجة غياب الرقابة على الالتزام الضريبي، "في ناس بسمنة وناس بزيت".

 

اللاعدالة، بحسب ضاهر، ليست موجودة فقط في تكوين نظامنا الضرائبي، اللاعدالة موجودة من حيث تطبيق نظامنا الضرائبي، فموضوع الالتزام الضريبي متروك من دون معالجة فعلية.


تحديات الجباية في 2024
يرى ضاهر أن الالتزام الضريبي تغيّر بسبب الوضع الاقتصادي في البلد، فمثلاً يمكن ملاحظة أنه في عام 2024 حصلت أزمة ناتجة من الحرب التي خفضت الاستهلاك، وبالتالي تكون انخفضت إيرادات الضريبة على القيمة المضافة، وقد تكون الرسوم الجمركية أيضاً تأثرت نتيجة انخفاض الاستهلاك، وحالة التقشف التي مررنا بها وانكماش القطاع السياحي.


هذه الأوضاع تؤثر على جباية كل الضرائب المباشرة لأن المؤسسات انخفض ربحها، ما ينعكس على ضريبة الدخل. وبناءً على ذلك يوصي ضاهر بضرورة درس الضرائب وايراداتها ونتائجها في ضوء المستجدات والظروف الخارجية أكثر من بحثها من خلال النظام الضريبي بنفسه، فلم يتغير شيء في الفلسفة الضريبية خلال هاتين السنتين.


في محاولة لرصد انعكاسات هذه الموازنة على الجباية في عام شهد تحديات كبيرة ألقت بظلالها على الإدارة والمؤسسات، تقدمنا بطلب حصول على معلومات إلى وزارة المالية في 10 كانون الثاني من العام الجاري ولم نحصل على الرد حتى منتصف نيسان (خارج المهلة الرسمية)، وجاء الرد على الشكل التالي:

 

"وحيث انكم تطلبون معلومات حول الجباية الضريبية عن عامي 2023 و2024، وحيث إن اشعارات الدفع المسددة عن العامين 2023 و2024 غير منجز إدخالها في أنظمة الخزينة لدى وزارة المالية لغاية تاريخه، يرجى أخذ العلم بأنه يتعذر على وزارة المالية إجابة طلبكم حاليا، ولكن يمكنكم الانتظار ريثما يتم انجاز ادخال الاشعارات المشار إليها أعلاه التي يعمل عليها بالسرعة الممكنة".


وعن تحديات الجباية يشرح مصدر متابع لملف الجباية أن عدم جاهزية الموقع الإلكتروني المخصص لتقديم التصاريح يُعد العائق الأبرز والأهم الذي عرقل جباية الضرائب عن عام 2024. ويرى أن عدم وضوح القرارات في ما يتعلق بمضمون التصاريح عن ضريبة الدخل والأرباح يشكّل عثرة إضافية أيضاً.


وعن تدابير قامت بها وزارة المالية عام 2024، لفت المصدر إلى أن الوزارة أجرت مسحاً ميدانياً طال عدداً كبيراً من المناطق اللبنانية، مشيراً إلى أن المحال والمؤسسات في بعض المناطق كانت تقفل حينها كي لا تزوّد مراقبي وزارة المالية بالمعلومات.

 

وفي التحديات أيضاً هناك قانون الفوترة الإلكترونية الذي لم يُنفذ، مع العلم بأنه كان يمكن أن يُقدم للوزارة بيانات مفيدة للجباية من مؤسسات كبيرة. وفي هذا السياق، أكد المصدر أن الأهم من إصدار القوانين هو تحديد آلية التنفيذ والقيام بالبرمجة اللازمة.


توصيات لمكافحة التهرب وتعزيز الجباية
يُعدّ التهرب الضريبي وقلّة الجباية مشكلة حقيقية قد تمنع الحكومة من القيام بواجباتها البديهية مثل تقديم الخدمات الأساسية للمواطن كالتعليم والطبابة وغيرها، كذلك تمنعها من التدخل في الحياة الاقتصادية عبر الضرائب لتحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة والنمو المتوازن بين المناطق. والأهم أن تحصيل الضرائب يُقلل من الزبائنية وتصبح علاقة المواطن مع الدولة مباشرة وليست مع الزعيم. ولكن كيف نعزز الجباية؟


بحسب المحامي كريم ضاهر فإن المطلوب اليوم إصلاحات فعلية واتخاذ قرارات جدّية قد لا تُعجب الجميع، ولا بد من الإشارة إلى أن أي زيادة ضريبية غير مدروسة اليوم يمكن أن تُعطي نتائج عكسية وتحفز التهرب الضريبي وعدم المواطنية الضريبية.


"أول الغيث هو تكبير قاعدة المكلفين عبر مكافحة الاقتصاد غير الشرعي، تعميم الرقم الضريبي، مكننة الإدارة وتصحيح الخلل البنيوي الموجود. وزيادة على ذلك، يجب إظهار قصص نجاح للمواطن من خلال جباية ضريبة مخصصة لتحقيق هدف محدد، وهذا ما يُسمّى الـ"Earmarked Taxes". يشرح ضاهر.

 

يمكن على سبيل المثال جباية ضريبة على النشاطات التي تضر بالبيئة تسمّى "Sin tax" وتخصيص الإيرادات لتوفير بطاقة طبية للبنانيين، أو فرض ما يُعرف بالـ"vacancy Tax" وهي ضريبة على الأملاك غير المُستعملة لتحفيز استخدامها. هذه كلها أمثلة عن قصص نجاح تُعطي نتائج إيجابية وتحفّز المواطن لدفع الضريبة بشكل إرادي.


وفي السياق، شرحت خبيرة الإصلاح الضريبي السابقة في وزارة المالية لينا التنير أن من بين النتائج التي توصلت إليها الدراسة التقييمية للنظام الضريبي في لبنان التي أعدتها، أنه يجب الاعتماد على الضريبة التصاعدية والحد من الإعفاءات الضريبية والحالات الخاصة الموجودة في القانون الضريبي والتي تشكل عبئاً كبير اًعلى الإدارة وتشكل فوارق بين مختلف مكوّنات المجتمع، وكذلك الاعتماد على الضرائب المباشرة أكثر من الاعتماد على الضرائب غير المباشرة.


"وتطرقت الدراسة إلى الشق الإداري بالحديث عن الحاجة للموارد البشرية، إذ إن جزءاً كبيراً من الكوادر غادر العمل بالإضافة إلى الحاجات المعلوماتية الكبيرة فنظام الجباية والتدقيق والمتابعة والمراقبة الذي كان يعمل عليه بات بحاجة للتطوير والصيانة"، قالت التنير.


وأكدت ضرورة تبسيط النظام الضريبي لأنه معقد، لافتة إلى أنها عندما أجرت مقابلات مع الموظفين اشتكوا من كثرة الإعفاءات والقرارات والمراسيم والتعقيدات. وزادت: "في الدراسة تناولنا موضوع السرية المصرفية التي شكلت عائقاً كبيراً في وجه الملاحقة والفعالية بحيث باتت الإدارة تعمل من خلال لملمة الخيوط".


للإعلام دور أساسي
يُعدّ دور الإعلام أساسياً في الإضاءة على الثغرات في كل القطاعات، ولا سيما الأمور المالية والاقتصادية وهو حجر أساس في الرقابة والدفع نحو الشفافية.

 

هنا شرحت الصحافية الاقتصادية عزّة الحاج حسن أن دور الإعلام ضروري في التدقيق في كل بند أو رسم أو ضريبة مُستحدثة تُفرض على المواطنين، وخاصة في بلد مثل لبنان حيث معظم الأموال التي تدخل خزينة الدولة هي أموال ضريبية.

 

وأكدت الحاج حسن أن على الصحافيين التدقيق ومراقبة إن كانت هذه الضرائب عادلة بالنسبة إلى المواطنين وضرورية للدولة ولها جدوى مالية. وأضافت: "هذا ما أحرص عليه كصحافية، فمع كل موازنة تقر ومع كل تعديل ضريبي، ألاحق المسار وأقارنه بما يجري في دول أخرى".


"لا أستطيع كصحافية أن أكون على مسافة واحدة بين الدولة والمواطن، بل أُضطر لأن أكون منحازة إلى المواطن بسبب التجارب التي أثبتت أن معظم الضرائب التي تُفرض لا تأخذ "كما يجب" في الاعتبار وضع المواطن والشرائح الاجتماعية الضعيفة".


وعن دور الإعلام في الضغط، قالت الحاج حسن: "أذكر في موازنة سابقة طُرحت ضريبة على الدخل تخص رواتب الموظفين بالدولار، وارتفعت الشطور والنسب بشكل مجحف وغير متناسب مع الأزمة وقتها، فتعاون عدد من الصحافيين لكتابة تقارير عن الموضوع، وجرى تواصل مع وزير المال، وعندها عُدّل الأمر، وهذا يُظهر الدور الأساسي للإعلام".

 

تم نشر التحقيق أيضًا على موقع النهار.