كتب ربيع يونس وأيمن شحادة:
يختلف تأثير حالات الحرب والطوارئ وتجربتها اختلافًا كبيرًا بين أفراد المجتمع، كما تختلف آليات الإستجابة والتأقلم في التعامل مع آثار الأزمات والتهجير. حيث تولد لدى البعض مشاعر اليأس الشديد بعد الحرب ويجدون صعوبة في التأقلم والخروج من الأزمة.
وغالبًا ما تتوفر للنساء موارد مالية أقل للتأقلم مع الإصابات والخسائر في الممتلكات وفقدان الدخل، كما يواجهن عقبات إضافية في الحصول على الرعاية الصحية. كما وأن تمثيلهنّ ضعيف في دوائر اتخاذ القرارات المتعلقة بإيصال المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى وجود فجوات في البيانات المتعلقة بالنوع الاجتماعي والتحيّز القائم على النوع الاجتماعي في التخطيط، ما يشكّل بالتالي حواجز تعترض سبل التقدم.
"تجربة الحرب كانت قاسية جداً بالنسبة لي، وقد تعرضت للعديد من الصدمات النفسية"، بهذه الكلمات وصفت ريم (إسم مستعار لإحدى المشاركات في مبادرة "كيفنا") حالها بعد الحرب، تعمل على تخطي الخوف والصدمة، خاصة وأن أطفالها يحتاجونها قويةً وسنداً لهم في الحياة اليومية.
وتلفت ريم إلى أنها لم تكن تتوقع أنها ستتحدث عن تفاصيل ما عانته بهذه السهولة، كما أنها لم تكن تتوقع أن تتكلم بهذه الكمية التي تحدثت بها، حيث طال حديثها، وقد شعرت براحة نفسية كبيرة بعد مشاركة تجربتها عن ما تعانيه بعد الحرب، وبعد سماع تجارب الآخرين.
حالها كحال إيمان (من المشاركات في مبادرة "كيفنا")، التي تعرضت لصدمة خسارة عدد من أقاربها في الحرب دفعة واحدة في غارة اسرائيلية، وتحاول حالياً تخطي الأثر الكبير الذي تركته هذه الحادثة لديها. فبعد أن عانت من الكآبة، نصحها عدد من أصدقائها بالمتابعة النفسية لتخطي ما حدث، وهذا ما دفعها للجوء إلى مبادرة "كيفنا" للحصول على المساعدة.
وتضيف "الموضوع لم يكن سهلاً، لا التأقلم ولا الحديث، إلا أن ما ساعدني على المتابعة والإستمرار تجارب الآخرين من حالات مشابهة لحالتي ساعدتهم الجلسات على الخروج من الحالة النفسية الصعبة جراء صدمات الحرب".
وتؤكد إيمان أهمية الإنخراط في أنشطة الدعم النفسي لتخطي الأزمات بعد أن ساعدتها الجلسات التي حضرتها على دعم حالتها وقدرتها على التعاطي مع المحيط بطريقة أفضل، وقدرتها على متابعة حياتها اليومية وتخطي صدمة الخسارة الجماعية المفاجئة.
"كيفنا" بعد الحرب!
تمكين المرأة ليس مجرد مطلب، بل هو ضرورة لضمان تعافٍ مجتمعي واقتصادي مستدام، إذ يُحدث إشراك النساء فارقًا كبيرًا في إعادة تكيّف المجتمع بعد الحرب وخروجه من الصدمة؛ ومن هنا تبرز أهمية إيجاد بيئة داعمة تتيح للمرأة تولي أدوار قيادية، وتمكنّها من المساهمة الفعالة في عمليات إعادة الإعمار وصنع القرار، كما ولا بدّ من تعزيز دور المرأة في التخطيط الاستراتيجي المحلي.
وفي هذا الإطار تشير المعالجة النفسية والأخصائية صاحبة مبادرة "كيفنا"، حنان نصر إلى أن هذه المبادرة جاءت نتيجة الحالة الملحة في المجتمع لدعم الفئات المهمشة وتحديداً النساء والإلتفات إلى صحتهن النفسية، من خلال خلق بيئة آمنة لهن للتعبير عن مكنوناتهن.
إنطلقت هذه المبادرة بعد جولة على النازحين والإطلاع على أوضاعهم، وإنطلاقاً من أهمية الشعور بتقديم الدعم للمجتمع لا سيما الفئات المهمشة وتحديداً النساء، وهي قررت أن تكون شريكة أساسية في العمل الإجتماعي بعد الحرب لمساعدة من تعرضوا لصدمات للخروج من أزماتهم.
وتضيف أن المبادرة جاءت لمساعدة المتضررين/ات على كسر ظاهرة الخوف، عبر مشاركة مشاعرهم وأفكارهم، بعد إحساسهم بالأمان خلال المشاركة بالجلسات الجماعية. وقد أثارت هذه المبادرة وجلساتها ردود فعل إيجابية وتفاعلية.
وفيما يخص الصحة النفسية للنساء، تشرح نصر، في حديث إلى موقع "وردنا"، أنه تمّ تنظيم ورشات عمل وجلسات دعم جماعية للمساندة و استشارات فردية مع متخصصين لنشر الوعي حول أهمية الصحة النفسية، ومساعدة النساء على التطور وتحويلهم إلى بعض المهن والاختصاصات، والعمل على إدارة الضغط النفسي والتحديات، ومساعدة المرأة على إدارة ضغطها النفسي من خلال برنامج لإدارة الأزمة وتفريغ الضغط النفسي لإكمال الحياة بطريقة طبيعية وتحسين جودة حياتهن.
وتؤكد نصر على أن هذه المبادرة أتاحت للعديد من المتضررين/ات المشاركة في جلسات تفريغية مع الآخرين للحديث عن مشاعرهم ومشاكلهم، مع فئات عمرية مختلفة، وعن أبرز ما عانوه خلال الحرب. وأن المبادرة طالت كل الشرائح العمرية، ولاقت إقبالاً كبيراً. وتعتبر أن هذه الجلسات الجماعية من أنجح الجلسات بعد الحرب، لأن من يشارك فيها يتشجع للحديث عن تجربته بعد سماع تجارب الآخرين ويكسر حاجز الخوف لديه من خلال التعبير أو البكاء.
أين الصحة النفسية من السياسات العامة؟
في ظلّ الحرب، تتعرض الصحة النفسية للأفراد لتحديات كبيرة وصدمات مؤلمة، تجعل الحفاظ على السلام الداخلي أمرًا بالغ الأهمية، حيث يمرّ الفرد أثناء الحرب بأسوأ حالاته النفسية، بسبب ما يعانيه من مصاعب نتيجة ما يراه ويعيشه هو وجميع أفراد أسرته وأصدقائه. وتشكل "الصحة النفسية خلال الحرب" محوراً أساسياً يسهم في تعزيز قدرة الأفراد والمجتمعات على التكيّف مع ضغوط الحياة والأزمات المتتالية.
وفي لبنان، تم إنشاء البرنامج الوطني للصحة النفسية ضمن وزارة الصحة العامة في العام 2014، ليكون الجهة المسؤولة عن الصحة النفسية في لبنان وقائد عملية إصلاح نظام الصحة النفسية في البلاد. في العام 2015، أطلق البرنامج الإستراتيجية الوطنية الأولى للصحة النفسية في لبنان، والتي امتدت من 2015 إلى 2020.
مؤخراً تمّ وضع الإستراتيجية الوطنية للصحة النفسية في لبنان (2024-2030)، التي تهدف إلى تحفيز الجهود لتحسين الصحة النفسية في جميع أنحاء البلاد. وقد بدأت الوزارة مع جميع أصحاب المصلحة بتنفيذ "الخطة الوطنية المشتركة لإستجابة وجهوزية قطاع الصحة النفسية في حالات الطوارئ: في سياق خطر الحرب على لبنان"، ومن أهم أهداف الإستراتيجية:
- ضمان زيادة الوعي حول الصحّة النفسية والحد ّمن المفاهيم الخاطئة واعتماد وتنفيذ التدخلات المثبتة فعاليتها في الوقاية من مشاكل الصحّة النفسية. ويشمل ذلك التأكيد على أهميّة معالجة العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثّر على الصحّة النفسية.
- تمكين الأفراد وتزويدهم بالموارد والمعارف والمهارات اللازمة وبأنظمة الدعم التي من شأنها حماية صحتهم النفسية وتأمين نفاذهم إلى الخدمات المتاحة عند الحاجة.
- ضمان نفاذ الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية إلى رعاية عالية الجودة فور حاجتهم إليها، بغضّ النظر عن مكان إقامتهم.
- دعم مقدمي الرعاية الصحية وكافة العاملين في هذا المجال في أداء وظائفهم، من خلال بناء القدرات القائم على الأدلة وكذلك من خلال مساعدتهم على صون صحتهم النفسية.
- الحد ّوالوقاية من الممارسات الضارة التي تنتهك حقوق الإنسان ومبادئ الجودة عند توفير خدمات الصحّة النفسية.
- تعزيز توافر البيانات وتنفيذ البحوث المفيدة التي من شأنها إرشاد ودعم الجهود الرامية إلى تعزيز الصحّة النفسية في كافة أنحاء البلاد.
- وضع الأطر القانونية والسياسات وآليات التمويل المناسبة لدعم تعزيز نظام الصحّة النفسية.
- دمج آراء ووجهات نظر وتفضيلات الأشخاص ذوي التجربة المعاشة في تصميم وتطوير الخدمات والسياسات والممارسات ذات الصلة.
كما وتركّز الإستراتيجية على دمج خدمات الصحة النفسية في المجتمع، وتقديمها في المراكز الصحية المحلية لتكون أقرب إلى الأفراد، كما إعطاء الأولوية لدعم الفئات الأكثر عرضة للأمراض النفسية، مثل الأطفال، كبار السن، الأفراد ذوي الإعاقة، واللاجئين. وتعمل أيضاً على تعزيز البحث العلمي في مجال الصحة النفسية لجمع البيانات وتحليل الوضع الحالي في لبنان، وبالتالي تحسين الخطط المستقبلية.
إلا أنه وبالرغم من الخطط والأهداف التي يتم العمل عليها في هذا الإطار، هناك تحديات أساسية تواجه الاستراتيجية لا سيما في ظلّ الأزمة الإقتصادية في لبنان والتي أثرت بشكل كبير على تمويل برامج الصحة النفسية، مما يجعل تنفيذ الاستراتيجية أكثر تحديًا، خاصة وأن قلة الموارد المالية قد تحدّ من القدرة على تنفيذها بشكل كامل وفعّال. كما وأن هناك تحدي في تغيير المفاهيم الإجتماعية المتأصلة حول الصحة النفسية، وهو ما يتطلب وقتًا وجهدًا طويلًا.
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن الإستراتيجية الوطنية للصحة النفسية في لبنان تمثل خطوة هامة نحو تحسين الرعاية النفسية. ومع ذلك، فإن نجاحها يتطلب تضافر الجهود بالإضافة إلى ضمان تمويل مستدام للتطبيق الفعّال للخطط.
تمّ إعداد هذا المقال في إطار مشروع "مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام" بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة - لبنان - والسفارة البريطانية في بيروت. إن محتوى هذا المقال لا يعكس بالضرورة وجهات نظر هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت. وقد تم نشر التقرير أيضًا على موقع وردنا.