Loading...

نساء المهن الحرّة في لبنان… تحديات ما بعد الحرب

 

كتبت مناهل السهوي وجنى بركات:

على رغم التحديات، لم تستسلم النساء العاملات في المهن الحرة في لبنان، بل واجهن الخسائر وحاولن التكيّف مع الواقع الجديد. لكن غياب الدعم والتنظيم يتركهن في مواجهة دائمة مع الأزمات.

 

في هذا التقرير، نسلّط الضوء على تجارب نساء يواجهن هذه الأزمات بصبر وإصرار، مثل غادة فوعاني، التي كانت تحلم بإنشاء مشغل يجمع النساء الحرفيات، وعلا معتوق، التي وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة بناء مشروعها من الصفر بعد الحرب. كما نستعرض العوائق البنيوية التي تزيد من هشاشة هذه المهن، وغياب الإحصاءات التي تعكس واقع النساء العاملات في الاقتصاد غير الرسمي. فكيف تواجه هؤلاء النساء هذا الواقع؟ وهل هناك دعم كافٍ لمساعدتهن على الاستمرار؟

 

غادة فوعاني: حرفة تواجه الحرب
غادة عبدالله فوعاني، من بلدة حولا الجنوبية وتقيم في النبطية، متزوجة وأم لأربع بنات. بدأت رحلتها في مجال الحرف اليدوية منذ ثماني سنوات، متخصصة في التطريز، الكروشيه، الخياطة، وتشكيل الورود الاصطناعية. في البداية، كانت مجرد هواية، لكنها سرعان ما تحولت إلى عمل يمنحها الشغف والمتعة. وكما تقول والدتها: “غادة، ما تراه عيناها، تنجزه يداها.”

 

تعرضت النبطية لأكثر من 300 غارة إسرائيلية، ما غيّر ملامحها بشكل كامل وأثر بشدة على اقتصاد بلدة تعد محركة الاقتصاد في الجنوب. وبطبيعة الحال تأثر كل قاطني النبطية بهذا الدمار.

 

لطالما حلمت غادة بإنشاء مشغل (Atelier) يجمع مختلف المهارات الحرفية، ليكون منصة لتمكين النساء ومساعدتهن على تحقيق الاستقلال المادي. لكن الحرب الإسرائيلية الأخيرة بددت هذه الأحلام، ليس فقط على إثر الدمار، إذ تراجعت الطلبات بسبب الأزمة الاقتصادية، بحيث بات همّ الناس الأول هو النجاة في ظل العدوان، بخاصة في الجنوب اللبناني.

 

في السابق، كانت غادة تبيع منتجاتها لزبائن وزبونات محليين/ ات ومغتربين/ ات، ما وفر لها مصدر دخل جيد. لكن منذ اندلاع الحرب في أيلول/ سبتمبر الماضي، انخفض الطلب بشكل حاد، لا سيما من المغتربين/ ات الذين تأثروا بالوضع الأمني والاقتصادي، ما أثر أيضاً على حركة المعارض التي كانت تشارك فيها وتبيع منتجاتها من خلالها.

 

على رغم ذلك، تحاول غادة الاستمرار، مستفيدة من دعم زوجها في المصروف، كما تشارك حالياً في معرض تنظّمه “جمعية تقدم المرأة” في النبطية خلال شهر رمضان، حيث بدأ الطلب على التطريز والكروشيه يعود تدريجياً، وإن كان محدوداً.

 

تواجه غادة تحديات كبيرة، أبرزها انعدام الأمان والاستقرار، ما يجعل الاستثمار في أي مشروع جديد مخاطرة. كما أن الأزمة الاقتصادية جعلت أولويات الناس تتركّز على الاحتياجات الأساسية، بينما تراجع الإقبال على المنتجات الحرفية التي تُعتبر كماليات. إضافة إلى ذلك، تقلّصت مشاريع تمكين المرأة التي كانت تعتمد عليها في تدريب النساء على الحرف اليدوية، ما جعل استمرار هذه المبادرات أكثر صعوبة.

 

يذكر أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أطلق بالشراكة مع وزارة الاقتصاد والتجارة وبدعم من حكومة كندا، مشروع “التمكين الاقتصادي للمرأة من خلال النهوض بالمشاريع التي تقودها النساء في لبنان”. ويمتد المشروع على ثلاث سنوات ونصف السنة، ويهدف إلى دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تملكها أو تديرها النساء، ما يعزز أمنها الاقتصادي واستقرارها وازدهارها. 

 

تختتم غادة بقولها: “أتمنى أن يكون هناك دعم أكبر من الجمعيات المعنية بشؤون المرأة”، لمساعدتها على تحقيق الاستقلال المادي وتأمين مصدر رزق يحميها من الحاجة والعوز.


علا معتوق: من حياكة الدمى إلى إعادة بناء الأحلام
علا معتوق، لاجئة سورية تقيم في لبنان وأم لطفلين، تدرس التصميم وتعمل في حياكة “الأميجرومي”، وهو فن ياباني يقوم على صناعة الدمى المجسمة المحشوة. مع مرور الوقت، توسّع عملها وأصبح اسمها معروفاً في لبنان، حيث كوّنت قاعدة زبائن كبيرة واستطاعت تطوير مشروعها تدريجياً.

 

لكن مع اندلاع الحرب، وجدت نفسها في حالة ترقّب دائم، ما أثّر بشكل كبير على حياتها اليومية، وخصوصاً كونها أمّاً لطفلين. لم يعد لديها الدافع للعمل أو القدرة على الالتزام بمشاريع جديدة بسبب التوتر المستمر. ومع تأزّم الأوضاع وامتداد الضربات إلى مناطق عدة، بدأت علا وعائلتها يفكرون في مغادرة البلاد.

 

عندما هدأت الأوضاع جزئياً، عادت الحياة إلى شكلها الطبيعي ببطء، لكن علا لاحظت أن كثراً من زبائنها لم يعودوا قادرين على شراء منتجاتها كما في السابق. فالبعض فقدوا منازلهم، والبعض الآخر تغيّرت أولوياتهم تماماً، ما أدى إلى تراجع الطلب بشكل كبير.

 

لم تكن هذه العقبة الوحيدة، إذ أثّر الانقطاع الطويل على حسابها على إنستغرام، حيث تراجع التفاعل، ما اضطرها إلى إعادة تسويق منتجاتها من جديد. المشكلة الأساسية في هذه المشاريع الصغيرة، أن النساء يواجهن تحديات مضاعفة وبخاصة بسبب هشاشة مشاريعهن، تقول علا: “شعرت أنني أعود إلى نقطة البداية بعد عامين من العمل، لأجد نفسي مضطرة إلى إعادة البناء من الصفر تقريباً. كان عليّ دراسة السوق مجدداً وفهم احتياجات الناس في هذه المرحلة”.

 

ومع استمرار التحديات، أدركت علا ضرورة التأقلم مع الواقع الجديد، فقررت تعديل منتجاتها لتناسب احتياجات السوق. إذ اتجهت نحو تصميم ديكورات منزلية تضفي لمسات دافئة على البيوت التي يعاد تأثيثها بعد الدمار.

 

وبحسب البنك الدولي، فإن تكلفة إعادة الإعمار والتعافي في لبنان عقب الصراع بين إسرائيل وحزب الله الذي امتد على مدار 14 شهراً، تتجاوز الـ 11 مليار دولار.

 

كما وسّعت مشروعها، فلم تعد تعمل بمفردها، بل بدأت في إشراك نساء أخريات لمساعدتها، ما جعل العمل أكثر سهولة، وفتح المجال أمامهن لتطوير أفكار جديدة تتماشى مع الوضع الراهن.

 

تختتم علا: “لقد أعادتنا الحرب سنوات إلى الوراء، لكننا لم نستسلم. بحثنا عن خطط بديلة، وحاولنا فهم أولويات الناس الجديدة. شيئاً فشيئاً، بدأنا نستعيد عملاءنا ونتأقلم مع الظروف المتغيرة”.

 

الاقتصاد غير الرسمي وغياب الإحصاءات: واقع غير مرئي
بحسب الناشطة النسوية ورئيسة جمعية مدنيات، ندى عنيد، تعاني هؤلاء النساء من عدد من المشاكل والتحديات، من بينها غياب السياحة والزبائن الدائمين، تعتمد بعضهن على التعاقد مع مطاعم أو معارض لعرض منتجاتهن، لكنهن يواجهن تحديات كبيرة، أبرزها ضعف مهارات التسويق، بخاصة في المناطق النائية. على سبيل المثال، قد يكون المنتج نفسه لدى سيدتين، لكن إحداهما تقدمه بتغليف جذاب، بينما لا تولي الأخرى اهتماماً لهذه التفاصيل، ما يؤثر على فرص البيع.

 

بالإضافة إلى غياب الدعم المالي، فلا قروض متاحة لتمكينهن اقتصادياً، كما تفتقر البنى التحتية إلى المقومات الأساسية، ما يشكل عائقاً كبيراً، بخاصة في الصناعات الغذائية التي تتأثر بانقطاع الكهرباء، ما يزيد من مخاطر تلف المنتجات.

 

من ناحية أخرى، لم تأخذ سياسات الدولة خصوصية هذه الفئة بالاعتبار، ولم تُجرِ أي إحصاءات حول أوضاعهن أو احتياجاتهن. ببساطة، يمكن وصف حال النساء بحسب عنيد بأنه “كان سيئاً قبل الحرب، وأصبح اليوم أسوأ”.

 

تقول ندى عنيد: “هذا النوع من الأعمال يتطلب استقراراً في البلاد وأشخاصاً يمتلكون القدرة الشرائية لاقتناء هذه المنتجات. لكن في ظل الوضع الحالي، حيث تغيب السياحة الداخلية ولا تتوافر أسواق تصدير، تواجه النساء العاملات في هذه المجالات صعوبة في تسويق منتجاتهن، على رغم أهميتها، إذ تشمل صناعاتهن الحرفية جوانب من التراث المادي للبلاد، مثل المأكولات التقليدية والملابس وغيرها”.

وتعوّل عنيد على إعادة الإعمار وأن يؤخذ هذا القطاع بالاعتبار في أي عملية إعادة إعمار وإصلاحات مستقبلية.

 

يكفي بحث صغير على غوغل حتى ندرك ألّا مصادر أو إحصاءات تتعلق بهذه الأعمال الحرة أو بعدد النساء اللواتي يمتهنها، ولفهم هذا الوضع أكثر توجهنا إلى الأستاذ رمزي حافظ ناشر مجلة Lebanon Opportunities. 

 

يقول حافظ: “قبل الحرب، كان هناك طلب على هذه الخدمات، لكن معظمها كان قائماً على مبادرات منزلية، لذا لم يكن هناك إحصاء دقيق أو تقييم لإنتاجيتها وربحيتها. كما أنها جزء من الاقتصاد غير الرسمي (informal economy)، أي أنها مؤسسات فردية غير مسجلة، تلجأ إلى هذا الوضع لتفادي دفع الرسوم والضرائب والضمان الاجتماعي وما شابه”.

 

يؤكد حافظ ألا معلومات دقيقة حول وضع هؤلاء النساء بعد الحرب، لكن من المحتمل أن يكون تراجع خلال أيام الحرب، قبل أن يعود الآن إلى مستواه السابق، نظراً الى أن مستهلكي هذه الخدمات هم غالباً من الطبقات ذات الدخل المتوسط والعالي.

 

يتابع حافظ: “عدم تنظيم هذا القطاع ضمن نقابات هو خيار متعمد، وهو أمر طبيعي نظراً الى عدم تمتعه بالشرعية القانونية. كما أن النقابات في لبنان نادراً ما تمكنت من تقديم خدمات فعالة لأعضائها، إذ غالباً ما تطغى السياسة على عملها، ما يجعل دورها مختلفاً عمّا هو عليه في بعض الدول المجاورة”.

 

ويعتبر حافظ أن هذا القطاع لا يُعد أولوية اقتصادية بسبب صغر حجمه، لكنه يستفيد عادةً من التمويل عبر مؤسسات الإقراض الصغير (microfinance)، إلى جانب بعض برامج التمكين مثل التدريب التقني أو إدارة الأعمال. كما أن هناك عدداً كبيراً من الجمعيات الأهلية التي تقدم هذا النوع من الدعم”.

 

على رغم التحديات، لم تستسلم النساء العاملات في المهن الحرة في لبنان، بل واجهن الخسائر وحاولن التكيّف مع الواقع الجديد. لكن غياب الدعم والتنظيم يتركهن في مواجهة دائمة مع الأزمات. ولضمان استمرارية أعمالهن، لا بد من سياسات تحميهن وتوفر لهن فرصاً حقيقية للنمو، فهل سيحصلن على الدعم الذي يستحقنه أم سيبقين في صراع دائم للحفاظ على مهنهن؟

 

تم إعداد هذا الموضوع في إطار مشروع "مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام" بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة – لبنان – والسفارة البريطانية في بيروت. إن محتوى هذا المقال لا يعكس بالضرورة وجهات نظر هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت. وقد تم نشر التقرير أيضًا على موقع درج.