عندما توصل لبنان ومصر الى اتفاق بخصوص تصدير الغاز المصري في العام 2008، تم انشاء خط بين مصر والعقبة وصولاً الى جنوب سوريا، ويطلق عليه اسم "خط الغاز العربي"، وبدأ لبنان باستيراد الغاز، لكنه في الواقع لم يستورد الغاز المصري، لأن دمشق كانت تأخذ تلك الحصة وتعطي لبنان غازاً سورياً عبر طرابلس، واستمر الامر على هذا النحو الى ان توقفت مصر عن التصدير في العام 2010.
هذه المعلومة، كشفها رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة خلال ندوة عن مسائل متعلقة بالمواد البترولية الموجودة في المناطق الاقتصادية الخالصة لدول شرق البحر المتوسط في العام 2019، في وقت يسعى لبنان الى اعتماد التغويز آلية أساسية لانتاج الكهرباء، والتي تصطدم بعقبتين، اولهما الانشطار السياسي اللبناني حول انشاء ثلاث محطات، مقسمة مذهبياً على الطوائف الثلاث الكبرى، وثانيهما مشكلة استيراد الغاز الطبيعي في ظل الأزمات الامنية والسياسية التي تعصف بالدول التي تتشارك مع لبنان حدوده.
فيما قامت قبرص في يوليو/تموز 2020 بشراء وتركيب محطة تغويز نقالة بمبلغ 320 مليون دولار، وهو مبلغ يساوي أقل من نصف ما يدفعه لبنان إيجاراً لبواخر الفيول لإنتاج الطاقة الكهربائية في معامله، لا يزال متمسكاً بفكرة إقامة 3 محطات تغويز (FSRU) Floating Storage Regasification Unit.
هكذا يُخالف لبنان الواقع العلمي والتقني البحت، الذي يؤكد أنه ليس بحاجة الى هذا القدر من المحطات، بل إلى محطة واحدة على طول الشاطىء اللبناني، وهذا ما أجمعت عليه الجهات المانحة، وخصوصاً المشاركة في الورقة الاصلاحية الفرنسية، التي تشترط إصلاحات ملموسة ولا سيما في قطاع الكهرباء، وكذلك معظم التقارير العلمية خصوصاً الصادرة عن البنك الدولي ومعظم خبراء الطاقة في لبنان، ما يحول دون تحميل خزينة الدولة تكاليف إنشاء ثلاث محطات تغويز.
يمكن تعريف محطات التغويز بأنها تقوم على "تحويل الغاز المسال غير القابل للاستخدام في محطات توليد الطاقة الكهربائية الى غاز جاهز للإستخدام"؛ ويتم عبر هذه المحطات تحويل الغاز المسال القادم من بواخر LNG الى غاز يذهب بالأنابيب الى محطات توليد الطاقة الكهربائية، وهي باتت معروفة كتقنية مرنة وسريعة التطبيق وذات جدوى اقتصادية على مستوى العالم.
تجاهل للمعايير العلمية والمالية
في العام 2016، ونتيجة صراع المصالح السياسية ألغيت مناقصة إستقدام محطات إستيراد الغاز الطبيعي التي كانت قد أطلقت عام 2013 لاستقدام محطّة تغويز في البداوي (معمل دير عمار) على أن تستقرّ في لبنان في عام 2015، وإستمر هذا الصراع حتى العام 2017 حيث جرى توافق سياسي تم ترجمته في أيار/مايو 2018، حيث أُعيد إطلاق مناقصة جديدة، لتصميم 3 محطات عائمة لتخزين الغاز الطبيعي وتغويزه، وتمويل بنائها وتشغيلها لمدّة 10 سنوات، على أن تستقرّ قبالة شواطئ البداوي وسلعاتا والزهراني بدل واحدة (المتعلقة بمناقصة عام 2013) .
في هذه المناقصة تقدم 8 شركات، وفاز بها تحالف "قطر للبترول" و"إيني" الإيطالية " وكانت قيمة العرض 13,512 مليار دولار، تلاها عرض "شركة توتال" بقيمة 13,885 مليار. وبذلك أُنجزت التسوية حيث تضمن القرار إنشاء خطي أنابيب، الأول من صور إلى الجية مروراً بالزهراني، والثاني من البداوي إلى الزوق مروراً بسلعاتا، مع درس إمكانية ربط العاصمة والمناطق الصناعية بخطوط الغاز المنشأة، لتتحول المحطات الثلاث أمراً واقعاً سياسياً لا يكترث للمعايير العلمية والمالية.
هذه التسوية تعرضت لانتكاسة كبيرة في 15 أيار/مايو 2020، وتحديداً عندما حذف مجلس الوزراء الإشارة التي تضمنها عرض وزارة الطاقة بشخص الوزير ريمون غجر بشأن تأمين الكهرباء، بإنشاء معمل في سلعاتا بعد إنقسام المكونات السياسية المُشاركة في الحكومة إلى فريقَين: "التيار الوطني الحر"، والآخرون.
وفي جلسة مجلس الوزراء التي عقدت بعد مرور إسبوعين، إنتشل المجلس المعمل، بعدما تم دفنه في جلسة 15 مايو وجدد بشخص رئيسه ووزرائه التمسك بخطة الكهرباء الواردة في البيان الوزاري، بناءً لطلب رئيس الجمهورية، فعاد المعمل إلى واجهة المشاريع الكهربائية.
لكن حتى اليوم لم يصدر أي مرسوم من مجلس الوزراء للمباشرة في التنفيذ، وبذلك يبقى عرض "قطر للبترول" و"إيني" الإيطالية " عالقاً من دون حسم.
ملف يرشح هدراً وفساد
لا يحتاج الراغب بمعرفة السر الكامن وراء التمسك بالرقم "3" إلى بذل جهدٍ كبير، ليستنتج أن مشروع المحطات الثلاث عزّز مبدأ المحاصصة والتوزيع الطائفي بدليل خطة إنشاء "واحدة للسُنّة في البداوي، وأخرى للمسيحيين في سلعاتا، وثالثة للشيعة في الزهراني"، وبذلك ينضم إلى عشرات المشروعات التي دخلت نفق التسييس والمحاصصة الطائفية كما جرت العادة في الملفات "الدسمة".
وينتقد المتخصص بشؤون النفط والغاز عبود زهر في مقابلة مع "مهارات نيوز"ما يحصل في هذا الملف وتحديداً " التمسك بإقامة 3 محطات تغويز بدلا من واحدة"، معتبراً أن إستمرار تشغيلها على الفيول "هو إجرام بحق الوطن والمواطن وحقوقه الضائعة في دهاليز السياسة، والتغويز يوفر مليار دولار من قيمة الفاتورة السنوية التي ندفعها مقابل إستيراد الفيول"، مستنداً في تقديره الى أكثر من دراسة بهذا الشأن، علماً أن رئيس الحكومة السابق حسان دياب أكد في أكثر من تصريح أن التغويز سيوفر على خزينة الدولة 350 مليون دولار.
فكرة 3 محطات غير مجدية
في التقرير الأخير للبنك الدولي في العام 2020 (عن قطاع الكهرباء اللبناني) يحدّد البنك الأولوية الثانية أمام الحكومة اللبنانية بـ"مراجعة وإعادة إصدار طلبات تقديم العروض لمحطات التغويز، للتركيز على الزهراني وديرعمار"، ما يعني عملياً إعتماد محطتين وليس ثلاث، وبالتالي غضّ النظر عن ترسية إنشاء ثلاث محطات، إحداها في سلعاتا على تحالف "قطر للبترول" مع "إيني" الإيطالية، وهو ما يتمسك به رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل.
أما الطرح الذي قدمته شركة "توتال" فيشمل في الواقع عرضان: الاول يلحظ إنشاء للمحطات الثلاث، والثاني توضح بموجبه الشركة الفرنسية أن الدولة اللبنانية ليست بحاجة لمحطة سلعاتا، وقدمت فيه سعراً يستثني هذه المحطة.
وتشدد الخبيرة في شؤون الطاقة المحامية كريستينا أبي حيدر في مقابلة مع "مهارات نيوز" على أن "فكرة إنشاء 3 محطات تغويز غير مجدية وغير ملحة وغير صائبة هي بمثابة هدر للمال والوقت، مستغربة المطالبة بإنشاء المحطة الثالثة المقترحة في سلعاتا، حيث لا يوجد لا معمل كهرباء ولا حتى أي إمدادات ولا حاجة أصلاً إلى إنشائها لا لجهة الموقع ولا الظرف ولا الحاجة.
وترى أبي حيدر أن لبنان "بأمسّ الحاجة إلى إستيراد الغاز لتشغيل معامل الكهرباء الجديدة التي تم تركيبها في الزوق والزهراني ودير عمار"، متوقفة عند تجاهل القيّمين على هذا الملف، فكرة أن هذه المعامل مجهزة في الأساس، كي تعمل على الغاز أو على الفيول اويل Reciprocating Engines ، علماً أن الفيول المستعمل حالياً للمعامل ينتج الكهرباء بكلفة عالية وبنوعية رديئة".
وهنا، لا بد من التذكير بأن الإستشاري POTEN & PARTNERS قد أبدى العديد من الملاحظات والتحفّظات على دفتر الشروط الخاص بمشروع الـFSRU خلال إعداده، من أهمها عدم جدوى إنشاء ثلاث محطات، وبالتالي الإستغناء عن محطة سلعاتا كونها الأكثر تكلفة.
ذهنية الطائفية والمحاصصة
ليس خفياً على أحد انه حين تم وضع دفتر الشروط في العام 2019 لإنشاء 3 محطات، كان توزيعها على أساس المحاصصة بين المسيحيين والسنة والشيعة، وما يمثّله هؤلاء من توزيع طائفي لا جدوى منه في مشروع الـ FSRU، في حين أن الهدف الكامن وراء إعتماد محطة تغويز واحدة هو تخفيف فاتورة إستيراد المحروقات التي تشكّل ربع إلى ثلث فاتورة الاستيراد الكلّية سنوياً؛ وكانت الفكرة في الأساس تقوم على إنشائها في الشمال وإيصال الغاز عبر الأنابيب إلى المعامل الأخرى، من دون تحميل خزينة الدولة تكاليف إنشاء ثلاث محطات تغويز.
وهنا يبيّن زهر أن الأسباب الحقيقية وراء عدم إعتماد التغويز في المعامل هو "خلافات ظاهرها سياسي وباطنها خلاف على تقاسم الحصص والمغانم، وهذه الذهنية هي السائدة منذ أكثر من 10 سنوات في ملف الكهرباء، بدليل أنه عندما يتحقق هذا التقاسم تختفي كل المهاترات السياسية بين الهجوم والهجوم المضاد ويعودون فجأة أصحاب وأحباب، وكأن شيئا لم يكن" .
ويؤكد متابعون أنه لو أنجزت محطات التغويز في عام 2008، حين طرحت الفكرة للمرة الأولى بشكل جدي، لكن الوفر في معملي دير عمار والزهراني بلغ تراكميأ، نحو 10 مليارات دولار.
التغويز يحمل فوائد كبيرة
لا تتوقف النواحي الإيجابية عند توفير ما يقارب مليار دولار من إجمالي الفاتورة النفطية، لا بل تتعداها إلى التوفير في الفاتورة المالية المتعلقة بصيانة المعدات وصيانتها وشراء قطع الغيار، وهنا يشرح زهر: "التغويز كفيل بخفض نسبة الاستهلاك والاعطال بشكل كبير، وبالتالي نصبح أمام توفير بملايين الدولارات" فضلاً عن إنخفاض التلوث الذي يسببه الفيول المستورد بنسبة 80 % في المعامل الثلاث الرئيسية الزوق والزهراني والجية"، علماً أن فاتورة التلوث السنوية وأبرز أسبابها التلوث تقدر بملايين الدولارات سنويا، لا سيما المستويات الخطيرة التي تهدد صحة اللبناني وحياته، ويكرر زهر: "هذا كله يؤكد أن ما يحصل دليل على أننا مجرمين بحق أنفسنا، بعد أن إستشرى الفساد وسادت الطائفية والمحاصصة".
عوائق جغرافية وسياسية
غير العوائق والحسابات السياسية، ليست الوحيدة التي تحول دون الشروع بتنفيذ خطة التغويز. فما أشار اليه السنيورة في المؤتمر النفطي، يكشف أن العوائق السياسية والجغرافية تحول دون اعتماد الآلية فوراً، ذلك ان خيارات محدودة في ظل العقوبات على سوريا (قانون قيصر) والأزمة الامنية التي تعاني منها، وهي التي تشارك مع لبنان حدوده الشرقية والشمالية، والازمة السياسية مع اسرائيل على الحدود الجنوبية، فضلاً عن أن الامدادات البحرية غير متوفرة، فيما تعد كلفة استيراد الغاز المُسال أكثر كلفة.
وتقول أبي حيدر: "إذا أردنا أن نكون واقعيين علينا الإعتراف بأن لبنان يواجه اليوم عدة مشاكل تقف في وجه التغويز أو استيراد الغاز لتشغيل المعامل وهي: إنعدام التمويل، والوضع الاقتصادي المتردي، والإتفاق على المنطقة التي ستعطى الأولوية لإحتضان المعمل رقم 1".
محطات التغويز والبيئة الملائمة
من الناحية العملية والتقنية يتطلّب استيراد LNG محطات تتكوّن من مرافق الاستقبال والتخزين وإعادة التغويز؛ ويمكن إنشاؤها إما على اليابسة (الأرض) وإمّا في البحر كوحدات تخزين وإعادة تغويز عائمة(FSRU) . ولا بد من الإشارة إلى أنَّ المحطّات العائمة توفّر على نحوٍ واسع في تكاليف الإنتاج، وقد ارتفع بشكلٍ كبير عدد محطات إستيراد الغاز الطبيعي المسال العائمة في العالم، ومن بينها الأردن ومصر.
وتتميز (FSRU) بمرونتها، فتوضع بالخدمة ويباشر العمل بها على الفور ويمكن نقلها إذا إنتفت الحاجة إليها. وقد أصبحت أكثر قبولاً من المحطات الأرضية، لأن تكلفة بنائها أقلّ ويمكن استئجارها بدل شراءها، ما يساعد على تخفيض النفقات الأولية للمشاريع.
ومع ذلك، تتطلب مشاريع FSRU بنية تحتية لكي تعمل، مثل خطوط الأنابيب والأرصفة البحرية وكاسر موج لحماية ناقلات الغاز المسال أثناء التفريغ. وتتطلّب هذه البنية التحتية رؤوس أموال ضخمة وتحتاج إلى إستثمارات كبيرة، فترتبط هذه الاستثمارات بمخاطر سياسية ومالية واقتصادية عالية.
وتؤكد ابي حيدر ان استعمال الغاز في محطات توليد الطاقة يعتبر أرخص سعراً وأفضل للبيئة وأقل ضرراً على صحة المواطن" فيما يعد لبنان من الدول القليلة في المنطقة التي لا تزال تستخدم الفيول في محطات الكهرباء.
وفي تعليقه على التكلفة العالية التي تذرعت بها السلطة في رفضها الإعتماد على إنبوب واحد بادىء الأمر، والصعوبات التي واجهها من ناحية تمريره في بيروت ثم تحول الحديث الى تمريره عبر البحر، يفترض زهر أن تكلفة تمديده تصل الى 500 مليون دولار في اقصى تقدير، فيما اعتماد التغويز في المعامل يوفر حوالي مليار دولار سنوياً، فاننا بذلك يمكننا إستعادة التكلفة خلال أقل من سنة .
من جهته، يقول زهر ان "الطبقة الحاكمة مشاركة بالتضامن والتكافل في لعبة الفساد المتعلقة – كبقية الملفات – باستيراد الفيول، الكل مستفيد منها من دون إستثناء، ويحقق كل منهم مبالغ بملايين الدولارات سنوياً فلماذا سيوافقون على إعتماد التغويز الذي من شأنه أن يحرمهم من جزء كبير من هذه المغانم؟". ويضيف: "هذا يذكرنا كيف إتفقت مافيا الفيول المستورد آنذاك على تشغيل معامل الإنتاج على الفيول بشكل مؤقت، ليتحول هذا "المؤقت" إلى دائم، ومن المعروف أنه في لبنان كل شيء مؤقت يصبح دائماً".
TAG : ,محطات التغويز ,توليد الكهرباء ,خط الغاز العربي