Loading...

"كارتيلات" الاحتكار في لبنان.. محميّات سياسية تمنع التنافس وتشرع الغلاء

 

اضطرت نسرين ق. (29 عاماً) لاستدانة مبلغ 120 الف ليرة لبنانية لشراء أربعة عبوات من حليب للأطفال يستهلكها طفلها، قبل انقطاعها من السوق. فقد أبلغت أن هذه السلعة قد لا تتوفر خلال الشهرين المقبلين بسبب الازمة، ولا بديل عن هذا الصنف الذي يلائم طفلاً يعاني من حساسية على أصناف أخرى.

ونسرين مثل مئات آخرين وجدوا أنفسهم في الازمة الاخيرة ضحايا قوانين "الوكالات الحصرية" في لبنان، تلك التي تحدد مصدراً وحيداً لبعض السلع، يحتكرها، ويتحكم بسعرها رغم الاجراءات الحكومية لمعاقبة المحتكرين، على غرار ما قامت به بلدية الغبيري في أواخر أبريل / نيسان الماضي، وهي اجراءات ينظر البعض اليها على أنها "شكلية"، في حين تكمن تداعيات قوانين "الوكالات الحصرية" في موقع آخر. 

ويشرّع القانون اللبناني، الوكالات الحصرية التي انهتها دول كثيرة تعتمد "النظام الاقتصادي الحر"، وهو النظام المعتمد في لبنان، وأتاحت مجالاً للمنافسة ضمن قوانين، فشل لبنان حتى الآن بإصدارها بسبب "الضغوط السياسية"، منذ العام 2002.

ويعود ملف الوكالات الحصرية الى العام 1967، حين صدر مرسوم اشتراعي يحمل الرقم 34 (تاريخ 5 أغسطس / آب 1967) نص على حماية الوكالات الحصرية في المادة الاولى، معتبراً أن "الممثل التجاري" هو "التاجر الذي يقوم لحسابه الخاص ببيع ما يشتريه بناء لعقد يتضمن اعطائه صفة الممثل او الموزع الوحيد بوجه الحصر".

وتحتكر مئات المؤسسات استيراد وتوزيع آلاف السلع، بينها 2335 سلعة وثقتها عقود الوكالات الحصرية بين العامين 2005 و2018، بحسب ما تظهر بيانات وزارة الاقتصاد والتجارة، وتعطي فيها الشركات الاجنبية حق "التوزيع الحصري" لشركات لبنانية لمدة محددة قابلة للتجديد برضى الطرفين. وتتدرج السلع من المشتقات النفطية والغاز ومواد البناء والادوية والآليات والسيارات وقطع غيارها والادوات الكهربائية، الى العطورات والمنتجات الغذائية والمواد البلاستيكية والزراعية والمنتجات البتروكيميائية والتقنيات الصناعية والزراعية...

وتنبّه لبنان الى ان هذا القانون سيشكل عقبة أمام تحضيراته للانفتاح على شراكات تجارية دولية ومساعي انضمامه الى الشراكة الأوروبية والدخول الى منظمة التجارة العالمية في العام 2002، كونه يعد وجهاً أساسياً من وجوه الاحتكار الذي يمنع المنافسة في السوق، ويحد من تخفيض الاسعار، ولا يراعي مبدأ فتح السوق.

ولتحقيق هذا الهدف، أقر مجلس الوزراء في فبراير/شباط 2002 مشاريع قوانين لتعديل المرسوم الاشتراعي الصادر في 1967، وتعديلاته في العام 1975، وأحاله الى مجلس النواب لدراسته واقراره. وأقرّ قانون إلغاء الحماية عن الوكالات الحصرية في مجلس النواب في يناير/كانون الثاني 2004، على أن يصبح سارياً بعد أربع سنوات من تاريخ إقراره، قبل أن يردّ رئيس الجمهورية السابق إميل لحود القانون إلى مجلس النواب. وأودع البرلمان أيضاً مشروع قانون في العام 2007 يهدف الى تنظيم المنافسة، لكنه لم يُقرّ حتى الآن.

وبموازاة التحضيرات لاقرار قانون المنافسة في ذلك الوقت، أعدّ الخبير الاقتصادي توفيق غسبار، وخبراء آخرون، دراسة خلفية لهذا القانون في العام 2003، بتمويل من الاتحاد الاوروبي، حملت عنوان "المنافسة في الاقتصاد اللبناني"، هي الاولى والاخيرة التي تُعدّ في لبنان، بحسب ما يقول غسبار. ويشير الى ان الدراسة التي أظهرت ارقامها الاحتكار في الاقتصاد اللبناني، حصل على بياناتها من وزارة المالية، بناء لـ"داتا" الشركات المسجلة في دائرة "الضريبة على القيمة المضافة".

وأظهرت بيانات الدراسة التي تغطي 7402 مؤسسة ان سبع شركات كبرى تسيطر على ستين في المئة من الاقتصاد اللبنان، وتتسم ثلثي الأسواق اللبنانية بطابع احتكاري.واتضح أن الشركات التي تملك أكبر نسبة مبيعات هي شركات استيراد المحروقات والصناعات المرتبطة بها، التي كانت تسيطر عليها في ذلك الوقت 14 شركة، فيما كانت تسيطر 5 شركات على قطاع الغاز المنزلي، وتسيطر 5 شركات على قطاع الاسلاك والكابلات المعزولة، في حين كانت تسيطر 3 شركات على الحصة الاكبر من قطاع طلاء المعادن والهندسة الميكانيكية العامة.

وبينما تحتكر شركة واحدة 45% من سوق المشروبات الغازية،كانتخمس شركات تسيطر على الحصة الاكبر من سوق الأدوية، أما الزراعة فيسيطر فيها خمسة في المئة من المزارعين على ما يقارب الـ50% من الأراضي الزراعية في لبنان.

وتضاعفت أرقام الوكالات الحصرية منذ العام 2003، تاريخ اجراء الدراسة، حتى الآن. وقدّر البنك الدولي في العام 2007 الريع الناتج من الاحتكارات في لبنان بأكثر من 16% من الناتج المحلي، وهو أكثر من مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلّي. ويخضع نصف السوق المحلي للشركات الاحتكارية ويهيمن ثلثها على 40% من الحصة السوقية.

وتقف السلطة اللبنانية عاجزة أمام هذا الواقع الذي اصطدم في السابق بمحميات سياسية، منعت اقرار قانون المنافسة منذ العام 2007. ففي سنوات سابقة، كانت وفود من الهيئات الاقتصادية تقدم للوزراء المعنيين، لوائح مطالب ومن بينها حماية السلع من التزوير في الداخل اللبناني، ومواجهة تهريب السلع المحمية بموجب قانون الوكالات الحصرية، ما يُعدّ خرقاً للقانون.

ولا يخفي مواكبون لمحاولات لبنان اقرار قانون المنافسة ان شركات كبيرة في لبنانتفرض نفسها على الدولة، مما يصعّب القيام بأي خطوة لا تلتقي مع مصالحهم، حيث فشلتالحكومة في الضغط عليهم لتخفيض الاسعار في وقت سابق.

كارتيلات احتكارية

وتفرض الاحتكارات إرتفاعاً باهظاً بأسعار سلع أساسية لا بديل عنها، مثل الاسمنت الذي تحتكر صناعته وتسويقه في الداخل اللبناني ثلاث شركات محلية تبيع الاسمنت في الداخل بسعر 90 دولار اميركي للطن الواحد، بينما يتم تصديره بسعر أقل يصل الى 40 دولار اميركي الى خارج لبنان، ويمنع القانون استيراد الاسمنت. كذلك تفرض الاحتكارات ارتفاعاً في أسعار الادوية، وخصوصاً الادوية التي لا بديل لها (جنريك) ويقدر عددها بنحو 400 دواء... وقد استثنى القانون كل شيء يتعلق بالمواد الغذائية التي باتت خارج الوكالات الحصرية.

وينسحب الامر أيضاً على أسعار الفيول والمحروقات والمشتقات النفطية والغاز المنزلي، وهي سلع لا بديل عنها، وتمس أسعارها المرتفعة بسبب الاحتكارات جميع المواطنين وفي مقدمهم ذوي الدخل المحدود، ويتم الاتفاق على الاسعار بين أعضاء تلك الكارتيلات، ويمنع أي طرف آخر من استيراد تلك السلع منعاً لتخفيض الاسعار.

ويظهر ذلك تقصيراً سياسياً في مواجهة الكارتيلات، بالنظر الى ان تجربة وزارة الاقتصاد في مواجهة كارتيل المولدات الكهرباء منذ خريف 2018 وفي العام 2019، أثبتت قدرة حكومية على مواجهة الاحتكارات عندما تتوفر الارادة السياسية.

ولا يُخفى أن كارتيلات الغاز والادوية والمحروقات يصعب على أي طرف مواجهتها، بالنظر الى انها تتحكم بالسوق وبأسعاره، وتمنع المنافسة فيه، وهو الحال الذي تنسحب عليه قضية عدم اقرار قانون المنافسة المرتبط بضغوط تمارسها بعض الكارتيلات في عدة قطاعات على السياسيين.

واتضح اخيراً ان شراكة السياسيين بالمباشر أوهم يستفيدون من تلك الكارتيلات، فينفذون مصالحها بعدم اقرار قانون المنافسة، ما يخالف كل الاتهامات القائلة بأن موانع طائفية جرى الترويج لها منذ العام 2003 تمنع اقرار قانون المنافسة، على ضوء ان النسبة الاكبر من حاملي الوكالات الحصرية ينتمون الى طائفة دون أخرى.

وتغوّلت الوكالات الحصرية في السوق، حيث سجل مستوى الحرّية الاقتصادية في لبنان 51.1 نقطة في مؤشر العام 2019، متراجعا عن العام 2018 حيث سجل 53.2 نقطة ما يجعله يأتي في المرتبة 154 عالميا، بحسب مؤشّر الحرّية الاقتصادية، الصّادر عن مؤسسة البحوث العالمية  Heritage Foundationويقوم بقياس درجة الحرية الاقتصادية في 186 دولة.

محاولات قوننة التنافس

وبموازاة تدنّي مستوى المنافسة في السوق اللبناني، لم تتوقف المحاولات للحد من هذا الواقع. وتسعى اقتراحات مواجهة الاحتكار، الى اقرار قانون على غرار منطقة اليورو، وتعزيز المنافسة في السوق عبر ايجاد بدائل، ومنع احتكار السلع الاساسية، وتحديد هامش ربح للتجار، ومحاسبة المخالفين ومعاقبتهم، فضلاً عن اقتراحات أخرى لمواجهة الكارتيلات الموجودة في لبنان.

وأعدت وزارة الاقتصاد في العام 2017 اللبنة الاولى لمشروع قانون جديد عمل عليه الوزير الاسبق رائد خوري والمديرة العامة السابقة للوزارة عليا عباس، يوجِد تعريفات واضحة لـ"الكارتيل"، ويضع اسس تحديده ومواجهته، ويفرض تحديداً للاسعار والكميات التي يجب ان تتوفر، ويفرض غرامات كبيرة على المخالفين. وتم ارسال المقترحات الى قانونيين لصياغته واعداده تمهيداً لتقديمه الى مجلس الوزراء على شكل مشروع قانون، وهو ما لم يتحقق بعد تغير الحكومة.

وتواصلت مساعيإزالة المعوقات الرسمية وغير الرسمية التي تقف أمام المنافسة، باعتبار الاخيرة كفيلة بأن تضبط الأسعار وتوفر التبادل الطوعي في السوق المفتوحة ضمن نظام التبادل الحر. وفعّل وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش هذا الجانب في أواخر العام 2019، حين أودع الأمانة العامة لمجلس الوزراء مشروع قانون يرمي الى تنظيم المنافسة، بعد أن كان مجلس الوزراء قد وافق علـى طلب بطيش استرداد مشروع القانون المُحال إلى مجلس النواب عام 2007 وذلك لتحديثه وتطويره. ويهدف إلى وضع قواعد تعزّز المنافسة في الاسواق اللبنانية وتحدّ من الممارسات الاحتكارية.

انقسام لبناني

غير أن هذه الاقتراحات، تصطدم بانقسام لبناني، من داخل السلطة نفسها، حول تحديد المنافسة، على قاعدة أن "الحق الحصري على مستوى الماركات التي يقتصر استهلاكها على المتمكنين مادياً، لا يضرّ، ويجب المحافظة على حق توزيعها الحصري"، بينما تجب مواجهة كارتيلات تتحكم بسلعللعموم مثل الغاز والاسمنت والمحروقات والدواءكونها سلع لا بديل لها. وساد هذا الرأي الذي أدلى بها سياسيون خلال المناقشات حول اقرار قانون المنافسة، وجرى التبرير بأن السوق اللبناني صغير، والشركات "تدفع اعلانات وتجهيزات، وبالتالي فإن فتح السوق سيفقد الوكيل الجدوى الاقتصادية".

ويؤيد مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية الدكتور ​سامي نادر​ هذا الطرح، معتبراً أن "الوكالات لا تمنع الاحتكار، طالما أن المنافسة على أصناف شبيهة من ماركات أخرى متاحة"، مشيراً الى انها "تشعل المنافسة وحرب الاسعار"، من دون أن يستثني تعامل الموردين الأساسيين مع وكلائهم للحصول على عائدات من استثماراتهم. ويششدد على ان المنافسة هي درع الحماية للمستهلك والمستثمر، "فإذا الغيت الوكالات الحصرية، يجب ايجاد منافسة بالسعر"و وذلك لا يتم الا عبر مكافحة التجمعات الاقتصادية (الكارتيل).

ويرى نادر، وهو خبير اقتصادي أيضاً، ان الحل يتمثل في محاربة الكارتيلات التي تحظى بحماية، مثل تجمعات استيراد المحروقات وغيرها التي تحظى بحماية من شركاء سياسيين، متوقفاً عند السعر المرتفع للأدوية "لأن الدولة لم تفتح مجالاً لادخال البديل، وتفرض على "الجنريك" أن يكون سعره أقل بـ25%"، معتبراً أن ذلك وجهاً من وجوه المحميات في السيستم اللبناني. ويرى أن قانون المنافسة لم يُقر "لن السلطة غير جدية في تعزيز الشراكة بين القطاع العام والخاص الهادفة الى تأمين المنافسة وكسر الاحتكارات وتأمين الجودة الاعلى بالسعر الاقل".

TAG : ,النظام الاقتصادي الحر ,كارتيلات ,احتكار