"عشت أصعب لحظاتي في سجن تبنين. كل لحظة كانت تمر وكأنها الأخيرة. مع كل صوت نسمعه، كنت أقرأ الشهادة وأدعو أن يسامحني والدي… كانت لحظات قاسية فعلاً"، هكذا يروي السجين “ح.ح” معاناته في السجن خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان.
تجربة “ح.ح.” هي واحدة من عديد القصص التي تُسلّط الضوء على معاناة غير مرئية لآلاف السجناء في المناطق المعرّضة للقصف. الحرب التي ألحقت أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية وأسفرت عن سقوط العديد من الضحايا لم ترحم أولئك الذين كانوا خلف القضبان.
تهديد جديد يضاف للمعاناة
مع اشتداد القصف، تحوّلت السجون إلى أماكن أكثر قساوة من ذي قبل. الغارات الجوية التي استهدفت العديد من المناطق اللبنانية كانت تؤثر على السجون والمناطق المحيطة بها. والخوف من القصف العشوائي، الذي لم يفرّق بين المدنيين والسجناء، أصبح جزءًا من حياة المعتقلين اليومية.
“صوت الطائرات الحربية أصبح جزءًا من روتيننا. لا نعرف إذا كانت القذائف ستستهدفنا اليوم أو غدًا”، يقول السجين “أ.ز” من سجن صور، مشيرًا إلى أن بعض الزنازين تضرّرت بسبب القصف، ما جعل الوضع أكثر خطورة.
لطالما شكّلت أزمة السجون اللبنانية واحدة من أبرز التحديات الإنسانية والحقوقية، بعدما تحوّلت السجون إلى قنبلة موقوتة تعجّ بالاكتظاظ وظروف الحياة القاسية. ورغم الإمكانيات المحدودة التي تمتلكها الدولة اللبنانية، بذلت القوى الأمنية جهودًا مضنية في محاولة لتخفيف الأعباء خلال الحرب الأخيرة، لكن الواقع كان أكثر تعقيدًا من أن يُحَلّ بسهولة. فلا الوضع القضائي كان قادرًا على مواكبة حجم الأزمات المتزايدة، ولا الظروف الأمنية كانت كافية لضمان حماية السجناء.
عائلات مفصولة وأمل مفقود
“منذ بداية الحرب، لا أحد هنا كان يعرف ما يحدث لعائلته. الجميع خائفون على أحبائهم، لكننا كنا محاصرون هنا، عاجزون عن التواصل معهم”، يقول أحد الموقوفين، طالبًا عدم الكشف عن اسمه بسبب عدم اكتمال محاكمته بعد. مضيفًا أن الوضع داخل السجون “أصبح أصعب مع انقطاع الزيارات من العائلات بسبب الأوضاع الأمنية”.
من أبرز المآسي التي عانى منها السجناء خلال الحرب هي انقطاع الزيارات العائلية. في ظل الوضع الأمني المتدهور، توقفت الزيارات التي كانت تُمثل أملًا صغيرًا لأولئك المحرومين من حرّيتهم.
“أصبحنا نعيش في عزلة تامة. لا نعرف شيئًا عن أحوال عائلاتنا، ولا نستطيع أن نطمئن عليهم”، يقول أحد الموقوفين في سجن زحلة.
لم تمنع القوى الأمنية الزيارات الأسبوعية للسجناء من باب القمع أو المنع، بل كانت الظروف العامة هي السبب، بدءًا من إغلاق الطرق وصولًا إلى الاستهدافات العشوائية التي حدثت جنوبًا. هذه الظروف دفعت بعض إدارات السجون إلى اتخاذ قرار بمنع الزيارات في البداية، قبل أن يتم نقل السجناء والموقوفين إلى سجون أخرى أكثر أمانًا حتى يسكت دوي المدافع.
أوضح مصدر أمني، رفض الكشف عن هويته، أن “الحرب الإسرائيلية الأخيرة أسفرت عن إغلاق 6 سجون، وهي: صور، مرجعيون، بنت جبيل، تبنين، النبطية وبعلبك. وعلى إثر ذلك، تم نقل نحو 510 سجيناً إلى سجون رومية، جبّ جنين وراشيا”. مع الإشارة إلى أن تلك السجون لم يُعاد فتحها بعد، إمّا لأسباب أمنية أو بسبب تضرّرها بفعل القصف.
في سياق حديثه، كشف المصدر الأمني عن أعداد السجناء الذين تمّ توزيعهم على السجون في بداية الحرب، وكانت الأعداد على النحو التالي: 100 سجين في سجن صور، 50 في مرجعيون، 50 في بنت جبيل، 110 في تبنين، 100 في النبطية و100 في بعلبك. كما لفت المصدر إلى أن هؤلاء السجناء “تم نقلهم إلى سجون قريبة من مناطق نزوح عائلاتهم بناءً على طلباتهم. على سبيل المثال، تم نقل السجناء الذين نزحت عائلاتهم إلى طرابلس إلى سجن القبة، بينما تم نقل مَن نزحت عائلاتهم إلى بيروت إلى سجن رومية.
تداعيات الحرب على السجون
في هذا السياق، يكشف مصدر قضائي، أن الوضع في سجن زحلة خلال الحرب كان معقدًا للغاية. إذ بتاريخ 27/12/2024، كان السجن يضم 691 سجينًا في سجون الرجال و49 في الإناث. وبسبب الظروف الأمنية، استقبل سجن زحلة حوالي 150 سجينًا من سجون بعلبك، تبنين، والنبطية، إضافة إلى سجناء من نظارات بعبدا والنبطية وغيرها من المناطق.
هؤلاء توزعوا على الشكل التالي: 61 سجينًا من سجن بعلبك وحده نقلوا إلى سجن زحلة، بقي منهم حتى الآن 37 سجينًا، بينما تم إخلاء سبيل البقية. أمّا من سجن تبنين، فقد تم تحويل 21 سجينًا، لا يزال منهم 16 في سجن زحلة. ومن النبطية، تم نقل 24 سجينًا، لا يزال 18 منهم في السجن حاليًا. وأشار المصدر عينه إلى أن أكثر من 600 سجين من النظارات ما زالوا بانتظار مصيرهم، حيث لم تتضح بعد خطوات المعالجة القانونية لهم.
قصفٌ مستمر وطرق مقطوعة… ظروف قاهرة دفعت ببعض القضاة ليحوّلوا منازلهم إلى مكاتب لتسيير شؤون السجناء التي كانت غالبًا ما تغيب وسط فوضى الحرب.
نقص حاد في الرعاية الصحية داخل السجون
أوضاع السجون اللبنانية الصحية لا تُخفى على أحد. فالاكتظاظ المتزايد، في ظل غياب الإمكانيات اللازمة، خلق بيئة غير صحية تماماً، حيث أصبحت الأمراض تنتشر بسرعة بين السجناء بسبب تكدّسهم في أماكن ضيّقة وبنية تحتية متداعية.
وبطبيعة الحال بسبب الحرب، كان من الصعب تلبية احتياجات السجناء الصحية. فمنهم مَن يعاني من أمراض مزمنة كالضغط والسكري، وكان من الصعب تأمين الأدوية اللازمة له.
“انقطع الاتصال مع عائلتي في أحد الأيام، وكانت الغارات تتساقط على بنت جبيل كالمطر. ارتفع ضغطي وفقدت السيطرة على أعصابي، فحاول أحد العناصر تهدئتي وقدّم لي الماء والبنادول… كان هذا كل ما يمكنه تقديمه لمريض يعاني من ضغط مرتفع في ظل انقطاع الطرق.، يقول الموقوف “إ.ب”.
وعلى صعيد صحة السجناء النفسية تصف الاختصاصية النفسية ليال بو شعيا واقع السجون اللبنانية بـ”البيئة القاسية”.
"عندما نتحدث عن السجون اللبنانية، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن أكثر من 70% من السجناء يعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، وذلك بسبب البيئة السجنية المليئة بالضغط النفسي المستمر، إلى جانب الظروف الاجتماعية المحيطة”، تقول بو شعيا.
وتضيف: “إنه من المأساوي أن نجد هذه الحالات النفسية لا تُعالج بالشكل الكافي، ما يؤدّي إلى تدهور الحالة النفسية للمساجين”.
وفيما يتعلق بالتأثير المباشر للحروب على السجون، تشير بو شعيا إلى أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة زادت من معاناة السجناء بشكل غير مسبوق. “عندما تتعرّض السجون للقصف أو للتهديدات المستمرة، يزداد الضغط النفسي على السجناء بشكل كبير. فالعزلة، والخوف المستمر من الموت، وفقدان التواصل مع الخارج، جميعها عوامل تساهم في تفاقم حالات القلق والاكتئاب”.
عجز قضائي وتعديات قانونية
من الناحية القانونية، تكفل النصوص (المواد ٤١ و٤٢ و٤٣ و٤٤ و٤٥ و٤٦ و٤٧ و٤٨ و٤٩ من أصول المحاكمات) حقوق السجناء، ومنها ما ينصّ على منع إبقاء السجين لأكثر من 15 يومًا دون استجواب. ومع ذلك، تبقى تلك النصوص حبراً على ورق لأسباب عدّة.
أولاً، هناك نقص كبير في عدد القضاة مقارنة بعدد الملفات، ما يؤثر بشكل مباشر على قدرة النظام القضائي على التعامل مع القضايا في الوقت المناسب، بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات اللوجستية.
ثانيًا، حتى في حال تحديد موعد للاستجواب أو المحاكمة، تواجه السلطات مشكلة مستجدة تتعلق بـ”تعذر السوق”، حيث تنعدم الموارد مثل البنزين أو وسائل النقل المناسبة لنقل السجناء إلى المحاكم.
ثالثًا، أثقلت الحرب الإسرائيلية على لبنان كاهل القضاء، بحيث اضطرت المحاكم إلى تعليق العديد من الجلسات القضائية أو تأجيلها لفترات طويلة. هذا التوقف الطويل في الإجراءات القضائية زاد من تراكم الملفات وتعقيد وضع السجناء الذين ظلوا في السجون دون محاكمة أو حتى استجواب. كما أثرت الأوضاع الأمنية على قدرة القضاة والموظفين في الوصول إلى المحاكم أو السجون، ما جعل النظام القضائي يعاني من اختلال كبير في سير العمل.
القضاء يفتقر إلى خلية أزمات
وسط هذه السوداوية، يعتقد المدعي العام في البقاع القاضي منيف بركات أن هناك حلولًا يمكن أن تساعد في تخفيف الأزمة الراهنة. من بين هذه الحلول، اقترح الاستجواب “أونلاين” كحلّ بديل في ظل الظروف الحالية، بالإضافة إلى تطبيق قرار المدعي العام التمييزي بتفعيل المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية والتي تنص على عدم جواز التوقيف الاحتياطي لأكثر من شهرين في حالات الجنح. يهدف هذا القرار إلى تخفيف اكتظاظ السجون في حالات الجنح والجنايات، باستثناء القضايا الكبرى مثل القتل، تجارة المخدرات، التخابر الإسرائيلي، والإرهاب.
ورغم أن هذه الحلول لا تعالج جذور المشكلة بشكل كامل، فإنها تساعد في تخفيف العبء على النظام القضائي، ما يسمح له بالتقاط أنفاسه لفترة قصيرة. إلاّ أن المصدر القضائي يعتبر أن أزمة السجون في لبنان “أزلية ومهملة”. ويرى بركات أنه مع تواصل الأزمات في لبنان، لا بد من وجود “خلية أزمة” خاصة بالسجون، لضمان حماية السجناء والقضاة والأجهزة القضائية بشكل عام. هذه الخلية يجب أن تتولى وضع خطط لمعالجة الأزمات أو الحروب، بدلًا من الوقوع في نفس الأخطاء المتكررة.
ويشير إلى أن “كل يوم يشهد جرائم جديدة، ما يتطلب توقيف عدد كبير من المتهمين، سواءً كانوا مجرمين أو مظلومين، مما يزيد من الضغط على السجون اللبنانية. وبالتالي، فإن الاكتظاظ سيظل مشكلة قائمة تهدّد بتفاقم الوضع داخل السجون”.
اليوم إذاً ورغم التفاؤل الذي حمله خطاب الرئيس العماد جوزاف عون، والذي ركّز على أهمية إصلاح القضاء، تبقى المخاوف حاضرة من استمرار الظلم الذي يعاني منه السجناء في بلد يحاول إعادة بناء نفسه حديثاً ويواجه تحديات كبيرة على جميع الأصعدة.
يُنشر هذا التقرير في إطار البرنامج التدريبي حول “أسس ومبادئ التغطية الإعلامية لقضايا الأمن في لبنان” الذي نظمّته مؤسسة “مهارات” بدعم من مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن “DCAF“. هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن. تم نشر التقرير على موقع نقِد.