منذ توليه منصبه، أعلن وزير الاتصالات الجديد عزمه إعادة إطلاق مشروع "ليبان تيليكوم" كخطوة أساسية لإصلاح قطاع الاتصالات في لبنان. تصريحات الوزير شملت أيضًا وضع تصور لتفعيل الهيئة الناظمة بالتنسيق مع الجهات المعنية، ما أضفى أجواء من التفاؤل. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل يكفي القانون رقم 431/2002 لتأسيس الشركة، أم أن الأمر يتطلّب تعديلات أوسع وإرادة سياسية حقيقية؟
القانون، الذي صدر عام 2002، وُضع كخريطة طريق لإعادة هيكلة القطاع وفتح السوق أمام القطاع الخاص، من خلال إنشاء شركة وطنية مستقلة وهيئة ناظمة تعزز الشفافية والمنافسة. إلا أن أبرز بنوده بقيت مجمّدة: "ليبان تيليكوم" لم تُنشأ، والهيئة الناظمة بقيت دون صلاحيات فعلية، فيما استمر القطاع يُدار بعقود مؤقتة وتجاذبات سياسية.
اليوم، مع تسارع التطور السريع في مجال الاتصالات، تبرز مسألة قانون الاتصالات 431 من جديد: هل ما زال قادرًا على إصلاح القطاع كما وُضع قبل 22 عامًا؟ أم أن الوقت قد حان لتعديله، بما يعكس تحولات التكنولوجية ومتطلبات الحوكمة الرشيدة؟ الإجابة على هذا السؤال لم تعد إدارية فحسب، بل سياسية، وتكشف مدى استعداد الدولة للخروج من التعطيل نحو إصلاح فعلي.
في السياق، قال مقرر لجنة الإعلام والاتصالات النيابية النائب ياسين ياسين، لـ"مهارات نيوز" إنّه مضى أكثر من 20 عامًا على صدور قانون الاتصالات، إلا أن بندَي إنشاء "ليبان تيليكوم" وتفعيل الهيئة الناظمة لم يُنفَّذا حتى اليوم. وأشار إلى أن استمرار وزارة الاتصالات بلعب دور المشغّل والمنظّم في آن، ساهم في ترسيخ الفوضى الإدارية والمالية داخل القطاع.
في المقابل رأى خبير الاتصالات والمدير العام السابق لشركة "تاتش" وسيم منصور في حديث لـ"مهارات نيوز"، إن تأسيس الشركة ضمن بيئة تشريعية حديثة وتحت إشراف هيئة ناظمة مستقلة، لا يُعد مجرّد خطوة تقنية، بل يشكّل مشروعًا اقتصاديًا استراتيجيًا يوازي في أهميته قطاعي الكهرباء والمصارف. فهذه الخطوة من شأنها أن تُعيد وضع قطاع الاتصالات في موقعه الطبيعي كرافعة للنمو الاقتصادي، بدل أن يبقى عبئًا على الدولة والمواطن، وتشكل بوابة أساسية نحو بناء اقتصاد رقمي منتج، تنافسي، ومستدام.
خطوات الإنشاء… وما يتطلبه التنفيذ
قالت وزارة الاتصالات لـ "مهارات نيوز" أنها بصدد إعداد خارطة طريق تتضمّن آلية إنشاء "ليبان تيليكوم" بالشكل القانوني والمؤسساتي المطلوب، بالتنسيق مع هيئة "أوجيرو"، في ظل الحاجة لإعادة توزيع الأدوار بينها وبين المديرية العامة للإنشاءات والاتصالات. لكن هل يكفي هذا التنسيق؟ أم أن الأمر يتطلب موافقة مجلس الوزراء ومجلس النواب معًا؟ قال الخبير في الحوكمة الرقمية عبد قطايا لـ"مهارات نيوز" إن "إنشاء الشركة يتطلب، إلى جانب الإرادة السياسية، خطوات تنفيذية واضحة تلتزم بالمرجعية القانونية، وأي تغيير جوهري في بنية الشركة أو صلاحياتها قد يفرض تعديل القانون أو إصدار تشريع موازٍ". وشدّد قطايا على ضرورة وجود هيئة ناظمة مستقلة وفعالة، تُشرف على العملية وتضمن الشفافية والمحاسبة.
ووفقًا لقانون الاتصالات، تهدف الشركة إلى دمج مهام هيئة "أوجيرو" ومديرية الإنشاءات والاتصالات ضمن كيان وطني واحد، يتولّى إدارة البنية التحتية ويوفّر بيئة منافسة من خلال تأجير سعات الانترنت للمشغّلين الخاصين. وينصّ القانون على أن تكون "ليبان تيليكوم" مملوكة بالكامل للدولة وتخضع لإشراف الهيئة الناظمة للاتصالات (TRA)، التي يُفترض أن تتمتّع بالاستقلالية الكاملة. تُمنح الشركة صلاحيات واسعة تشمل إنشاء وتشغيل شبكات الاتصالات العامة، تأجير البنية التحتية للجهات المرخّصة، وتقديم خدمات الجملة (Wholesale) وهي خدمات توفّرها شركات الإتصالات لمزوّدي خدمات آخرين، مثل تأجير سعات الإنترنت أو البنية التحتية، دون التعامل مباشرة مع المستهلك".
الإصلاح التشريعي شرط النهوض الرقمي
يعتبر عبد قطايا أن غياب الإرادة السياسية يشكّل العائق الأبرز أمام تطبيق قانون الاتصالات، رغم الحاجة الملحّة لتفعيله وتحديثه بما يتماشى مع التغيرات المتسارعة عالميًا. وأوضح أن قطاع الاتصالات يُعد من أكثر القطاعات حيويةً وتطورًا، ما يفرض إعادة النظر بالإطار التشريعي الحالي، وتفعيل دور الهيئة الناظمة المستقلة. وأشار إلى أن انتقال ملكية شركتَي "ألفا" و"تاتش" إلى الدولة عام 2020 لم يُترجم إلى تحسين في الحوكمة أو الإدارة، بل بقيت التدخلات الوزارية والفوضى في التعاقد مع الشركات الخارجية قائمة، مما أدّى إلى تكرار في المهام وهدر في الموارد العامة، وارتفاع تكلفة الخدمات.
ولفت إلى أن لبنان لا يزال يعتمد على قانون الاتصالات الصادر عام 2004 ومرسوم "أوجيرو" من التسعينيات، وهما لم يعودا ملائمَين للواقع التقني الحالي. وشدّد على ضرورة إقرار قانون لحماية البيانات الشخصية، وهيكلة قانون الاتصالات، مع التركيز على الاتصالات اللاسلكية، باعتبارها حجر الأساس للاقتصاد الرقمي. وذكر أن الدولة حققت نحو 17 مليار دولار من عائدات الاتصالات بين 2010 و2020، صُرف منها 11 مليار دولار على الرواتب وخدمة الدين، في ظل اتهامات متكررة بالفساد وسوء الإدارة، ما أعاق تطوير البنية التحتية الرقمية ومنع البلاد من اللحاق بركب التحوّل الرقمي.
وهو ما يؤكده ياسين, حيث أن الأسباب الجوهرية للتأخر في تنفيذ القانون ترتبط بنظام المحاصصة والطائفية وغياب الإرادة السياسية، إضافة إلى الخوف من الشفافية، لأن تفعيل الحوكمة قد يكشف مكامن الهدر والفساد. ورأى أن القانون ذاته بات متأخرًا تقنيًا، مضيفًا: "نعمل كنّواب بالتعاون مع مجموعة من الخبراء على إعداد مسودة قانون جديد، تنطلق من مبادئ القانون الحالي، ولكن تُدخل تعديلات جوهرية تواكب التحول الرقمي". في المقابل، ترى وزارة الاتصالات أن القانون الحالي لا يزال إطارًا صالحًا، ويمكن تطبيقه مع تطوير بعض بنوده لاحقًا، لكن الأولوية تبقى لتطبيقه كما هو.
في الخلاصة، إن عودة الحديث عن مشروع "ليبان تيليكوم" تفتح نافذة جديدة أمام إصلاح حقيقي لقطاع الاتصالات في لبنان. لكن نجاح هذا المسار يبقى مرهونًا بتفعيل الهيئة الناظمة واستقلالها، وإنشاء الشركة ضمن إطار قانوني واضح، وتوفّر الإرادة السياسية لإخراج القطاع من منطق المحاصصة. بعد أكثر من 22 عامًا على تجميد قانون الاتصالات 431، بات واضحًا أن غياب الإصلاح يعيق التحوّل الرقمي والنمو الاقتصادي. فالقطاع لم يعد مجرد خدمة، بل أساس لكل نهضة تنموية. المطلوب اليوم قرار سياسي جريء يعيد الاعتبار للحوكمة ويضع الاتصالات في موقعها كقطاع استراتيجي، لا كعبء على الدولة.