وسط الأبنية المزدحمة، في منطقة فرن الشباك في العاصمة اللبنانية بيروت، ووسط مشهدية تملؤها كل أنواع ومسببات التلوث، تُشكل "مزرعة بيروت" فسحة أمل باعتماد نوع جديد من الزراعة. ويعاني سكان لبنان عمومًا والعاصمة خصوصًا، من أزمة مياه وتراجع في المتساقطات، وتحذيرات من أن يتبوأ لبنان مركزًا أعلى بين الدول المُعرضة لندرة المياه، وفق تقرير صادر عن المعهد العالمي للموارد، إلى جانب دراسات تكثر معها التخوفات حول إمكانية استمرار الحياة بما فيها الزراعة في بيئة مماثلة.
تعتمد "مزرعة بيروت" على أسس الزراعة المائية، بعيدًا عن الزراعة التقليدية، تلك التي تتهدد كلما كثر الحديث عن أزمة ندرة المياه في لبنان أو العالم. وتعتمد المزرعة أسلوب الزراعة المائية كأحد أهم أساليب الزراعة الصديقة للبيئة.
وتعد الزراعة المائية من أبرز أنواع الزراعات الحديثة، (تكون مفيدة في بلد تربته الزراعية مليئة بالتلوث كلبنان) كونها تعتمد على المياه ومكونات معدنية مغذية للنباتات فقط بعيدًا عن التربة. ولهذا النوع من الزراعة فوائد عديدة، لعل أبرزها هو ما يسعى إليه كل مزارع، أي زيادة الإنتاج بشكل كبير جدا مقارنة بالطرق الزراعية التقليدية.
مبادرات شبابية
"4800 نبتة زراعية، يمكننا انتاجها في الشهر الواحد، بكلفة أقل من الزراعة التقليدية، وفقط باستخدام 10 ليترات من المياه، يوميًا" هكذا يشير ساندرو علوش، صاحب مشروع "مزرعة بيروت". ويُعرف علوش الزراعة المائية أنها من أهم الأنظمة الزراعية، فهي لا تحتاج إلى استثمار كبير ولا يد عاملة كثيرة، لكنها توفر أطعمة صحية، لاسيما وأنها أكثر إنتاجية مقارنة بالزراعة التقليدية، بفضل استثمار مساحة ومياه أقل.
ولا تنحصر فوائد هذه الزراعة، بمنافعها البيئية، تلك التي تتمثل بخفض نسبة استهلاك المياه، أو إنتاج مزروعات من دون أسمدة أو مبيدات، إنما تتعداها لتصل إلى منافع اقتصادية. تُسهّل الزراعة المائية عملية امتلاك "أرض متنقلة" بمساحة كبيرة، كونها تقوم على الزراعة ضمن أنابيب عامودية كبديل عن الهكتارات والمساحات الواسعة. إلى جانب ذلك، تبرز فوائد الزراعة المائية من خلال تقليل كلفة إيصال منتجاتها إلى المحال التجارية، كونه يمكن تنفيذ هذا النوع من الزراعة على أسطح الأبنية أو ضمن حاويات متنقلة، تجعلها أكثر قربًا من المدن، وصديقة للبيئة، بحيث تخفف من تلوث الهواء.
تتطلب الزراعة التقليدية، جهدًا كبيرًا لناحية اليد العاملة، وري المزروعات، إضافة إلى اهتمام ورعاية متواصلة. إلا أنّ الزراعة المائية وبحسب "مزرعة بيروت"، لا تحتاج إلى يد عاملة كبيرة: "شخص واحد يمكن له أن يدير الزراعة ومتابعة الاهتمام بالمحصول". وعند الحديث عن المبيدات والأسمدة فيعني ذلك كلفة انتاجية أعلى، وهو ما لا نجده ضمن حساب الزارعة المائية.
هي مبادرة تُمثل حلًا محليا ضمن مبادرات شبابية لمواجهة مخاطر عديدة، لعل أبرزها التخوف من أن يتدهور الوضع في لبنان أكثر على مستوى ندرة المياه إلى جانب خمس دول - البحرين وقبرص والكويت وعمان وقطر. وترجع الدراسات ذلك إلى ارتفاع الطلب على المياه في الاستخدام المنزلي والزراعي والصناعي.
في البقاع، يبرز مشروع وائل زيدان، 23 سنة، من ضمن المشاريع الأكثر انتاجًا في البقاع اللبناني. يقول زيدان: إن الزراعة المائية بدأت كمشروع وباتت اليوم تؤمن له مكسبًا ماديًا جيدًا. ويشدد على أن أهميتها تكمن في توفيرها للمياه في البقاع، تلك المنطقة التي تعاني من شح فيها، أو من امكانية الوصول إلى مصدر مياه نظيف وليس ملوثًا.
الزراعة المائية، بحسب زيدان، تعتمد على الهواء والمياه فقط، وهي توفر 90 في المئة من كمية المياه مقارنة بتلك التي تتطلبها الزراعة التقليدية. أما لجهة الهدر في المياه، فإن الأمر بعيد في الزراعة المائية، خاصة إذا تمت عملية عزل الأنابيب بطريقة صحيحة والتخلص من عملية التبخر، وهو أمر لا يمكن استبعاده في الزراعة التقليدية. أما لجهة التحديات، فيقول زيدان إن الزراعة المائية تتطلب اطلاعًا واسعًا في الزراعة وهندسة الأنابيب، وهو ما يمكن اكتسابه عبر تدريبات وورش.
حلول لمواجهة التخوفات المحلية والعالمية
بحسب الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه لعام 2010، فإن المتوقع أن يصل استهلاك المياه في لبنان 562 مليون متر مكعب في السنة للاستهلاك المنزلي و 169 مليون متر مكعب في السنة للاستهلاك الصناعي و1,050 مليون متر مكعب في السنة للري مقابل 21 مليون متر مكعب في السنة لقطاع السياحة بحلول عام 2035. وسط توقعات أن جميع مؤسسات المياه ستظل تعاني من توازن مائي سلبي في عام 2035، وهو مرتبط بعدم كفاءة العرض وضعف إدارة الطلب.
وتُعتبر الزراعة في لبنان المُستهلك الرئيسي للمياه. وبناءً على الإستراتيجية الوطنية المحدثة لقطاع المياه لعام 2020، فإن الطلب على مياه الري يقدّر بـ 882 مليون متر مكعب في السنة، مقارنةً بـ 350 مليون متر مكعب في السنة للاستهلاك المنزلي والصناعة والسياحة.
ويقدر استهلاك الريّ بـ 9000 متر مكعب للهكتار الواحد، ولكن هناك خطط لتقليل الاستهلاك إلى 8400 متر مكعب للهكتار بحلول عام 2035. ومن إجمالي مساحة الأرض، فقد تم تحديد حوالي 3084 كيلومتر مربع كمساحة زراعية مزروعة تغطي كل من الأراضي الصالحة للزراعة والمحاصيل الدائمة.
أما لجهة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فتعتبر هذه المنطقة الأشد ندرة في المياه على مستوى العالم، حيث يعيش أكثر من 60 في المئة من سكانها في مناطق تعاني من مستوى مرتفع أو مرتفع جداً من إجهاد المياه السطحية، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 35 في المئة.إذًا، تشي الأرقام بخطورة المسار الحالي في لبنان لا بل العالم أجمع. مسار يسوده أزمة ندرة المياه وما يرافقها من تهديد للقطاعات كافة وحياة البشرية. ومن هنا تبرز أهمية تطوير الزراعة المائية وتوسيع مشاريعها لا بل اعطائها حيزًا أكبر من قبل السلطات الحكومية في لبنان والعالم أجمع.
وأمام هذه المخاطر، لا بد من تحرك حكومي إلى جانب القطاعات الخاصة، ومضاعفة الجهود في زمن ندرة المياه، وأن تشارك في التفاعلات الإقليمية بين المتخصصين في مجال المياه لإيجاد حلول جذرية تفاديًا لمخاطر أكبر قد تهدد الحياة البشرية.
لعل أبرز هذه الحلول تلك التي حددها تقرير التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتدعيم استدامة وكفاءة إدارة المياه في المنطقة من خلال ثلاث استراتيجيات غير حصرية يمكن انتهاجها لتعزيز الأمن المائي.
أولاً: خفض استخدام المياه للحد من الطلب من خلال فرض رسوم على خدمات المياه ومكافحة التسرب و زيادة حملات التفقد لشبكات المياه في البلدات.
ثانيًا: إعادة تخصيص المياه لمواءمة الطلب، أي تحديد أولويات استخدامات المياه عالية القيمة التي تقابلها ضمانات للانصاف والاستقرار الاجتماعيين وحقوق المياه والدعم الميالي وسياسات التسعير.
ثالثًا: توفير مصادر المياه لتلبية الطلب من خلال مصادر تقليدية وغير تقليدية قائمة على إعادة تدوير المياه مثلا.
أما في لبنان ولجهة تعزيز الزراعة المائية يؤكد مؤسس شركة هيدروبونيكا الزراعية، المهندس مازن منيمنة، على أن هذا النوع من الزراعة يساهم بشكل كبير في توفير المساحات، مشيرًا إلى أن المساحات المحمية مثل البيوت البلاستيكية (Greenhouse) تحتاج إلى تبريد وتدفئة، مما يؤدي إلى تكاليف مرتفعة.
ومع ذلك، فإن نظام الهيدروبونيك يوفر مزايا عديدة، حيث يمكن زراعة 45,000 نبتة من الخس على سبيل المثال بدلاً من 7,000 نبتة بوسائل الزراعة التقليدية، رغم أن التكاليف التشغيلية للطاقة تبقى ثابتة.
وعلى صعيد السياسات الحكومية، يوضح منيمنة أنه قبل عام 2019، تلقّى دعوة من وزارة الزراعة للمشاركة في إعداد دليل خاص بالزراعة المائية في لبنان، بالتعاون مع الأمم المتحدة. ويشير قائلاً: "شاركنا في تطوير هذا الدليل، وكان ذلك آخر دعم تلقيناه في ذلك الوقت." وأضاف: "في الوقت الحالي، لا أظن أنه حتى توجد أي إمكانيات لدعم هذا المجال، سواء في ما يتعلق بالبذور أو الأدوات".
ويشير منيمنة إلى أن بعض المزارعين قد يلجأون إلى الزراعة المائية كوسيلة لتفادي مشقة تدوير المحاصيل الزراعية. ويوضح قائلاً: "المزارع لن يتجه إلى الزراعة المائية خوفًا على صحة الإنتاج أو المستهلك، بل لأنه يهتم بشكل رئيسي بالإنتاج الوفير الخالي من الأمراض. في العديد من الحالات، قد يستخدم المزارع مبيدات بشكل كبير دون الاكتراث بآثارها المتبقية، إلا إذا كان المزارع يخطط للتصدير. في هذه الحالة، سيكون هناك رقابة على المنتجات، مما يجبره على العناية بشكل أكبر، سواء في الزراعة التقليدية أو المائية".
الزراعة المائية ما بين التاريخ والحاضر
ظهرت الزراعة المائية مع حدائق بابل المعلقة في العراق، كأول تجربة للزراعة العمودية في التاريخ وكإحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. ألهمت حدائق بابل البشرية لفكرة الزراعة بدون تربة، ومن خلالها انتقلت الزراعة العمودية للعالم أجمع خاصة للشعوب التي تعيش في مرتفعات جبلية، أو الذين يعيشون بالقرب من البحيرات، حيث استخدمت شعوب الأمريكتين الأصلية القش بديلا عن التربة في الزراعة، وفي عصرنا الحديث قام روجوليام فريدريك جيريكه من جامعة كاليفورنيا بزراعة المحاليل لإنتاج المحاصيل الزراعية عام 1929.
وقد اشتهرت هذه الزراعة على مدى الأعوام على أسطح المنازل في ثلاثينيات القرن الماضي لتزداد انتشارًا في العالم. وبسبب التغيرات المناخية المتسارعة ورغبة العديد في تمكين الإنتاج المحلي، أصبحت الزراعة المائية تُدرس في الجامعات وتقوم عليها أبحاث على أسس علمية عديدة، بحثا عن آثارها في تعزيز البصمة الكربونية وتحقيق الأمن الغذائي.
وبالحديث عن أثر هذه الزراعة على البصمة الكربونية، يشرح ذلك الأخصائي في النظم البيئية، ريان قاسم، قائلاً: "مع الزراعة التقليدية فإن نسبة ثاني أوكسيد الكربون والغازات الدفيئة قابلة للارتفاع. ومع زيادة سعي الدول إلى تحقيق أمنها الغذائي وازدياد عدد السكان والتغير المتسارع في نمط حياتهم، فإن الطلب على المنتوجات الزراعية والحيوانية يتسارع، وهو ما يتطلب قطع المزيد من الأشجار لإنشاء المزارع وتأهيل المساحات للزراعات الموسمية، فاقدين بذلك مساحات خضراء مستدامة قادرة على التأثير ايجابًا في البصمة الكربونية". وتابع أن الزراعة المائية لا تستوجب مساحات كبيرة كونها يمكن أن تتم على الأسطح الصغيرة أو ضمن زراعة أفقية وبالتالي "فإن البصمة الكربونية قادرة على الانخفاض ومعها الانبعاثات الدفيئة".
وفيما يتعلق بقدرة الزراعة المائية على تأمين استدامة الأمن الغذائي في لبنان، أكد قاسم أنه من الصعب أن تحقق ذلك. وأشار إلى أن الزراعة المائية بحد ذاتها مستدامة، لكنها ليست قادرة على تغطية الاحتياجات الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي وأهمها البروتينات النباتية كالحبوب والبروتينات الحيوانية. وأضاف أن أكثر المشاريع التي تعتمد الزراعة المائية تنتج النباتات المعروفة بالبقوليات. وشدد قاسم على أنه لا يوجد أي دولة في العالم تعتمد الزراعة المائية بشكل كامل، وإلا لاعتمدتها الدول إذا كانت قادرة على تغطية أو تأمين الأمن الغذائي، وبالتالي فإن الزراعة المائية تنحصر ضمن مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم.
تم إعداد هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي نظمته مؤسسة مهارات حول "الإعلام والتغير المناخي والقضايا البيئية" بالتعاون مع مشروع خدمات الدعم الميداني في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان، والعراق) والمنفذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية. تم نشر هذا التقرير في موقع الكلمة اونلاين.