تتزايد قضايا الفساد وهدر المال العام في لبنان منذ سنوات ما انعكس مباشرة على حياة المواطنين لاسيما في الناحية الاقتصادية. هذا كله في ظل غياب واضح للجهات الرقابية ودورها الأساسي في الحدّ من هذه التجاوزات.
بدأت طلائع مكافحة الفساد في لبنان في العام 2008 عند مصادقة مجلس النواب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وشكّل الحراك الشعبي في السابع عشر من تشرين الأول 2019، عامل ضغط كبير لإقرار مجلس النواب عددًا من القوانين الإصلاحية، مثل قوانين حماية كاشفي الفساد والإثراء غير المشروع وإلغاء الوكالات الحصرية وذلك وفقًا لما يُبيّن النائب السابق والمحامي غسان مخيبر، الذي أكد أن أغلب نصوص هذه القوانين وُضعت منذ سنين طويلة، وكانت نتاج لجهد لبناني بقيادة داخلية بحتة.
ونتيجة الضغوط والحاجة أيضًا، أقرّ لبنان قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد(مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد) الذي حمل الرقم 175، في 8/5/2020، بالتزامن مع إقرار الحكومة آنذاك، الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في العام نفسه.
يُعد تفعيل دور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من بين الأمور التي اهتم بها إطارالإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار "3RF"، وهو نتيجة شراكة بين الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني، وجاء كإستجابة لإنفجار مرفأ بيروت عام 2020.
ويقوم الإطار على عدّة ركائز، منها: "تحسين أنظمة الحوكمة ورفع مستوى المساءلة"، ومن الإجراءات التي يوصي بها إجراء تقييمات سريعة لمخاطر الفساد في قطاعات إعادة الإعمار الرئيسية وذلك لمنع تسرب الأموال وإساءة استخدامها. ومن أولوياته في العام 2022 كان تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وإجراء تعيينات لكامل الشواغر في الهيئة وإتاحة التمويل الكامل لها، وتعزيز قدرات التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ودورهما الرقابي. وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
فما هي أدوار هذه الهيئة والتحديات التي تعيق عملها، وهل يمكن أن تلعب دورها في ظل وجود الطبقة السياسية نفسها في الحكم؟
شلل وتأخير
استغرق إنشاء الهيئة وتشكيل أعضائها عامين حتى تم تأدية القسم في 17/2/2022، وقد عُقد أول اجتماع لها في اليوم نفسه، إلا أن حماس الانطلاقة لم يدم طويلاً، بل قوبل بفترة شلل حالت دون استئناف عملها على المستوى المرجو، ويعود ذلك إلى التأخر في الموافقة على النظام الداخلي ومدونة السلوك الخاصة بالهيئة.
خلال شهرين، وضعت الهيئة الوطنية نظامها الداخلي مستشهدةً بنماذج أنظمة في الخارج، وأحالته إلى مجلس شورى الدولة، الذي وجد بعض الثغرات غير المتوافقة مع القانون، وتحديدًا في المادتين 14 و15 المتعلقتين بخضوع موظفي الهيئة بمختلف فئاتهم لمجلس الخدمة المدنية، وخضوع نظام الهيئة المالي إلى المالية العامة للدولة. هنا يؤكد رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي إلياس، في حديثه، أن التعديلات هذه جاءت من أجل تحصين الهيئة قانونيًا وتفادي الطعن بقراراتها، لذلك ارتأى مراجعة مجلس الخدمة ووزارة المال.
يشير مصدر من مجلس الخدمة المدنية، في حديثه، إلى أن "التأخير في متابعة الملفات تشمل مختلف قطاعات الدولة، ومن بين الأسباب "ضعف الإمكانات اللوجستية كالكهرباء والطباعة وغيرها، بالإضافة إلى قلّة عدد الموظفين الذين يعملون تحت ظروف ضاغطة، لتدني الرواتب وإحالة العديد على التقاعد"، أما في مسألة عدم التوظيف فيؤكد المصدر "وجود نص قانوني منذ العام 2018 بمنع التوظيف في القطاع العام"، فيما يشدد على "ضرورة إعطاء الأولوية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ودعمها".
أدخل التأخر في المراجعات وتبادل الملاحظات والأخذ والردّ بين هذه الجهات (حيث كانت تأخذ المراجعة شهورًا في بعض الأحيان) الهيئة في فترة شلل نظرًا لصعوبة مزاولة مهامها من دون نظام داخلي يؤطّر عملها. ومن أهم الأمور التي لم تستطع ممارستها، هي تطبيق قانون استعادة الأموال المتأتية من جرائم الفساد، والذي يعتبر ركيزة أساسية لمحاسبة الفاسدين وتعزيز الشفافية المالية، بالإضافة إلى عدم القدرة على تفعيل قانون حماية كاشفي الفساد.
أما على صعيد تطبيق قانون حق الوصول الى المعلومات، فيشرح الصحافي إدمون ساسين، أنه بعد تقدّمه والمحامي علي عباس، بطلب حصول على معلومات من وزارة المال عن مشروع سدّ المسيلحة، لم تستطع الهيئة الوطنية متابعة الملف وتسجيل الشكوى حتى، لعدم وجود موظفين ونظام داخلي، ولدى مراجعتهما قاضي العجلة في بيروت، أبلغهما أن شكاوى الحصول على المعلومات أصبحت من اختصاص الهيئة فقط، إلى أن أصدر مجلس شورى الدولة قرارًا إلزاميًا بإيداع المعلومات مع غرامة إكراهية تصل إلى 3 ملايين ليرة عن كل يوم تأخير. ويؤكد ساسين أنه لو تمّ تفعيل الهيئة منذ البداية وجعلها المرجع الوحيد لما حصل هذا النوع من الضياع والهدر في الوقت قبل حصوله على معلوماته.
وسط كل ما سبق، باشرت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بعض مهامها خلال هذه الفترة، حتى حصلت على الموافقة على صيغة للنظام الداخلي ومدونة سلوك تتوافق مع القانون وتُرضي جميع الأطراف، في أوائل العام 2024.
تحديات تعيق تحقيق الشفافية
تواجه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عوائق أساسية في مسار عملها، على صعيد الإمكانيات المادية واللوجستية والكادر البشري. ويكشف رئيس الهيئة القاضي كلود كرم، في حديثه، أن الموازنة المرصودة للهيئة عام 2020 كانت 6 ملايين دولار، إلا أن المبلغ هذا "الذي لم تحصل عليه مطلقًا" تقلّص إلى 300 ألف دولار في الموازنات التالية، حتى حصلت في نهاية الأمر على 700 ألف بجهود من مجلس النواب.
ويضيف كرم، أنه طلب من مجلس الخدمة المدنية "توظيف نحو 80 موظفًا، لكن الأخير لم يستجب لذلك لعدم حضور موظفيه"، وحول الرواتب المتدنية في القطاع العام، يؤكد كرم أنه "ما زال هناك ثقة في وظيفة الدولة التي توفّر استقرارًا لحد ما، كما أن الرواتب والوضع الاقتصادي لن يبقيا على حالهما، بدليل أن الآلاف تقدّموا مؤخرًا للعمل في الهيئة وفي السلك القضائي أيضًا"، بحسب كرم.
تتجلّى أهم العوائق في بعض الثغرات في قانون الهيئة، رغم أنه منحها صلاحيات استقصائية واسعة، إلا أنه ربطها جميعها بالقضاء.على سبيل المثال، تستطيع الهيئة عند فتح ملف ما، القيام بتحقيقاتها الخاصة ومراجعة حسابات وأرصدة المتهم، بموجب قانون رفع السرية المصرفية، لكنها لا تستطيع تجميد هذه الحسابات أو وضع إشارة أو منع سفر مؤقت، وهي أمور ضرورية في سياق التحقيقات، إنما المناط بصلاحياتها هو الطلب من القضاء القيام بذلك، الأمر الذي يستغرق وقتًا طويلاً، وأكثر من المدة المحددة في قانون الهيئة لإجراء التحقيق.
إضافةً لما سبق، يبرز موضوع عدم تفعيل قانون حماية كاشفي الفساد، فالمواطن الذي تحلّى بالمسؤولية الوطنية لا يجد من يحميه في محاربته للفساد، وهو ما يؤكده كرم، بأنه طلب مرارًا من وزارة الداخلية توفير الحماية الأمنية لكاشفي الفساد، من دون جدوى، الأمر الذي يضعف ثقة المواطن.
دورها في تعزيز الشفافية
أنشأت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد دائرة فرعية لديها متخصصة باستعادة الأموال المتأتية من الفساد، وهي تعمل على جمع المعلومات حول جرائم الفساد ومتابعة مسارها، من أجل وضع الأموال المنهوبة في صندوق وطني لاستثمارها. كما طبّقت قانون التصريح عن الذمة المالية والمصالح، وأصبحت الجهة الوحيدة التي تستلم التصاريح من الوزراء والنواب والموظفين في دائرة متخصصة لديها، كما أنها تعمل على تطوير منصة في موقعها على الإنترنت تتيح للموظفين التصريح عن ذممهم ومصالحهم إلكترونيًا.
أحد العناوين العريضة لإنشاء الهيئة هو نشر ثقافة النزاهة والشفافية، من هنا قامت بنشاطات توعوية على مستويات مختلفة. نفّذت دورات تدريبية لموظفي القطاع العام حول مكافحة الفساد المستشري ومراعاة الشفافية في مزاولة عملهم، كما نظّمت ورشًا لطلاب المدارس والجامعات لتعريف المواطنين على وجود هذه الهيئة وأدوارها وصلاحياتها، والتشجيع على إنشاء نوادي النزاهة داخل الجامعات لتعويد الطلاب على مفاهيم الشفافية والمساءلة، بالإضافة إلى التعاون مع مركز البحوث التربوية بغية إدخال مواد عن النزاهة والشفافية في المناهج التعليمية، وإنشاء ماجستير في الجامعة اللبنانية في اختصاص "مكافحة الفساد والحوكمة". علاوةً على ذلك، وقّعت الهيئة مذكّرات تفاهم مع جمعيات ومؤسسات أممية وانتسبت إلى شبكات عربية ودولية لمكافحة الفساد، الأمر الذي يسهّل التعاون والتواصل المباشر بينها وبين الجهات الحكومية في الخارج، حول الكشف عن معلومات أو تحقيقات لمتابعة جرائم فساد معينة.
هيئة شبه قضائية
حرصت الهيئة على ضمان حق الوصول للمعلومات المكفول في القانون رقم 28/2017، حيث أن على رأس مهامها تلقّي شكاوى المواطنين حول عدم الحصول على المعلومات التي طلبوها من الإدارات الرسمية، وهي بذلك تدرس الشكوى وتصدر قراراتها بإلزام الجهة المعنية إيداع المشتكي معلوماته.
يوضّح المواطن شاكر طالب، في حديثه، تقدّمه بشكويّين أمام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، الأولى تختص بطلب الحصول على معلومات من وزارة الداخلية والبلديات، التي لم تردّ عليه منذ عهد الحكومة السابقة، والثانية تختص بطلب الحصول على معلومات من مدير عام هيئة إدارة السير، الذي لم يرد عليه أيضًا، وتأتي هذه الطلبات في سياق دعاوى قضائية رفعها بنفسه وتطلبت بعض المعلومات لدعمها.
بعد تحقيقات ودراسة، أصدرت الهيئة الوطنية القرار رقم 15/2023 المتعلق بوزارة الداخلية والقرار رقم 14/2023 المتعلق بهيئة السير، ألزمت من خلالهما الإدارتين بإيداع شاكر معلوماته التي أُثبت حقه بالحصول عليها بموجب القوانين، إلا أنه حتى اليوم لم ينال ذلك، ولم تلتزم الإدارتان قرارات الهيئة، بالتالي، تبقى العبرة في التطبيق من أجل محاربة الفساد.
ما الحل؟
يستلزم لتفعيل عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتمكينها من لعب الادوار التي أُنشئت لأجلها العديد من الأمور من أهمها تأمين الموارد المالية الكافية لتغطية نفقاتها ونفقات العاملين فيها، كما وبناء قدراتهم وتدريب العاملين في الهيئة على القوانين والمعايير العالمية لمكافحة الفساد وهذا لا يكون من دون الدعم الحكومي الجدي والتعاون (غير المشروط) مع المؤسسات الدولية الناشطة في هذا المجال.
كما يُعد تفعيل الدور الرقابي لمؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية على عمل الهيئة مهم جدا وأساسي في ضبط العمل ودفعه إلى الأمام.
وفي السياق يرى المحامي علي عباس أن ما ينقص الهيئة أيضًا هو منحها مزيدًا من الاستقلالية السياسية والقضائية، من خلال توسيع صلاحياتها وتفعيل القدرة على اتخاذ القرارات وسرعة تسجيل الطلبات وتنفيذ التحقيقات، بالإضافة إلى معالجة أزمة الموظفين مع تعزيز كادرهم وعدم إخضاعهم للروتين الإداري.
ويضيف عباس أن على جميع مؤسسات الدولة أن تتعاون مع الهيئة على صعيد إيداعها المعلومات والملفات المطلوبة، كما على مجلس النواب تخصيص نفقة من الموازنة أو تأمين مصادر تمويل أخرى، ربما عبر وضع طابع مالي بإسمها، ناهيك عن تسريع ربطها بالقضاء على صعيد وضع الإشارات وحجز الأموال ومنع السفر. ربما هناك نيّة سياسية لإبطاء عمل الهيئة وعدم تفعيلها، وهو ما يؤكده عباس، أي أن هناك تقصّد من قبل السياسيين لتعقيد قانونها وآلية عملها بهدف هدر الوقت لإمرار الزمن على قضايا فساد معينة.
وكانت مديرة مشروع "مكافحة الفساد من أجل تعزيز الثقة بلبنان" من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ناتاشا سركيس اعتبرت في حديث سابق لـ "مهارات نيوز" عام 2023 أن الممارسات الفضلى لعمل الهيئات حول العالم، تكون "أولاً بوضع أهداف واقعية يمكن تحقيقها وفقاً للوقت والإمكانيات المتاحة، وثانياً بأن يكون للهيئة دور محدّد وصلاحيات محددة وأن لا تكون جهة تنفيذية، وثالثاً أن لا تكون مسؤولة عن استراتيجية مكافحة الفساد بالكامل لأنه عمل تنسيقي بين كافة الجهات وليس مسؤولية الهيئة فقط".
تم إعداد هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي نظمته مؤسسة مهارات حول "الشفافية المالية ربطًا بالإصلاحات القطاعية". وتم نشر هذا التقرير في موقع kataeb.org.