Loading...

تحت مظلة الضمان: هل يبدأ الصحافيون المستقلون رحلة الحماية الاجتماعية؟

 

"بصفتي صحافيًا مستقلاً، أواجه غيابًا شبه تام لأي حماية قانونية أو اجتماعية، لا امتلك تأمينا صحيا، ولا ضمانا اجتماعيا، كما لا يحق لي بمعاش تقاعدي يضمن لي الحد الأدنى من الأمان بعد سنوات العمل." بهذه الكلمات عبّر الصحافي المستقل إبراهيم درباس عن الواقع الذي يعيشه هو والكثير من العاملين في القطاع الإعلامي خارج الأطر المؤسساتية، حيث يفتقر الصحافيون المستقلون إلى أبسط أشكال الحماية القانونية والاجتماعية، في ظل غياب تشريعات تنظم وضعهم وتكفل حقوقهم.

 

 في خطوةٍ وُصفت بأنها غير مسبوقة على صعيد الحماية الاجتماعية للعاملين في القطاع الإعلامي، أقرّ مجلس الوزراء اللبناني بتاريخ 14 أيار 2025 مرسومًا يحدّد نسبة الاشتراكات المفروضة على الصحافيين والمصورين اللبنانيين المستقلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بـ9% من ثلاثة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور، تُسدَّد على دفعات فصلية.

 

كما ينص القرار على خفض النسبة إلى 2% بعد سنّ التقاعد، مع مساهمة الدولة بنسبة 1% من اصل القيمة نفسها. ويُقصد بالمستقلين هنا أولئك الذين يعملون لحسابهم الخاص، خارج الإطار التعاقدي الدائم مع مؤسسات إعلامية، سواء في الصحافة المكتوبة أو الرقمية أو التصوير الميداني. ورغم كونهم يشكّلون نسبة متزايدة من الجسم الإعلامي، لا سيما في ظل اتساع رقعة الإعلام الرقمي والعمل الحر، فما زالوا محرومين من أبسط حقوق الحماية الصحية والتقاعدية، ما يجعلهم في موقع هشّ إمام المخاطر المهنية والتقلبات الاقتصادية. 

 

لكن، وللأسف، لا تزال شريحة واسعة من الصحافيين المستقلين تعيش في قطيعة شبه تامة مع القرارات الرسمية التي تُتخذ بشأنهم، نتيجة ضعف آليات التواصل الرسمي وسوء نشر المعلومات ذات الصلة، ما يعمّق الفجوة بينهم وبين السياسات المفترض أن تُنصفهم. وقد أعلن وزير الإعلام بول مرقص هذا القرار عقب جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، واصفًا إياه بأنه "خطوة أساسية نحو إنصاف فئة لطالما بقيت مهمّشة". إلا أن الحذر سرعان ما طغى على التفاؤل، مع تصاعد التساؤلات حول قدرة هذا القرار على إحداث تغيير فعلي، في ظل غياب آليات تنفيذية واضحة، وثغرات بنيوية في إدارة الضمان، وعبء مالي قد يتجاوز قدرة العديد من الصحافيين المستقلين على الالتزام بالمساهمة المنتظمة. يفترض أن شمول الصحافيين المستقلين في نظام الضمان الاجتماعي في لبنان قد يشكّل خطوة أولى نحو الاعتراف القانوني بهذه الفئة، إلا أن فعالية هذا القرار تبقى مشروطة بوضوح الآليات التنفيذية وعدالتها، وبوجود إطار تشريعي شامل يضمن عدم تهميش الفئات غير المنتسبة إلى نقابات مهنية.

 

وهذا الأمر بدا واضحاً مع تأكيد نقيب المصورين علي علوش لـ "مهارات نيوز" أن الرد من إدارة الضمان الاجتماعي لم يكن حاسماً في هذه المرحلة، ويرجع ذلك إلى غياب التوضيح الكافي للقرار واستمرار دراسة بعض القرارات النهائية، مما يستدعي المزيد من الوقت للوصول إلى رؤية واضحة وتفاهم مشترك يضمن اتخاذ خطوات عملية ومدروسة في المستقبل القريب. من جهتها، شدّدت الصحافية المستقلة صفاء عيّاد على أن قرار الضمان الاجتماعي المتعلق بالعاملين في القطاع الإعلامي لا يزال غامضاً، خاصة فيما يتعلق بالتزام المؤسسات الإعلامية بدفع الرسوم، وهو ما يثير مخاوف من تحميل الصحافيين المسؤولية كاملةً.

 

كما، أوضحت الصحافية المستقلة صفاء عيّاد أن الصحافيين المستقلين لا يملكون دخلاً ثابتاً، ويتقاضون أجوراً زهيدة، وغالباً ما يتوقف عملهم، مما يصعّب عليهم دفع الاشتراكات المطلوبة. كما شدّدت على أن القرار لا يقدّم تفاصيل واضحة حول آلية الاستفادة من نظام التقاعد أو الحصول على تعويض نهاية الخدمة أو المعاش التقاعدي. وأشارت إلى أن القرار بحاجة إلى شرح مفصل للعاملين في القطاع الإعلامي، ويجب أن يوضح دور المؤسسات الإعلامية والتزاماتها، وانعكاساته على أوضاع الصحافيين. كما شدّدت على التحديات التي يواجهها الصحافيون، خصوصاً المستقلين، مثل غياب العقود، وانخفاض الأجور، والمخاطر خلال تغطية الحروب والأزمات، والتي تستوجب توفير تقديمات خاصة. وختمت عيّاد بالقول إن الصحافيين المستقلين يعملون في ظروف غير مستقرة، ومن دون حماية اجتماعية حقيقية، ما يهدد حقهم في العيش الكريم بعد سنوات من العمل والمخاطر.

 

اعتراف قانوني محدود وحماية ناقصة

يتّفق كل من المحامي فاروق المغربي والصحافي الاقتصادي عماد الشدياق على أن المرسوم الصادر في 14 أيار 2025، الذي أتاح للصحافيين والمصورين المستقلين الانتساب إلى فرع المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يمثّل خطوة متقدمة نحو الاعتراف بهذه الفئة. إلا أن كليهما يُجمعان أيضاً على أن هذا التطور لا يزال قاصرًا عن إرساء حماية قانونية واجتماعية متكاملة، إذ يُطرح في غياب إطار تشريعي شامل يُحدّد بوضوح من هو الصحافي المستقل وما هي حقوقه. من الناحية القانونية، أوضح المغربي أن الصحافي المستقل يُصنّف ضمن فئة المهن الحرة في القانون اللبناني، من دون تعريف صريح، مما يُخرجه من نطاق قانون العمل ويحرمه من حقوق عدة، منها التعويضات، الإجازات، وضمان الدخل. وقد شدّد على أن المرسوم، رغم كونه يُلزم المنتسب بدفع 9% من ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور (أي حوالي 2.43 مليون ليرة شهريًا أو 54 دولارًا)، لا يستند إلى قانون دائم، ولا يحدّد آليات واضحة للتنفيذ، ما يفتح الباب أمام الاجتهادات والتفسيرات المتضاربة.

 

في السياق ذاته، رأى الشدياق أن غياب دفتر شروط رسمي أو تصنيف مهني من الصندوق يُثير إشكاليات جوهرية، متسائلًا عن كيفية التعامل مع صحافي فقد وظيفته في مؤسسة رسمية، أو مع من يعمل بشكل متقطع. وأكّد أن هذا الغموض يُضعف ثقة المستقلين بالنظام، مشيرًا إلى أن نجاحه مشروط بتعاون فعّال بين وزارة العمل والصندوق لوضع آلية شفافة للانتساب، وضمان العدالة وعدم الاستنسابية.

 

الاستدامة والتمويل

في ما يتعلّق بالأعباء المالية واستدامة النظام، يرى المغربي أن نسبة الاشتراك البالغة 9% من 27 مليون ليرة (أي ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور) تُعد مقبولة نسبيًا، خاصة أن الاشتراك يصبح 3% فقط بعد سن التقاعد، تتحمّل الدولة منها 1%، فيما يدفع الصحافي 2%. لكنه حذّر من أن هذه المساهمة الرمزية من الدولة غير كافية، وقد تُشكّل تهديدًا لاستمرارية التغطية في حال لم يتوسع عدد المنتسبين أو لم تُدعم بتشريعات مكمّلة. الشدياق وافقه الرأي، معتبرًا أن هذه التكلفة – المقدّرة بنحو 648 دولارًا سنويًا – تُعد منخفضة مقارنة مع بدائل التأمين الخاصة، وأن الصندوق الوطني يقدّم خدمات أشمل تشمل المرض، الأمومة، العجز، ونهاية الخدمة. لكنه حذّر أيضًا من أن قلة المنتسبين قد تحول النظام من مصدر دخل إلى عبء مالي على الصندوق، خصوصًا أن نسبة مساهمة الدولة المتواضعة قد لا تكفي لضمان التوازن المالي المطلوب. ورغم ذلك، رأى الشدياق في هذه المبادرة فرصة تاريخية لبناء قاعدة بيانات دقيقة عن العاملين لحسابهم الخاص، واعتبر أنها قد تشكّل مدخلًا لتنظيم الاقتصاد الحر وربط الضمان الاجتماعي بالنظام الضريبي لاحقًا، عبر فرض ضريبة دخل عادلة على المداخيل الحرة، بشرط أن تُستخدم لدعم الضمان لا لإثقاله. أما المغربي، فختم بالإشارة إلى أن هذه الخطوة لا تزال أولية مقارنة بتجارب دول عربية مثل تونس أو المغرب، حيث تصل نسبة الاشتراك إلى 9.5% أو أكثر، ضمن أطر تشريعية محكمة وضمانات أوسع. وأكّد أن التحدي الأساسي في لبنان يبقى في القدرة على توسيع التغطية بشكل عادل وشامل، من دون استثناءات أو استنسابية، وبما يُعيد الثقة إلى الجسم الصحافي المستقل.

 

تغطية محدودة ودعم أقل

 

تشير مقارنة أنظمة الضمان الاجتماعي الخاصة بالصحافيين المستقلين في تونس، المغرب، الأردن، ومصر إلى تفاوت في نسب الاشتراك والتغطيات المتاحة. ففي تونس، يدفع الصحافيون المستقلون 7٪ من دخلهم شهريًا قبل التقاعد، وتُخفض النسبة إلى 3٪ بعد التقاعد دون مساهمة من الدولة، وتقتصر التغطية على فرع المرض والأمومة، مع وجود تحديات في التطبيق والالتزام. 

 

وفي المغرب، يدفع المستقلون 8٪ من الدخل شهريًا، وتبقى النسبة 3٪ بعد التقاعد أيضًا دون دعم من الدولة، وتشمل التغطية المرض والأمومة فقط، مع ملاحظات مماثلة حول ضعف التطبيق. أما في الأردن، فتتراوح نسبة الاشتراك بين 7٪ و10٪ من الدخل حسب الفئة، ويعتمد الاشتراك بعد التقاعد على نظام الضمان الاجتماعي المعتمد، مع مساهمة محدودة من الدولة. 

 

 

ويتميز النظام الأردني بتغطية شاملة تشمل المرض، الأمومة، والتقاعد. وفي مصر، يدفع الصحافيون المستقلون حوالي 10٪ من دخلهم شهريًا، وتختلف نسبة الاشتراك بعد التقاعد بحسب مدة الاشتراك، فيما تقدم الدولة دعمًا جزئيًا. وتُعد التغطية شاملة أيضًا، وتشمل المرض، الأمومة، والتقاعد. يُشار إلى أن الاشتراك في الأردن ومصر يتم عبر صناديق عامة تشمل العاملين في القطاع غير الرسمي، ما يتيح للصحافيين المستقلين فرصة الاستفادة من حماية اجتماعية أوسع، مقارنةً ببعض الدول المغاربية التي تركز فقط على التغطية الصحية.


إن مرسوم شمول الصحافيين المستقلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، على رمزيته كخطوة أولى نحو الاعتراف الرسمي بهذه الفئة، لا يزال يفتقر إلى مقومات الفعالية بسبب النواقص البنيوية والتشريعية التي تحيط به. فالحماية الاجتماعية لا تختزل في الاشتراك المالي، بل تقوم على منظومة متكاملة تبدأ من الاعتراف القانوني بالصحافة المستقلة كمهنة قائمة بذاتها، وتشمل التمثيل النقابي، والاستقرار المهني، وضمان حقوق التقاعد والرعاية الصحية، في بيئة عمل محفوفة بالمخاطر والتقلبات. وعليه، فإن حماية هذه الفئة تتطلب رؤية شاملة تتجاوز الإجراءات الظرفية نحو سياسة متكاملة مبنية على أسس العدالة الاجتماعية والمهنية، وعليه يجب ان تتضمّن تحديث الإطار القانوني، وتفعيل الرقابة على التنفيذ، وإشراك الصحافيين المستقلين أنفسهم في رسم السياسات التي تُعنى بمصيرهم. وتوفير الأمان الاجتماعي لهم ليس خيارًا ثانويًا، بل هو استحقاق يفرضه مبدأ المساواة في الفرص وكرامة العمل. إن تحقيق العدالة المهنية للصحافيين المستقلين لا يتم إلا عبر مسار إصلاحي متكامل، يُحوّل الاعتراف الرسمي من مجرد إجراء رمزي إلى واقع ملموس يضمن الحماية والاستقرار، ويُكرّس الإنصاف لمن يؤدون دورًا محوريًا في صون الحقيقة والدفاع عن الحق العام.