بعد 9 كانون الثاني 2024 لن يكون كما قبله... معادلة خُتِمَت بخطاب قَسَم ينتظر أداءً حكوميًا فاعلًا يشدّ على مضامينه السياسية والأمنية... فالاقتصادية والمالية.
مرحلة جديدة من عهد جديد يعوِّل عليها اللبنانيون لبناء دولة حقيقية ذات مقوّمات سيادية ومالية واقتصادية متينة تجعلها محطّ ثقة شعبها أولاً وثقة المجتمع الدولي ثانياً.هذه الآمال وُلدت من معاناة مُزمِنة بفعل الدَرك الذي وصل إليه لبنان على مدى سنوات من الفساد والهدر والتعتيم والهروب.
في نيسان من العام 2022 توصّلت الحكومة اللبنانية إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء بشأن السياسات الاقتصادية، وتُعدّ الإصلاحات شرطًا أساسيًا للتعامل مع الصندوق حيث لا يمكن الحديث عن دعم الصندوق من دون تحقيق أهداف أساسية مثل إعادة هيكلة القطاع المالي، وتعزيز أطر الحوكمة، ومكافحة الفساد، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، وإعادة الإعمار والبنية التحتية.
هذه الإصلاحات المشروطة ذيّلتها المؤسسات المالية الدولية بمطلب مُلِحّ يشكّل عاملاً رئيسيًا لتقييم وضع لبنان المالي والاقتصادي والنقدي الذي على أساسه يتقرّر رفد لبنان بالدعم المالي بالحجم المطلوب وبالآلية اللازمة... هذا المطلب يقضي بإعادة نشر البيانات المالية والمؤشرات الاقتصادية السنوية التي تُلخّص وضعيّة لبنان المالية والاقتصادية بشكل شفاف وواضح وشامل.
إذ إن وزارة المال اللبنانية توقّفت منذ العام 2021 عن نشر هذه البيانات والمؤشرات استنادًا إلى تبريرات لم تكن مُقنِعة، إلى أن عَجِزَ صندوق النقد والبنك الدولي عن تقييم الوضع الاقتصادي والمالي اللبناني في السنوات التي تلت، وأصبحت الدعوة مُلِحّة لإعادة نشرها من أجل انتظام العمل المالي في مؤسسات الدولة ودرء شبح اللائحة السوداء والحدّ من تفشي سرطان الفساد في دولة "جِسمها لبّيس" لكل تهمة توجَّه إليها ولكل تصنيف سلبي يُطلق عليها.
غياب البيانات المالية والمؤشرات الاقتصادية منذ العام المنوَّه عنه، دونه محاذير محلية ودولية، سبق ونبّه إليها الخبراء وأهل الاقتصاد والمال بإجماعٍ لافت تحوّطًا للأسوأ.
صندوق النقد: لا أموال بدون أرقام واضحة!
يرى رئيس "الجمعية الاقتصادية اللبنانية" الخبير الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي الدكتور منير راشد أن "لبنان لن يتوصّل إلى صياغة برنامج مالي إنقاذي مع صندوق النقد من دون توفّر الأرقام التفصيلية عن وضعه المالي."، ويقول لـ"المركزية": في ضوء علاقاتنا مع المؤسسات الدولية وتحديدًا مع صندوق النقد المَعني بالسياسات الاقتصادية الشاملة، لا يملك الصندوق أرقاماً تفصيلية عن الوضع المالي في لبنان ما يمنعه من تحليل الوضع الاقتصادي فيه. لكن ما هي الأرقام التي يحتاجها صندوق النقد؟
هنا يشرح راشد أن "لبنان يُعِدّ كل عام موازنته العامة السنوية وتتضمّن الإيرادات والنفقات التي لها أثر كبير على الاقتصاد الوطني وتعكس وضع القطاع العام على الاقتصاد، والنتائج الاقتصادية التي تحصّلها"، ويقول إن "الأزمات المالية ناتجة بشكل أساسي عن سياسة الدولة المالية بالدرجة الأولى، والسياسات النقدية المرتبطة بالسياسات المالية... إذ إن الـ75 مليار دولار من ودائع المودِعين التي كانت مودَعة في مصرف لبنان من قِبَل المصارف قد أنفقت الدولة معظمها لدعم الطاقة وتمويل برامج الدعم الأخرى".
ويُلفت إلى أن "المؤشرات المالية مهمة جدًا لجهة الحجم الاقتصادي للدولة، ومن جهة أخرى لناحية تحديد وجهة صرف الأموال إن كانت على الأجور والرواتب أو الفوائد أو الاستثمار...إلخ. فالمؤشرات تكشف أن الأموال المرصودة للاستثمار غير كافية في حين أن الاستثمار ضروري لتحقيق النمو".
انطلاقاً من هنا، يقول راشد "لا يمكن لصندوق النقد والبنك الدوليين معرفة ما يجري في لبنان على هذه الصعد، ما لم تتوفّر له البيانات المالية في إطار من الشفافية والصدقية!". ويُعقّب على العجز المالي للدولة (الإيرادات أقل من النفقات) مذكِّراً بأن أرقام الدين العام لم تُنشَر منذ العام 2021، كما أن متأخرات الفوائد على لبنان لا تزال مكتومة، إنما من المقدَّر أن يكون حجمها على سندات الـ"يوروبوندز" وحدها قد بلغ 10 مليارات دولار.
لبدء المفاوضات الجديّة المطلوبة مع لبنان، "يشترط صندوق النقد نشر الأرقام بوضوح وشفافية وأن تكون صحيحة وسليمة" على حدّ تعبيره، "كما أن القطاع الخاص، أكان اللبناني أم الأجنبي، لا يقرّر الاستثمار في أي بلد من دون أن يطّلع على حجم نفقاته وإيراداته ووضعيّة البنى التحتية... إذ إن القطاعات الاستثمارية كافة تتأثر بوضعيّة الدولة المالية وتحديداً بالنسبة إلى وِجهة نفقات موازناتها. كما أن أرقام الدولة مرتبطة بالقطاعات الأخرى، وبالتالي إن لم تتوفّر الشفافية في الأرقام المالية فستغيب الشفافية تلقائيًا في الأرقم النقدية".
ويُشير إلى أن "العجز المالي للدولة ينعكس مباشرةً في ميزان المدفوعات، لكننا لا نعلم حجم العجز ولا مدى تأثيره على ميزان المدفوعات وبالتالي لا نعلم حجم الفوائد والدّين الذي نسدّده من خلال ميزان المدفوعات وحجم الخسائر من الاحتياطي بالعملات الأجنبية في مصرف لبنان بسبب الوضع المالي هذا". والمطلوب، "إضفاء جوّ من الثقة للمواطن والمؤسسات الدولية على السواء بأن الدولة اللبنانية تعمل باستقامة وأرقامها صحيحة". وأن تكون الأرقام النقدية شفافة أيضًا وأن نكون على بيّنة من القواعد التي على أساسها يُحدّد البنك المركزي سعر الصرف، والأسلوب الذي يتدخّل به في السوق النقدية يوميًا! أم أنه يفرضه على الأسواق والتجار"؟
توضيح وزارة المال
في إطار تعليل غياب أرقام المالية العامة المنوَّه عنها، توجّهت "المركزية" إلى وزارة المال بـ"طلب الحصول على معلومات" حول الأسباب التي حالت دون نشر البيانات المالية حول المالية العامة للدولة اللبنانية منذ العام 2021، وتزويدها بأرقام أداء المالية العامة لعامَي 2022 و2023 والستة أشهر الأولى من العام 2024، وأرقام الدين العام لعامَي 2022 و2023 والستة أشهر الأولى من العام 2024.
فجاء ردّ الوزارة الذي حَمَلَ توقيع الوزير السابق يوسف الخليل، ليوضّح أن "الأزمات العديدة التي شهدتها البلاد خلال الأعوام 2019-2022 كان لها تأثير سلبي على إمكانية الوزارة في نشر التقارير الشهرية عن الوضع المالي، نتيجة تعدّد أسعار الصرف وتقلباته الحادّة وصعوبة تسجيل الإحصاءات المالية في القيود المحاسبيّة، كما نتيجة الشغور في الوظائف والأعطال في الأنظمة. لذلك تعمل الوزارة اليوم بجهد، على تخطّي كل العقبات لإعادة نشر الوضع المالي شهريًا على الموقع الرسمي للوزارة".
تفنيد مضمون الرّد
في السياق، ترى المحللة الاقتصادية فيوليت غزال البلعة أن "وزارة المال مُحقة في تبريرها لعدم نشرها البيانات المالية في مواعيدها بانتظام، للأسباب المنطقية المعللة في كتابها الآنف الذكر".
وتشير إلى أن "البيانات المالية مهمّة في الدورة الاقتصادية، فكيف الحال في مرحلة النهوض التي سيشهدها لبنان! كما أن الشفافية في البيانات المالية هي أحد البنود الإصلاحية المطلوبة من المجتمع الدولي".
إلى ذلك، تأمل في أن "تعي وزارة المال في الحكومة الجديدة، أهمية نشر البيانات المالية لأنها تُتيح تقييم الوضع المالي بدقة وموضوعية، كما أنها تشكٌل عاملاً ضرورياً لجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى لبنان، وهذا ما تحتاجه البلاد بشدة في المرحلة الراهنة".
جداول الوزارة
وأرفقت وزارة المال الرّد، بالجدول المبيَّن أدناه "يلخّص الوضع المالي التقريبي خلال الأعوام 2022-2024 وفقاً للإيرادات والنفقات النقدية بحسب إحصاءات إدارة السيولة في مديرية الخزينة":
أما بالنسبة إلى أرقام الدين العام لعامَي 2022 و2023 والستة أشهر الأولى من العام 2024، فأرفقت ربطاً جدولاً تفصيلياً بالأرقام:
كذلك ذكّرت الوزارة في كتاب الرّد، بـ"إمكانية مراجعة تقرير أداء المالية العامة للعام 2021 على الموقع الرسمي لوزارة المال".
قراءة مالية..
يعتبر رئيس دائرة الأبحاث الاقتصادية والمالية في بنك بيبلوس الخبير الاقتصادي الدكتور نسيب غبريل أن أرقام الجداول المبيَّنة أعلاه "مهمّة للغاية" كونها "تُعطي صورة ولو مقتَضَبة، عن كيفية تطوّر نفقات وإيرادات الخزينة العامة".
ويشرح عبر "المركزية" ان "النفقات المنوَّه عنها، ارتفعت بنسبة 66% في العام 2024 عن العام 2023. والسبب الرئيسي لهذا الارتفاع هو زيادة النفقات بنسبة 40% على رواتب ومعاشات ومخصّصات موظفي وعمال القطاع العام".
أما بالنسبة إلى الإيرادات فيقول: اللافت أنها ارتفعت بنسبة 55% في العام 2024 مقارنةً بالعام 2023، ويعود السبب بشكل رئيسي إلى الإيرادات الجمركية التي شكّلت 48% من إجمالي إيرادات الخزينة في العام 2023، وهي نسبة مرتفعة جداً بل رقم صادم، مقابل 40% في العام 2024. وهذا يؤشِّر إلى تراجع حجم إيرادات المصادر الضريبيّة الأخرى كالضريبة على الأملاك المبنيّة وأرباح الشركات وغيرها. وقد يعود ذلك إلى تداعيات الحرب على الاقتصاد... الأمر الذي دفع بوزارة المال إلى تمديد مُهَل تسديد الضرائب كالضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الأرباح...إلخ.
ويُضيف: ارتفعت الإيرادات الجمركية بنسبة 30% في العام 2024 مقارنةً بالعام 2023، وذلك يعود إلى تغيير وزارة المال سعر صرف "الدولار الجمركي" تدريجياً بين أواخر العام 2022 وأوائل العام 2023، إلى أن وصل إلى سقف يقارب 89500 ليرة.
وبالنسبة إلى الفائض الأوّلي في الموازنة "فقد بلغ 380 مليون دولار في العام 2023، و300 مليون دولار تقريباً في العام 2024 وهذا رقم لافت على رغم الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2024" بحسب غبريل.
أما ما يخصّ الدين العام، فينطلق من الدين العام بالعملات الأجنبية، إذ يُشير وفق الجدول أعلاه، "إلى 31.3 مليار دولار سندات "يوروبوندز"، ومليارين و300 مليون دولار ديون لمؤسسات متعدّدة الأطراف. حالياً، تبلغ القيمة السوقيّة لهذه السندات 18% من إجمالي قيمتها، علماً أن حكومة الرئيس حسان دياب أعلنت في آذار 2020 عن تعثرها في تسديد الـ"يوروبوندز"، ولغاية اليوم لم تبدأ الدولة اللبنانية بالتفاوض مع حاملي تلك السندات. أما في ما يخصّ ديون المؤسسات متعدّدة الأطراف فلا تزال الدولة تسدّدها حتى اليوم.
وفي ما يتعلق بالديون بالليرة اللبنانية، فيبلغ مجموعها أقل من مليار دولار نظراً إلى تعديل سعر الصرف ليصل إلى 89500 ليرة".
واللافت وفق غبريل، "تدنّي حجم الدين العام كقيمة سوقيّة، إذا ما جمعنا سندات الـ"يوروبوندز" وديون مؤسسات متعدّدة الأطراف مع الدين العام بالليرة، يشكّل مجموع حجم الدين العام 10% مما كان عليه قبل الأزمة النقدية، لتكون الدولة اللبنانية المستفيدة الأكبر من تلك الأزمة! على رغم تشديد صندوق النقد الدولي على وجوب احتساب القيمة الإسميّة الكاملة لسندات الـ"يوروبوندز"، وليس القيمة السوقيّة".
أداء المالية العامة للعام 2021
وبالنسبة إلى أرقام وزارة المال حول أداء المالية العامة للعام 2021، يرى غبريل أن "الأرقام الصادرة عن وزارة المال تُظهر أن الموازنة العامة حققت فائضاً في العام 2021 بلغ 2197 مليار ليرة مقارنةً بعجز 4000 مليار ليرة في العام 2020، هذا الفائض يوازي 12.2% من النفقات العامة في العام 2021 مقارنةً بعجز نسبته 21% في العام 2020".
ويُشير إلى أن "هذا الفائض جاء نتيجة النفقات البالغة 18 ألف مليار ليرة في العام 2021 بتراجع 7% عن العام 2020، بينما سجلت الإيرادات 20263 مليار ليرة بارتفاع 32% عن العام 2020".
ويعزو سبب الفائض في الموازنة العامة إلى "تراجع النفقات بـ 1360 مليار ليرة نتيجة تراجع قيمة خدمة الدين العام، وتراجع تحويلات الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان... ومن جهة أخرى، يعود السبب إلى ارتفاع الإيرادات بقيمة 5000 مليار ليرة تقريباً".
ويقول في السياق: عندما نرى هذه الأرقام، يجب أن نأخذ في الاعتبار تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية في السوق الموازية في العامَين 2020 و2021. وصحيح أن الإيرادات الضريبيّة سجلت ارتفاعاً بنسبة 46% في العام 2022، إنما يجب الأخذ في الاعتبار عامل التضخّم.
من هنا، يدعو غبريل إلى "الحذر في مقاربة أرقام أداء المالية العامة للعام 2021، ومقارنتها بأرقام العام "2020... لكنه في المقابل يستعجل وزارة المال "البدء بنشر الأرقام الشهرية المفصَّلة لنتائج المالية العامة في العام 2024 كما فعلت لغاية العام 2021".
"إنه أحد الإجراءات المتوقَّعة من قِبَل وزارة المال في أسرع وقت ممكن، لأن من شأن هذا الإجراء أن يُضفي شفافية على المالية العامة، عندها يمكن تحليل وضعية المالية العامة بالتَفصيل" يختم غبريل.
تم نشر التقرير أيضًا على موقع المركزية.