Loading...

ديوان المحاسبة يُعيد ملف أموال الـ SDR إلى الواجهة: مخالفات وغياب للشفافية

 

مع انطلاق العهد الجديد، والبدء بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة داخليًا وخارجيًا لمكافحة الفساد المستشري في الدولة، يعود ملف مخصّصات حقوق السحب الخاصّة (SDR) التي تحصّل عليها لبنان في شهر أيلول من العام 2021 وتقدّر ب 1.139 مليار دولار أميركي والعائدة له من صندوق النقد الدولي إلى الواجهة.

 

تُعتبر حقوق السحب الخاصة (SDR)، أصل احتياطي دولي مُدرّ للفائدة أنشأه الصندوق عام 1969 كعنصر مكمل للأصول الإحتياطية الأخرى للبلدان الأعضاء، وتسمح لها بتقليص الاعتماد على الدين الداخلي أو الخارجي ذي التكلفة الأعلى من أجل بناء الاحتياطيات.

 

هذه الأموال، التي وصلت في خضمّ الانهيار المالي وبالرغم من توصيات صندوق النقد الدولي بصرف هذه المخصصات بشفافيّة لدعم التعديلات والإصلاحات اللازمة على مستوى الاقتصاد الكلي، تمهيدًا لمسار إصلاحي يضمن الاستقرار الاقتصادي، تأتي الوقائع التي كشفها التقرير الاستشاري الصادر عن الغرفة الرابعة في ديوان المحاسبة، برئاسة القاضية نيللي أبي يونس وعضويّة المستشاريْن نجوى الخوري ورانية اللقيس، في أيّار الماضي، لتُثبت عكس ذلك فقد صُرفت الأموال خارج الأطر القانونية والدستورية، ومن دون رقابة تُذكر.

 

هذا وكان عددٌ من النواب وهم إبراهيم منيمنة، ياسين ياسين، بولا يعقوبيان وفراس حمدان قد تقدّموا في نهاية العام 2023 بكتاب الى وزارة المالية يطلبون فيه تزويدهم بمعلومات تفصيلية حول كيفية صرف الأموال المتأتية من حقوق السحب الخاصة.

 

تجاوزات بالجملة

رأت القاضية نيللي أبي يونس أنّ التجربة اللبنانية في استخدام مخصصات حقوق السحب الخاصة تخلّلتها مخالفات دستوريّة وقانونيّة واضحة، أبرزها مخالفة المادة 88 من الدستور التي تقضي بإصدار قانون مُسبق يُجيز الصّرف من الأموال، إضافةً إلى إصدار مرسوم حكومي يسمح بالاستخدام بموافقة لاحقة من مجلس النواب بدلًا من المسبقة، وهو ما يتطلّب تعديلًا دستوريًا. كما دعت إلى توحيد الحسابات وتحديد الرصيد المتبقّي بدقّة، مُعتبرةً أنّ غياب الشفافية والتنسيق يُضعف الرقابة على المال العام.

 

وأوضحت أبي يونس في حديث لـ"مهارات نيوز" أنّ الأموال التي حصل عليها لبنان جرى إيداعها في حساب خاص بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان، بدلًا من تحويلها إلى حساب الخزينة، وأنّه رغم صدور قرار واضح عن مجلس الوزراء في نيسان من العام 2022 يُلزم الجهات المعنيّة عدم استخدام حقوق السحب الخاصّة من دون موافقته إلّا أنّه لم يتم الالتزام به، فصُرفت الأموال إمّا بتعليمات من حاكم مصرف لبنان أو بقرارات منفردة من وزير الماليّة أو رئيس الحكومة.

 

 

تضيف أبي يونس أنّ عددًا من قرارات مجلس الوزراء جاء "على سبيل التسوية"، إذ أُجريت نفقات من دون أي تفويضٍ مُسبق، مُشيرةً إلى أنّ "55 بالمئة من الحالات وجدنا أنّ الحكومة كانت تُوضَع أمام الأمر الواقع وتُجبر على الموافقة على صرف تمّ سابقًا".

 

"تناقض كبير بين الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان وتلك الصادرة عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء" بحسب أبي يونس، فبينما تشير أرقام مصرف لبنان أن الرصيد المتبقّي من أموال السحب الخاصة تبلغ قيمته 82 مليون دولار، تُفيد الأمانة العامة أنّ الرصيد لا يتجاوز الـ 36 مليون دولار. وفي السياق نفسه، أشارت إلى "فتح حساب وسيط بالليرة اللبنانيّة حُوّلت إليه الأموال من الدولار الفريش إلى الليرة اللبنانيّة بأسعار صرف مُتفاوتة بين سعر المنصّة والسوق السوداء"، مُتسائلةً حول "كيفيّة الاستفادة من فروقات السعر وأين ذهبت هذه الأموال"؟

 

وبحسب التقرير، فالإنفاق المُعلِن عنه من الـ SDR صُرف بمعظمه على الدّعم: نحو حوالي 500 مليون دولار على الأدوية، و 352 ألف دولار للمحروقات، 150 مليون دولار لدعم مؤسسة كهرباء لبنان، إضافةً إلى 134 مليون دولار للقمح. 

 

 

توصيات ما بعد المخالفات

بعد رصد المخالفات، لا تكون التوصيات مجرّد خيار بل أداة إصلاح، وهنا شددت أبو يونس على ضرورة إعادة تسجيل القيود المحاسبية وإيداعها لدى ديوان المحاسبة، داعيةً إلى وضع خطّة نستفيد من خلالها في زيادة الحيازات لدى صندوق النقد بما يوازي المخصصات التي استُخدمت وزادت من الأعباء الإضافية. أمّا في ما يخص سياسة الدعم، فتُطرح علامة استفهام حول وجهة هذه الأموال، التي اختفت معها المواد المدعومة من السوق، ثمّ عادت للظهور بعد رفعه، ما يستدعي مراجعة شاملة لمسار الإنفاق العام.

 

وختمت بالإشارة إلى أهميّة صدور الرأي الاستشاري لديوان المحاسبة، إلّا أنّ الخطوة رغم أهميتها، جاءت متأخرة، إذ أنّ "الرقابة اللاحقة أصبحت شبه متعذّرة، نظرًا لطول الفترة الزمنيّة الفاصلة، وضعف الموارد البشريّة لدى وزارة المالية وأجهزة الرقابة".

 

بدوره اعتبر مدير المكتب الإقليمي في "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" محمد المغبّط أن الشفافية غابت كليًّا عن آلية صرف أموال حقوق السحب الخاصة، مشيرًا إلى أنّه حتى صدور تقرير ديوان المحاسبة لم يكن هناك أي معلومة رسمية حول الجهات التي صرفت هذه الأموال، أو الأساس القانوني المعتمد، أو حتى المبلغ المتبقي منها. ولفت إلى أنّ الشفافية لا تكون مجدية بأثر رجعي، بل هي ضرورة في توقيتها المناسب، إذ تُعدّ مؤشّرًا للالتزام بالقانون. ولو توفرت منذ البداية، لكان بالإمكان تجنّب العديد من التجاوزات التي حصلت، مؤكّدًا أنّ أهمية تقرير ديوان المحاسبة تكمن في حجم ما كشفه من مخالفات لا في كونه قرارًا قضائيًا، إذ إنه يبقى تقريرًا رقابيًا يتضمن توصيات واستنتاجات، التي من الضروري أن تُستخدم كأداة مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن هذه المخالفات.

 

وشدّد المغبّط على أن الحلّ الجذري يكمن في احترام انتظام المالية العامة، والذي يبدأ بالالتزام بالإجراءات الدستورية الشكلية والموضوعية، لا سيّما إصدار الموازنات في مواعيدها القانونية، وقطع الحسابات، ووضع الإيرادات والنفقات ضمن الإطار الدستوري الواضح. كما دعا إلى تفعيل قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، من خلال نشر تقارير سنوية تبيّن بوضوح كيفية إنفاق المال العام في كل وزارة وهيئة، معتبرًا أن الالتزام بأحكام قانون المحاسبة العمومية هو التطبيق العملي للنصوص الدستورية، وهو ما يكرّس مبدأ الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام.

 

 

النائب ياسين: "نسجِّل تحفظًا على توصيات التقرير"

جاء التقرير الصادر عن ديوان المحاسبة ردًا على أسئلة وجَّهها مجموعة من النوّاب للحكومة ومصرف لبنان ووزارة المالية، مُطالبين بكشف الجهة التي صرفت الأموال، وكيف ولماذا، ومنهم النائب ياسين ياسين الذي أوضح في حديثٍ لـ "مهارات نيوز" أنّ "ما جرى في ملف حقوق السحب الخاصة ليس مجرد خلل إداري، بل مسارًا ممنهجًا لإنفاق أكثر من مليار ومائتي مليون دولار من دون مسوغ قانوني، ولا رقابة، ولا خطة إصلاحية، ونموذجًا صارخًا لهدر المال العام والتصرف بالأموال السيادية خارج القانون، وسط غياب كامل للشفافية والحوكمة"، مؤكّدًا أنّ "اليوم وبعد صدور تقرير ديوان المحاسبة، نطالب بكشف المستندات الكاملة المتعلقة بالصرف، وإحالة كل المسؤولين عن القرارات غير القانونية إلى القضاء، وفتح تحقيق رقابي ونيابي مستقل، ووقف سياسة (صرف وصمت) التي تحكم المالية العامة في لبنان".

 

كما أعلن ياسين أنّ "بعد مراجعة دقيقة لتوصيات ديوان المحاسبة، نسجل تحفظًا على محدودية التوصيات التي وردت في التقرير قياسًا إلى حجم المخالفات المثبتة، ففي وقت كنا ننتظر فيه تحميل المسؤوليات، وكشف الأسماء، وفتح مسارات واضحة للمحاسبة، اكتفى التقرير باقتراح تصحيحات مستقبلية دون أن يسميَ من قرر، من صرف، ومن غطى هذا التصرف غير الشرعي"، مشدّدًا على "غياب أي إشارة إلى مساءلة من تصرف خارج القانون، وأي مطالبة بتحقيق قضائي أو نيابي ضمن التوصيات، وكأن التقرير يقول: نصحح لاحقا… دون أن يحاسب أحد عما ارتكب".

 

ومن جهته، رأى النائب ياسين أنّ "هذا الصمت عن المحاسبة يعد ثغرة خطيرة في مسار الدولة الرقابي، يجب معرفة من سمح بفتح الحساب، ومن أصدر تعليمات الصرف، ومن غطى القرار داخل السلطة التنفيذية، ومن استفاد من الأموال، وكيف تم تسييلها"، مؤكّدًا أّنّ "حقوق الناس ليست ورقة تهدر وتطوى، ونحن كنواب في هذه الأمة، نحمل كل من تصرف خارج الدستور والقانون مسؤولية ما جرى، ونطالب بتحويل هذا الملف إلى القضاء، ومتابعته أمام الرأي العام اللبناني والدولي، حتى لا يدفن كما دفن غيره".

 

مخصّصات الـ SDR  فاقمت ضغط الاحتياطي

في سياق تقييم شفافيّة الملف اقتصاديًا، يشرح الباحث لدى كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأمريكية في بيروت محمد فحيلي في حديثٍ لـ "مهارات نيوز" أنّ "مخصّصات حقوق السحب الخاصة جاءت مع توصيات بالشفافيّة من صندوق النقد الدولي، لكن للدولة اللبنانيّة حريّة أخذ القرار بكيفيّة صرف هذه الأموال"، فرأت الأخيرة "أن تصرفها على الدعم، وفي بداية العام 2023 صرفت أكثر من 75 بالمئة منها" مُضيفًا أنّ "الهدف الأساسيّ من صرف المخصصات في حينها هو تعزيز إحتياطي لبنان من العملة الاجنبيّة مع تآكله يوميًا وتأثيره على سعر الصرف".

 

المفارقة بحسب فحيلي أنّ الدولة لم تعالج أزمة تآكل الاحتياطي بل فاقمت من حدّتها من خلال استنزاف مخصصات صندوق النقد ما زاد الضغط على احتياطي مصرف لبنان بالعملة الأجنبية، ورأى أنّ الأخطر من ذلك أنّ الإنفاق لم يُدعّم بقوانين ومستندات رسميّة مع غياب تام للشفافيّة والمساءلة والمحاسبة وهنا بيت القصيد، "فهل سيتبع تقرير ديوان المحاسبة محاسبة فعليّة ومساءلة الجهات المعنيّة بهذا الإنفاق"؟

 

في هذا السياق، يُشير فحيلي إلى أنّ "صندوق النقد الدولي رغم قدرته على إثارة الملف خلال مفاوضاته مع الدولة اللبنانية، لا يمكنه فرض طريقة إنفاق معينة، إذ تُترك للدولة العضو حريّة التصرف بالمخصصات"، مؤكّدًا أنّه "من باب اللياقة الدبلوماسيّة لا يمكن للصندوق أنّ يتصرّف كسلطة تنفيذيّة أو رقابية أو تشريعيّة، إذ لا تتجاوز صلاحياته حدود التوصية والتنبيه والتمني بأن تصرف الأموال بشفافيّة أكبر".

 

رقابة الإعلام أساسية

في ظل النقاش المتصاعد حول كيفيّة إنفاق مخصصات حقوق السحب الخاصة وغياب الشفافية والمحاسبة في إدارة المال العام، يبرز الدور المحوري الذي يمكن أن يؤديه الإعلام، لا سيما الإعلام الاقتصادي، في تعزيز الشفافية المالية.

 

ترى الصحافيّة المتخصّصة بالشأن الاقتصادي عزّة الحاج حسن أنّ للإعلام مسؤولية أساسية في متابعة القضايا المالية والرقابة على الإنفاق العام، وتحليل السياسات المالية والاقتصادية التي تصدر عن السلطة. وتشدّد على أن الإعلام يشكّل صلة الوصل بين السياسات العامة والمواطنين، إذ يُمكّن الجمهور من فهم تلك السياسات، والمشاركة في مراقبة أداء الحكومات، وقياس صوابية وجدوى قراراتها المالية والاقتصادية.

 

تنطلق الحاج حسن من قناعة أنّ المشكلة أعمق من سوء التصرف بالتمويل، لتطال غياب أيّ رؤية إصلاحيّة مستدامة، فالخطورة برأيها لا تكمن فقط في الفساد وهدر الأموال، بل في طريقة الإنفاق بحدّ ذاتها، قائلة: "نحن لا نملك فكرًا إصلاحيًا يومّن الخدمة العامة بطريقة مُستدامة، لذا ما نحتاجه ليس فقط رقابة لاحقة، بل تصريح دائم وواضح عن كل النفقات العامّة ومحاسبة فعليّة".

 

في سياقٍ آخر تطّرقت الحاج حسن إلى ملف آلية جباية الرسوم من قبل شركات ماليّة متعاقدة مع وزارة الماليّة كـ OMT وWish، مُشيرةً إلى وجود ثغرات تُتيح لهذه الشركات تحقيق أرباحًا تفوق عمولتها المَشروعة، على حساب الخزينة العامّة. وأوضحت الحاج حسن أنّ تحقيقًا صحفيًا أجرته في صحيفة "المدن" كشف هذه المخالفات، ما دفع مكتب رئاسة الحكومة إلى التواصل مع وزارة الماليّة التى أكّدت المعلومات.

 

ونتيجةً لذلك، أصدر وزير الماليّة ياسين جابر قرارًا يُلزم المصارف بالتصريح عن أموال الجباية المُحوّلة من هذه الشركات، ويُلزم الأخيرة بتحويلها فورًا إلى حسابات الوزارة في مصرف لبنان، تحت طائلة الغرامات الماليّة.

 

تختم الحاج حسن مؤكّدةً أّن هذا التحرك، رغم تأخّره، يُثبت أنّ الرقابة الإعلاميّة لا يزال بإمكانها أن تؤثّر في مسار الإصلاحات الماليّة.