كتب مازن مجوز ونادين خزعل:
واجهت المرأة اللبنانية خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان معارك لا تنتهي، من سقوط أقاربها بين شهداء وجرحى، إلى نزوحها القسري، إلى احتراق منزلها وأرزاقها وأرزاق عائلتها وأقاربها، ما ضاعف الأعباء عليها ووضعها أمام مسؤوليات جديدة، وربما فرصة جديدة، لإبراز صلابتها في تحويل هذه التحديات إلى فرص نجاح.
فقدت الكثير من النساء في الحرب “الزوج المعيل” الذي كُن يعتمدن عليه، واضطرت أُخريات إلى خوض غمار العمل للمرة الأولى، من أجل المساهمة في تأمين متطلبات الحياة لهن ولأفراد عائلاتهن. يمكن القول أن من أبرز تحديات ما بعد الحرب كان تفعيل مشاركة المرأة وانخراطها في سوق العمل لتلبية حاجاتها المتزايدة.
من بين السيدات التي تركت الحرب تحولاً في مسار حياتهن المهنية مريم عساف، سيدة جنوبية، أفقدتها الحرب زوجها ومنزلها في الضاحية الجنوبية لبيروت و”الفيلا” في إحدى قرى الجنوب.
قبل الحرب، كانت مريم سيدة منزل، ولم تُفكر يومًا بالعمل، سيما وأن زوجها، كان ميسور الحال، وصاحب ورئيس مجلس إدارة شركة متخصصة بالتكنولوجيا، كانت تشكل مصدر إيرادات مرتفع لهم. ولكن مع بدء العدوان تبدل كل شيء.
تروي مريم لشبكة “ZNN” تفاصيل ذلك الحدث المشؤوم، حين استشهد زوجها بغارة اسرائيلية معادية، وكيف انقلبت حياتها رأسًا على عقب في لحظة واحدة لتجد نفسها فجأة وحيدة مع أربعة أطفال أيتام، ونازحة عليها أن تواجه حزنها وتتصدى لمسؤولياتها في آن.
مع إعلان “وقف إطلاق النار” بين لبنان والعدو الاسرائيلي في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 ، استأجرت مريم منزلًا بديلًا عن منزلها الزوجي المدمر، وقررت استلام مهام زوجها الشهيد في شركته التي نجا مقرها من الصواريخ الاسرائيلية.
تؤكد مريم: “كان هذا واحدًا من أهم وأخطر القرارات في حياتي، إذ لم أفكر يوما قبل استشهاد زوجي بأنني سأجد نفسي فجأة في كل هذا الزحام“.
سألناها عن أي زحام تتحدثين؟ فأجابت: “فجأة بات من مهامي إيصال صغاري إلى المدرسة، ومن ثم التوجه إلى الشركة، وقبل أن يقرع جرس الانصراف يكون علي التواجد مجددًا على باب المدرسة لأقلهم إلى المنزل، ومن ثم أعد لهم الطعام وأشرف على إنجاز واجباتهم المدرسية، ويتخلل ذلك اضطراري للإجابة على اتصالات هاتفية من عملاء الشركة….فجأة تحولت من ربة منزل إلى ربة منزل وعمل”.
اختارت مريم عدم الاستسلام، وقررت أن تتحدى الظرف الاستثنائي الذي وضعتها الحرب في مواجهته، ولكنها نجحت في التحدي، وعوض أن يتسبب استشهاد زوجها بإقفال الشركة، قررت أن تحافظ عليها من أجلها ومن أجل أطفالها، وأن تُبقي على المستوى المادي الذي كانت تعيش فيه، وهي لم تكتف بذلك فقط، إذ بعد مباشرتها مهامها في الشركة تمكنت من وضع خطط تطويرية جديدة، سوف تساهم في المستقبل القريب برفع إيرادات الشركة. تروي مريم بكل فخر كيف أنها تمكنت من توقيع اتفاقية تعاون مع شركة أجنبية رغم كل الظروف الصعبة التي يشهدها لبنان، وهي تهدف من وراء هذه الإتفاقية إلى توسيع السوق الاستثمارية والاستهلاكية لشركتها.
وتضيف مريم ” أدعو كل امرأة إلى التمسك بالإرادة ومواجهة التحديات، ورغم كل الحزن الذي يعتصرني على فراق زوجي، إلا أن وجعي وحزني تحولا بفضل عزيمتي إلى إلهام مكنني من كتابة قصة نجاح”.
تُعتبر المرأة عالميًا شريكة أساسية في التنمية الاقتصادية وتحريك عجلة الاقتصاد (طبعًا بدرجات متفاوتة بين الدول بحسب نيلها حقوقها). وقد تساهم الأزمات والنزاعات كما ذكرنا سابقًا في إظهار قدرة النساء على تطوير مشاركتها في الاقتصاد وريادة الأعمال.
في هذا الصدد يقول الخبير الاقتصادي أحمد بهجة لشبكة “ZNN” أن نسبة مساهمة المرأة اللبنانية في سوق العمل لا تتجاوز الـ30٪، رغم أنها نسبة متقدمة مقارنة بالدول المحيطة بنا على مستوى الشرق الأوسط. وأوضح أن تفعيل دور المرأة الاقتصادي يتطلب تغييرًا في ذهنية المجتمع وتعديلًا في القوانين والتشريعات وأنظمة العمل.
ومن الأسباب التي تُحد من إسهامات المرأة في العمل التمييز في الأجور إذ يتقاضى الرجل غالبًا راتبًا أعلى من المرأة ما يُخفض من درجة تحقيق التمكين المالي. إضافة إلى صعوبة حصول المرأة على فرص عمل متكافئة مع الرجل ناهيك عن غياب سياسات العمل التي تراعي ظروف المرأة الاجتماعية.
ومن أبرز التعديلات التي يجب القيام بها هو إنفاذ قوانين عمل تضمن المساواة، تعالج التفاوت، تضمن تنمية المهارات، وتؤمّن بيئة تمكينية حاضنة تشرك المرأة في عملية صنع القرار.
وتابع بهجة: “رغم كل التحديات، هناك إسهامات للمرأة اللبنانية في تحريك الاقتصاد، وهي لا تقل شأنًا عن الرجل في هذا الإطار ولها دور مساعد في التنمية وزيادة الناتج الاقتصادي. وقد أثبتت أنها نصف العائلة، ونصف المجتمع في أدوارها ومهماتها ومسؤولياتها”.
إذًا وإن كان دور المرأة في تحريك العجلة الاقتصادية لا يزال دون المستوى المطلوب، لكن المعطيات الحالية مشجعة حيال تطوره، في ورشة إعادة الإعمار وفي رفع نسبة نمو الاقتصاد اللبناني، كما أن العديد من رؤساء الحكومات المتعاقبين أظهروا في اختيارهم عدد من الوزيرات في حكوماتهم إيمانا بها وبقدراتها وإبداعاتها وتفانيها في خدمة الوطن. وفي الحكومة الحالية كان من اللافت مشاركة خمس وزيرات فيها.
على طريقتها الخاصة، شرحت الأخصائية النفسية دورين فخر الدين كيف طوعت الصعوبات التي واجهتها شخصيًا مع عائلتها إلى أساليب جديدة في معالجة اللبنانيين واللبنانيات من الصدمات التي تعرضوا لها نتيجة أهوال الحرب والخسائر التي ألحقتها بهم، متمسكة ببارقة أمل جديد وسط الألم والظلام والمعاناة التي لا يزال الكثير من اللبنانيين يعيشونها.
“ارتفعت بعد الحرب نسبة الخوف وحدة القلق تقول فخر الدين، وكان لا بد من وضع خطة علاجية لترميم كل ما تسبب بالألم. ومع تدهور الوضع الاقتصادي أصبح اللبنانيون عمومًا والمرأة خصوصًا في مواجهة عنف اقتصادي لا يقل خطورة عن العنف النفسي والعنف الاجتماعي، ومن هنا اتخذت قراري بأن أعمل قدر الإمكان على التصدي للأزمات النفسية التي تعاني منها السيدات”.
وكشفت فخر الدين أن وتيرة عملها ارتفعت بعد الحرب وعدد الذين يقصدونها تضاعف، وهي تركز مع مَن تعالجهم على ضرورة مقاربة التحديات بإيجابية بعيدًا عن السلبية، مشددة على وجوب تفعيل العمل المجتمعي والنفسي لمعالجة آثار الحرب وعلى أهميته في التخفيف من مخاطرها عليهم.
في معرض اطلاعنا على قصص سيدات رفضن الاستسلام، تبرز حكاية رنا، التي فقدت والديها وزوجها وابنها الوحيد وعددًا من أبناء عمومتها بالإضافة إلى فقدانها منزلها ومورد رزقها مع تدمير المحل الذي كانت تعمل فيه كبائعة ورد. رنا التي خضعت لجلسات دعم نفسي تمكنت من التخلي عن فكرة الانتحار التي راودتها كثيرًا بعد كل الخسارات التي مُنيت بها، وتعافت بشكل شبه تام، وبدأت العمل في دار حضانة واستأنفت حياتها من جديد.
تم إعداد هذا التقرير في إطار مشروع “مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام” بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة -لبنان- والسفارة البريطانية في بيروت. إن محتوى هذا المقال لا يعكس بالضرورة وجهات نظر هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت. وتم نشر التقرير أيضًا على موقع ZNN.