"أعمل كمزارع، واعتاش على موسم الزيتون والحمضيات. في هذا الموسم، وعندما حان موعد القطاف، لم أستطع الوصول إلى أرضي الواقعة عند حدود الناقورة، وعلمت لاحقًا أن البستان المزروع أساسًا احترق بأكمله. لست أدري إن كنا سنعود، لكنني أخشى أن نعود وألا يكون هناك ما يُمكن أن نعتاش منه". يقول مزارع جنوبيّ من الناقورة في حديثه إلى "المدن".
تداعيات جسيمة
اليوم، الناظر إلى المشاهد المروعة، المتأتيّة من الجنوب اللّبنانيّ، وليس تلك المرتبطة بالعمليات العسكريّة وحسب، بل الّتي تستعرض حجم الدمار والتخريب المنهجيّ الذي لحق الغابات والأحراج والبساتين وحيزّاً ضخماً من الرقعة الخضراء، على الحدود وفي الداخل الجنوبيّ؛ فلا بد أنّ يلمح طيف الأزمة المتجلية في هذه المشاهد. الأزمة المتمخّضة عن القسوة والعنف والمظلوميّة الّتي لحقت سكّان هذه المناطق، جراء استمرار النزاع. وحتمًا سيرى المُستقبل المقترح، الذي لا يُصدر سوى رؤية سوداويّة، لا تتوقف فيها الأزمات على تلك الآنيّة أو الموسميّة "كضرّر مواسم الزيتون"، بل تحمل التّداعيات الجسيمة بعيدة الأثر، بيئيًّا ومناخيًّا، والّتي سيدفع فاتورتها المواطنون والمواطنات، بصحّتهم/ن، وسُبل عشيهم/ن، ومصدر أرزاقهم/ن، واستمراريتهم/ن، في الجنوب اللّبنانيّ.
والحال، أنّه وعند الحديث عن الحروب والنزاعات المُسلّحة، غالبًا ما يتمّ قراءتها ودراسة آثارها من زوايا سياسيّة وسوسيولوجيّة واقتصاديّة واستراتيجيّة بشكلٍ عام. فيما يغيب الأثر البيئيّ والمناخيّ لهذه الحروب والنّزاعات عن الدراسات، أو يتمّ معالجته بصورةٍ تبسيطيّةٍ ومختزلة. إلّا أن النزاعات الأخيرة والّتي يموج بها الشرق الأوسط (كسوريا ولبنان والعراق واليمن والأراضي الفلسطينيّة المحتلة)، وشرقيّ أوروبا (كالحرب الروسيّة على أوكرانيا)، أعادت ترتيب هذه الأولويات، وسلّطت الضوء على الأثر البيئيّ والمناخيّ للنزاعات المُسلّحة، الذي لا يقلّ أهمية عن الأبعاد الاستراتيجيّة والجيوستراتيجيّة؛ بل يمكن أن يكون له تأثيرات طويلة الأمد على الطبيعة والبشر والسّياسة على حدٍّ سواء. وتشمل هذه التأثيرات تدمير الأراضي الزراعيّة، تلويث المياه وسائر الموارد الطبيعيّة، ونشر المواد الكيميائيّة الضارّة في البيئة. بالإضافة إلى إسهامات الأنشطة العسكريّة بشكلٍ مباشر في زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة (وهي انبعاثات تنتج عن اطلاق ثاني أوكسيد الكربون والميثان وأوكسيد النيتروجين وبخار الماء المؤدية إلى الاحتباس الحراريّ)، الّتي تُغذي أزمة التّغيّر المناخيّ.
وإن كان من الصعوبة حاليًّا، طرح فهم مُعمّق ودقيق للتعقيدات والتداعيات، وسط الاشتباكات العسكريّة المستمرة حتّى اللحظة، والتحديات الأمنيّة واللوجيستيّة في إجراء استطلاعٍ ومسحٍ شامل؛ يُركز تحقيق "المدن" على التداعيات البيئيّة المحتملة للنزاع المُسلّح والاعتداء المستمر على الجنوب اللّبنانيّ، مع التعريج على البصمة الكربونيّة Carbon footprint (مجموع الغازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجويّ، ويتمّ قياسها من خلال تحديد مستوى استهلاك الوقود الأحفوريّ لإنتاج الطاقة) لهذا الصراع، واستكشاف سُبل لتقييم الآثار البيئيّة والمناخيّة، لا سيما آثارها على السكّان المستضعفين والسّياسة العامّة في لبنان، في سبيل الإضاءة على أهمية صياغة سياسات بيئيّة تدعم جهود التخفيف من آثار الحرب على البيئة والسكّان والتّغيّر المناخيّ.
(قصف بقنابل فوسفورية على جنوب لبنان، Getty)
لمحة عامّة على الوضع في الجنوب اللّبنانيّ: تقييم الأضرار الماديّة والزراعيّة والبيئيّة
بدخول الحرب على الجنوب شهرها الحادي عشر، تحولت القرى على طول الشريط الحدوديّ إلى مناطقٍ منكوبة ومُدمرة، تعكس حجم الخسائر الناجمة عن الاعتداءات المستمرة الإسرائيليّة على الجنوب اللّبنانيّ، والّتي أدّت حتّى اللحظة إلى مقتل العشرات من المدنيين، وإصابة المئات، وتشريد عشرات الآلاف، مراكمةً الخسائر الماديّة والبيئيّة والعمرانيّة والزراعيّة والاقتصاديّة. وهذا ما أوردته أحدث تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة (OCHA)، بتاريخ 23 آب 2024، الذي أفاد عن نزوح ما يقرب 111,940 شخصاً (51 بالمئة من الإناث)، فيما لا يزال حوالى 60,000 مدني موجودين في المدن والقرى، في المناطق الصعبة الوصول على طول الخطّ الأماميّ، وفقًا للبيانات المتاحة.
وقال المكتب إن لبنان لا يزال يعاني بشكل كبيرٍ من الأعمال العدائيّة الجاريّة، حيث تحدث اشتباكات يوميّة عند الحدود الجنوبيّة. بينما يتركز القصف في نطاق 12 كيلومترًا من الخط الأزرق، بينما تصل الضربات الجويّة الإسرائيليّة المستهدفة إلى عمق البلاد، ممتدةً حتّى مسافة 100 كيلومتر من الحدود.
وقد تم تسجيل أضرار جسيمة في البنية التحتيّة للمياه والكهرباء والاتصالات، وكذلك الطرق في جنوب لبنان، وقد قُدرت القيمة الإجماليّة للأضرار حتّى الآن بـ1.7 مليار دولار أميركيّ. كما أفاد المكتب أن القطاع الزراعيّ فقد 17 مليون متر مربع، الّتي احترقت نتيجة القصف الإسرائيليّ، بشكلٍ رئيسي بسبب الفوسفور الأبيض، مع تأثيرات ستستمر لسنوات عديدة. بالإضافة إلى ذلك، لم يتمكن المزارعون من حصاد المحاصيل من 12 مليون متر مربع من أراضيهم. حتى الآن، تعرضت 13 بنية تحتيّة للمياه لأضرارٍ بسبب الأعمال العدائيّة عبر الحدود، مما أثر على إمدادات المياه لحوالى 200,000 ساكن في الجنوب والنبطية. وانخفض تحصيل رسوم المياه إلى ما يقرب من الصفر في محافظتي الجنوب والنبطية، مما وضع مؤسسة مياه جنوب لبنان في وضع صعب للغاية. كما وأشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة أنّه وفي أعقاب التصعيدات الأخيرة، تأثر القطاع الزراعيّ بشكلٍ كبير.
من جهتها تقول الأستاذة المساعدة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، والمتخصصة في الكيمياء البيئيّة، والنائبة في البرلمان اللّبنانيّ، نجاة عون، لـ"المدن": "في ضوء النزاع المسلح الأخير في الجنوب، تسبب استخدام القنابل الفوسفوريّة والحرائق المتعمدة في أضرار كبيرة للمساحات الخضراء الهشة في المنطقة. كانت هذه المساحات الخضراء قليلة وتعاني من البقاء بسبب الإهمال والرعاية المحدودة من الحكومة على مر السنين. أدى الإهمال والإدارة غير الكافية إلى ترك هذه المناطق عرضة للخطر، مما جعل تأثير الأعمال العدائية الأخيرة أكثر وضوحًا. إن الإستخدام المكثف للقنابل الفوسفورية لا يدمر النباتات فحسب، بل يشكل تهديدًا خطيرًا للتربة أيضًا. يمكن أن تجعل بقايا الفوسفور التربة حمضية، مما قد يعطل النظم البيئية ويشكل مخاطر بيئية طويلة الأمد. بمجرد انتهاء النزاع، سيكون التقييم الشامل للتربة والنظام البيئي ضروريًا لفهم مدى الأضرار بالكامل".
هنا وتجدر الإشارة إلى أن الفوسفور الأبيض، بحدّ ذاته، ليس محظورًا بموجب القانون الدوليّ. ومع ذلك، عندما تُستخدم الذخائر الّتي تحتوي على الفوسفور الأبيض كأداة عسكرية، فإنها تُعتبر أسلحة حارقة. ورغم أن القانون الإنساني الدولي لا يحظر استخدامها بشكلٍ صريح، إلا أنه يفرض على الدول اتخاذ كافة التدابير الممكنة لتجنب الإضرار بالمدنيين جراء استخدامها.
وتخضع الأسلحة الحارقة للبروتوكول الثالث من اتفاقية الأسلحة التقليدية. وبينما انضمت فلسطين ولبنان إلى هذا البروتوكول، لم تنضم إسرائيل إلي البروتوكول الذي يحظر استخدام الأسلحة الحارقة الجويّة ضدّ تجمعات المدنيين. ورغم وجود بعض الثغرات في هذا البروتوكول، فإنه يقيد استخدام بعض الأسلحة الحارقة التي تُطلق من الأرض ضدّ تجمعات المدنيين، بما في ذلك القذائف المدفعية التي تحتوي على الفوسفور الأبيض. كما أن تعريف الأسلحة الحارقة في البروتوكول يقتصر على الأسلحة "المصممة أساسًا" لإشعال النيران وإحراق الأشخاص، مما قد يستثني الذخائر متعددة الأغراض مثل الفوسفور الأبيض عند استخدامه كستائر دخانية، حتى وإن كانت له آثار حارقة مشابهة.
الأثر البيئيّ للحرب على جنوب لبنان: تقييم أوليّ وصعوبة إجراء مسح شامل
المؤسف حاليًا أنّه وإلى جانب التقرير الذي أعدّه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP أواخر العام الفائت وتحديدًا في 19 كانون الأوّل، باحثًا في النتائج الأوليّة للأثر الاجتماعيّ والاقتصاديّ والبيئيّ والزراعيّ على لبنان المنخرط بالحرب، قلّة قليلة من التقارير الموثوقة -الرسميّة وغير الرسميّة- يُمكن الاعتماد عليها لاستبيان صعوبة الواقع الحاليّ، وإحصاء الأضرار على كافة الصعد وتحديد حجمها.
وقد لحظ التّقييم الأوليّ، آنف الذكر، التأثيرات البيئيّة، مسلّطًا الضوء على العواقب الوخيمة لاستمرار النزاع الذي دفعت فاتورته المساحات الطبيعيّة، من المناطق المحميّة، مرورًا بالغابات والمراعيّ والمسطحات المائيّة، وصولًا لنوعيّة الهواء والتّربة. وقد ألحقت المواجهات وعمليات القصف أضرارًا كبيرة بالأراضي الزراعيّة، بما في ذلك التدهور المادي، والتلوث الكيميائي، والتلوث من المخلفات المتفجرة، مما أدى إلى فقدان خصوبة التربة. وقد أدى استخدام القصف الفوسفوريّ إلى تلوث المحاصيل والمياه السّطحية والجوفيّة، مما يشكل تهديدات للماشية وصحة الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، ضربت الحرائق مناطق زراعية مختلفة، مما أثر على بساتين الزيتون ومزارع الحمضيات ومزارع الموز وأراضي المراعي. واعتبر التّقرير أن هناك حاجة إلى المزيد من البحث لتقييم التأثير الكامل.
وهنا يؤكد المدير المساعد لمركز الحفاظ على الطبيعة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، أنطوان كلّاب، لـ"المدن"، أنّه "تبين أن القصف الفوسفوري الذي أدى إلى حرائق في الغابات والأحراج والمناطق الزراعية له تأثيرات طويلة الأمد على الأنظمة البيئية الطبيعية، حيث يعيق عمليات الاسترداد البيئي. ونظرًا لخطورة الفسفور الأبيض على الكائنات الحية، تتوقع التقارير حدوث وفيات موثقة بين الثدييات والطيور والأسماك، مما يسبب آثارًا بيئية طويلة الأمد تتجاوز التأثيرات الفورية، ويشكل تهديدًا مستمرًا على صحة الإنسان وسلامة البيئة في الجنوب اللبناني وباقي الأراضي اللبنانية".
ويُضيف: "علاوة على ذلك، تأثرت بنية الشبكات المائية بشكل كبير، مما ينذر بخطر انتشار الأمراض المنقولة عن طريق المياه، وزيادة التدهور المنهجي للنظم البيئية. وتدهورت نوعية التربة في المناطق المتضررة بسبب التدمير المادي والتلوث الناتج عن انتشار المعادن الثقيلة والمركبات السامة من الأسلحة المتفجرة، بالإضافة إلى تأثير الفسفور الأبيض الذي يقلل خصوبة التربة ويزيد حموضتها. ويتوقع أن يؤثر الصراع أيضًا على إدارة النفايات الصلبة، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على الأنظمة البيئية بسبب استخدام طرق غير آمنة لدفن وحرق النفايات".
والجدير بالذكر أن هذه الكارثة البيئية جاءت في وقت يواجه فيه لبنان تحديات التغير المناخي كأزمة إضافية إلى قائمة أزماته المتعددة، حسب مديرة مشاريع تغير المناخ لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في وزارة البيئة، ليا كاي، قائلةً: "لبنان يعاني أساسًا من اهتراء في البنى التحتيّة، ولا يستطيع التأقلم مع تداعيات تغير المناخ، وخصوصًا الحاجة الملّحة لدعمٍ ماليّ. ومن جهة السّياسات فهناك كل ما هو مطلوب، إلا أن الدعم الماليّ المناسب هو الحاجة الحقيقة اليوم، لنستطيع أن نأتي باستثمارات للقطاعات الضعيفة والتأقلم مع التحديات المتزايدة".
وقد احتل لبنان المرتبة الأدنى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث الاستعداد والتكيف مع تحديات التغير المناخي، حين جاء في المرتبة 161 من بين 192 دولة في عام 2022 وفقًا لتقرير البنك الدولي. يعزى هذا التصنيف السلبي إلى ضعف البنية التحتية وانهيار المؤسسات في البلاد في قطاعات الطاقة، المياه، النقل، والنفايات الصلبة، التي استنزفت وتعرضت لتهديدات مباشرة خلال الاشتباكات الأخيرة. وكل ذلك جاء في وقت تعهد فيه لبنان بتحقيق أهداف مناخية اعتبرت بعيدة عن الواقع في ظل غياب آليات وسياسات جديّة وعملية وأموال كافية لتمويل هذه الأهداف.
وهنا يُشير كلّاب بالقول، أنّه وحتّى اللحظة: "لا يُمكننا لوم الدولة في غياب إحصاء شامل، خصوصًا أن الاشتباكات لا تزال مستمرة، وهنا يبرز تحدٍّ لوجيستي وتقنيّ، ولا يُمكننا حتّى اللحظة معرفة الأضرار الحقيقية ولا تقييمها بالشكل المناسب".
خريطة مختبر المدينة التابع لـ AUB
تستعين الخريطة (المثبتة أعلاه) ببيانات موقع النزاع المسلّح وبيانات الأحداث (آكليد) وهو مشروع رسم خرائط للأزمات يستمد بياناته من تقارير محلية.
التأثيرات المناخيّة للحرب على الجنوب اللّبنانيّ: قياس البصمة الكربونيّة
كشف بحثٌ نُشر مطلع العام الجاري في موقع "Social Science Research Network" وأعادت نشره صحيفة الغارديان، أجراه الباحث، وأحد كبار المحاضرين بجامعة كوين ماري البريطانيّة، بنجامين نيمارك، أن الانبعاثات المولّدة للاحتباس الحراريّ خلال أول شهرين فقط من الحرب على غزّة، كانت أكبر من البصمة الكربونيّة (مجموع الانبعاثات الدفيئة) السّنويّة لأكثر من 20 دولة مجتمعة في توليدها للانبعاثات. وتُعزى الغالبيّة العظمى (99 بالمئة) من ثاني أكسيد الكربون المنبعث ما يُعادل 281 ألف طن متري، إلى القصف الجوي الإسرائيليّ والغزو البريّ لغزة، وكان ما يقرب من نصفها بسبب طائرات الشحن الأميركيّة الّتي تنقل الإمدادات العسكريّة إلى إسرائيل. ووفقًا للدراسة الّتي تعتمد على عدد قليل وحسب من الأنشطة كثيفة الكربون، ما يجعل من احتماليّة أن تكون أقلّ من الواقع واردة جدًا، فإن كلفة المناخ خلال الشهرين الأولين من الهجوم العسكريّ الإسرائيليّ كانت تعادل حرق ما لا يقل عن 150 ألف طن من الفحم.
وتمتاز الدراسة الّتي نُشرت حينها بتحليلٍ شامل يركز على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة من مختلف مصادرها، بما في ذلك مهمات الطائرات والدبابات، وانبعاثات الوقود من المركبات الأخرى، بالإضافة إلى الانبعاثات المرتبطة بصنع وتفجير القنابل والمدفعية والصواريخ. ومع ذلك، يجدر الذكر أن هذا التحليل لا يشمل الغازات الأخرى المسببة للاحتباس الحراري مثل الميثان. ما يعني أن الصورة الّتي تقدمها الدراسة تظلّ جزئيّة ولا تمتد لتشمل الملوثات السّامة الأوسع نطاقاً التي ستظل تؤثر لفترة طويلة بعد النزاع وما يعقبه من عملية الإعمار.
وكان نيمارك، قد أوضح في تقرير نُشر على موقع "The Conversation"، كيفية حساب البصمة الكربونيّة للجيوش. مشيرًا إلى وجود أربعة أنواع من الانبعاثات المتولدة عن الحروب، وتفسر كيفية حساب كل نوع. تتضمن هذه الانبعاثات (باستخدام الخبرات في الحرب الروسيّة على أوكرانيا والأميركيّة على العراق) التالي في هذا الأنفوغراف:
وانتهت الدراسة إلى تأكيد عدم تناسق آلة الحرب بين الأطراف المتنازعة، وإمعان إسرائيل في التخريب المنهجيّ لكل أشكال الحياة في غزّة، وتحديدًا البيئة، والمناطق المجاورة. فضلًا عن تداعيات هذا الصراع المستمر على القطاع، والمناطق المجاورة وضمنًا البحر الأحمر ولبنان والأردن ومصر، والمنتجة طرديًّا لآثار مميتة وقاتلة على البيئة لمئات السّنين في غزّة، وكوارث أخرى بيئية تطاول الهواء والتربة والمياه في المنطقة الإقليميّة.
في هذا السّياق تُشير النائبة عون إلى أن احتساب البصمة الكربونيّة للحرب على الجنوب اللّبنانيّ هو أمر صعب جدًا، مستطردةً بالقول: "ستشمل البصمة الكربونيّة حرائق الغابات، والانفجارات المدفعيّة، والقصف، وحركة الشاحنات الثقيلة، والقنابل الفوسفوريّة، من بين عوامل أخرى. تكون هذه الأحداث غير متوقعة وغالبًا ما تكون سريّة. ومن ثم، غالبًا ما يكون من غير الواضح مقدار الكربون المنبعث، خصوصاً عند ضرب القنابل لمخازن الذخيرة. يجعل ذلك من الصعب حساب انبعاثات الكربون بدّقة. ومع ذلك، يمكن إجراء بعض الحسابات بناءً على افتراضات معينة والأرقام المبلغ عنها للأعمال العدائيّة".
وتُضيف: "في مثل هذه الأوضاع الكارثية، من الضروري أن تقوم الحكومة بجرد المنظمات غير الحكومية التي تشارك بنشاط في حماية البيئة وتنسيق جهودها مع الجيش المحلي. تم اختبار هذا النموذج إلى حد ما خلال انفجار بيروت في المنطقة الصفرية وأظهر بعض الفعالية. نظرًا للجهود الكبيرة المطلوبة للتعافي من أضرار الحرب، فإن تجميع وتنسيق هذه الجهود أمر ضروري. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ هذا النهج في الجنوب لأن جهة مسلّحة، وليس الجيش اللبناني، قد سيطرت، والقصف المستمر جعل المنطقة غير آمنة للأنشطة الحماية. لحماية الأصول البيئية، يحتاج الجيش اللبناني إلى دعم كامل، وسلطة حصرية للتنسيق مع المنظمات غير الحكومية، وموارد، ووعي، ودعم حكومي لضمان حماية البيئة في هذه المناطق".
أما عن طُرق الموازنة بين أولويات الأمن الوطني وأهداف الاستدامة البيئية، خصوصاً في مناطق النزاع، حيث قد تؤدي الأنشطة العسكرية إلى تفاقم التدهور البيئيّ، تُشير عون: "من المؤسف أن الأعمال العدائية تحت ذريعة الأمن الوطني تحدث دائمًا على حساب البيئة. في حالتنا، عانى جنوب لبنان من الحرب المستمرة والإهمال طويل الأمد في إدارة موارده البيئية. على الرغم من كونه أحد أكثر أجزاء لبنان خصوبة وغنى بالمياه، فإن النزاعات والقوات المسلحة جعلت هذه المنطقة غير متاحة لأي خطة استراتيجية لحماية هذه الأصول البيئية".
وتختم بالقول: "توضح صور الدمار التي نراها في النزاعات العسكرية كيف تمحو هذه الأعمال العدائية جميع أشكال الحياة في المناطق المتضررة. هذا الدمار غالبًا ما يكون متعمدًا، مما يجعل الحياة صعبة في مناطق النزاع. لا يؤثر فقط على حياة البشر بل يشمل أيضًا النظم البيئية بأكملها التي تدعم الحياة. بينما يحدث الدمار في ثوانٍ، يتطلب إعادة بناء الحياة في هذه المناطق جهودًا مشتركة ووقتًا طويلًا. من الصعب جدًا مناقشة إعادة التأهيل قبل تقييم مدى الأضرار بالكامل، وهو ما لا يمكن القيام به حتى تتوقف الأعمال العدائية. للأسف، يأتي السعي للسلطة بتكلفة هائلة على الكوكب وجميع سكانه".
التأثيرات المباشرة على السكّان والفئات المهمشة: غياب الحوكمة الرشيدة
يعتبر المحاضر بالعلوم السّياسيّة في الجامعة الأميركيّة، والمدير المؤسس لمرصد الحوكمة الرشيدة والمواطنة، الدكتور سيمون كشر، أن "تقييم التأثيرات البيئية والمناخية للنزاع العسكري في لبنان يتطلب نهجًا متعدد الجوانب يعالج كل من العواقب الفورية وطويلة الأمد. الفئات السكانية الضعيفة، التي غالباً ما تتحمل وطأة النزاع، تتأثر بشكل غير متناسب بالتدهور البيئي، مثل تلوث الأراضي وإزالة الغابات وتلوث المياه، مما يزيد من حدة الفوارق القائمة. أحد المجالات الحاسمة للدراسة يتضمن دراسة البصمة الكربونية للأنشطة العسكرية، بما في ذلك الانبعاثات الناجمة عن الأسلحة ووسائل النقل والأضرار التي تلحق بالبنية التحتية، وكيف تسهم هذه العوامل في تغير المناخ. بالإضافة إلى ذلك، فإن دمج الاعتبارات البيئية في السياسات العامة أمر ضروري. قد يشمل ذلك تطوير أطر لاستعادة البيئة بعد النزاع، وإنشاء سياسات تعطي الأولوية لاحتياجات المجتمعات الضعيفة، وضمان أن تتوافق الأعمال العسكرية مع المعايير البيئية الدوليّة. كما يجب أن تركز السياسات العامة في لبنان على بناء القدرة على الصمود لحماية الناس والبيئة من التأثيرات المستمرة والمستقبلية للنزاع المسلّح". ويؤكد كشر، أن الأزمة الكبرى تقع في غياب أي شكل من أشكال الحوكمة الرشيدة.
تم إعداد هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي نظمته مؤسسة مهارات حول "الإعلام والتغير المناخي والقضايا البيئية" بالتعاون مع مشروع خدمات الدعم الميداني في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان، والعراق) والمنفذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية. تم نشر هذا التقرير في موقع المدن.