Loading...

أمهات في مرمى قرارات المحاكم الجعفرية… لمن الحضانة في الحرب؟

 

كتبت فاطمة البسام وحوراء الحلاني:

تترك الحرب أثارها الموجعة في نفوس كل من حضرها وعاش تفاصيلها المرعبة، ولعلّ الهاجس الأكبر لدى الناس هو الموت والابتعاد عن أحبابهم، وكما الجميع تعاني الأمهات في الحروب لكن بشكل مضاعف في ظلّ القلق على أبنائهنّ والمصير المنتظر، وبقدرة خارقة يكنّ أيضًا أكبر مصدر أمان للأبناء ولو كانت العائلة تحت القصف.

من هنا ننطلق بالسؤال، كيف كانت حال الأمهات المبعدات قصرا عن أولادهنّ بأحكام الحضانة خلال الحرب الأخيرة على لبنان؟

 

الحضانة خلال الحروب والأزمات: ذكورية تتخطّى أمان الأطفال

لن نسرح في التفكير بعيدًا، السيدة عبير واحدة من هؤلاء النساء والتي لم تكن تعلم أن لعنة “ذو الشأنية” ستلاحقها في أروقة المحكمة الجعفرية خلال العدوان الأخير على لبنان وهي تحاول انتزاع حقّها برفع قرار منع السفر عن توأميها البالغين من العمر 11 عاماً، والذي كان قد وضعه الأب، قبل ثلاث سنوات أي بعد انفصالهما، ولم تكن تعلم بوجود القرار، إلاّ عندما قررت أن تحمي ولديها من جنون الحرب وتحاول نقلهم إلى الخارج.

 

عبير هي حالة من مئات الحالات، إذ تؤكد المحامية لدى منظمة “كفى” فاطمة الحاج أنّ الحرب الأخيرة “انعكست بشكل مباشر على النساء، كسائر الأزمات التي نمر بها، بسبب الفجوة القانونية وانعدام العدالة ومعاناتهنّ في مختلف النواحي.” وأنّ “أغلب النازحات كنّ من الطائفة الشيعية، التي تعاني كثيرًا في موضوع الحضانة”.

 

وهنا، تعود معضلة الحضانة إلى أساس النظام القائم في لبنان، إذ تفنّد محامية  الحاج نظام الأحوال الشخصية المعمول به في لبنان وفقًا للطوائف، إذ توجد 18 طائفة و15 قانون أحوال شخصية، كل محكمة تخضع لقوانين معيّنة وفقًا للمذهب وبالتالي يبدأ التمييز من هنا في موضوع حضانة الأمهات.

 

وفي قضية الأم عبير خشاب ارتأت المحكمة الجعفرية سابقا اعطاء حق الحضانة  للأب بسبب “شأنيته” كونه “سفير سابق”، ويحق له أن يحصل على حضانة الولدين لأنه، وبحسب قرار المحكمة يستطيع أن يؤمن لهما “حياة مرفّهة”.

 

وخلال الحرب وعلى إثر قرار منع السفر عن الطفلين والذي وضعه الأب، انتهت الحرب قبل أن تحصل خشاب على قرار إباحة السفر، وهو “استثناء” حصل عليه أهل غيرها، كون الأمر يتعلّق بـ “الحياة والموت”، وهو أرفع من الخلافات الزوجية، فكانت المحكمة -بشكل استثنائيّ- تنظر بعين “الرحمة” للأمهات، الأمر الذي يثير التساؤلات في ما يخص الاستنسابية في التعامل مع الأمهات.

 

في هذا الإطار، يقول السيد هاشم وهو رجل دين من الطائفة الشيعية، إنّه ” لا بد أن نعلم أن الحكم الشرعي يعطي حق الحضانة في أول سنتين للأم والأب بالاشتراك بينهما، وبالتالي المحكمة لا يمكن لها أن تعطي أي إذن من دون موافقة الأب لأنه شريك في الحضانة” معتبرًا أنه لذلك يجب مراجعة المحكمة المختصّة ومعطيات وتفاصيل كل حالة من الحالات التي حصلت في الحرب، إذ إن الحالات تختلف في أصل الحضانة مع من، وسبب قرار المحكمة قبل الحرب وخلالها”.

 

ولكن الواقع يختلف عن ما أشار إليه السيد هاشم، إذ تشير المحامية فاطمة الحاج إلى أنّ “أغلب النازحات كنّ من الطائفة الشيعية، التي تعاني كثيرًا في موضوع الحضانة، وفقًا للمحكمة الجعفرية عمر الحضانة مع الأم حتى عمر سنتين للطفل الذكر، و7 سنوات للأنثى ويتم تخييرهما عند الـ14 و9 سنوات تباعًا، مع استثناءات خطّها بعض القضاة الجدد المنفردين كإعطاء الحضانة للأم بولدها الذكر حتى سبع سنوات”.

 

وقد زادت الحرب من حدّة مشاكل الحضانة نتيجة السلطة التي يتمتّع بها الأب مسنودةً على أحكام حضانة مجحفة بحق النساء، وهنا تقول الحاج: “يسلب الأب الأم حضانتها في أي وقت يريد، وهو الأمر الذي زادت وتيرته في حالة الحرب، بعض الآباء لا يملكون أحكام حضانة وكانوا أبناءهم يعيشون مع الأم قبل الحرب، لكنّهم اعتبروها مناسبة بحجّة نقل الأولاد إلى مكان آمن، حرموا الأمهات من رعاية أبنائهنّ. ”

 

من مقاربة أخرى وأساسية، تصدر المحكمة قراراتها بما يخص الحضانة دون دراسة الأثر النفسي على الأطفال خصوصا خلال الحرب، إذ تشدّد الأخصائية والمعالجة النفسية للأطفال والمراهقين إليانا النجّار أنّ “الأطفال لأبوين منفصلين، همّهم في الحرب يفوق الأطفال الآخرين الذين يعيشون مثلًا في مراكز الإيواء مع عائلاتهم، إذ تسيطر على أفكار الطفل البعيد عن والدته حالة الخوف والقلق الدائم حول إمكانية تعرّضها للخطر وهي في مكان آخر، أو تعرّضه للخطر أو الموت وهي بعيدة عنه والدته حالة الخوف والقلق الدائم حول إمكانية تعرّضها للخطر وهي في مكان آخر، أو تعرّضه للخطر أو الموت وهي بعيدة عنه”.

 

تكمل عبير حديثها: “ذهبت إلى المحكمة الجعفرية في منطقة الأونيسكو، لأكثر من 11 مرّة، على وقع صدى صوت الغارات والطائرات الحربية، التي كنت أشعر أنها متآمرة مع قرارات المحكمة لانتزاع حقي في حماية أولادي”.

 

وتضيف: “حصلت قبل سنوات على قرار بالحضانة من محكمة الأحداث، الذي بموجبه استطعت تحصيل حقي في احتضان ولديّ، الذي كان قد حصل على حضانتهم الوالد بموجب المحكمة الجعفرية. وبتاريخ 1 تشرين الأول 2024 , صدر قرار عن القاضي المنفرد الجزائي، قضى برفع منع السّفر عن القاصرين، والتّرخيص لوالدتهما مراجعة الدّوائر للاستحصال على كافّة المستندات اللّازمة، كما تمّ التّرخيص للوالد مراجعة وزارة الخارجيّة للحصول على جوازات سفر دبلوماسية للقاصرين من دون العودة للوالدة وذلك حرصاً على سلامة الطفلين وقائيّا وضرورة امتلاكهما جواز سفر تحسّبا في ظلّ الخطر الذي كانت تشهده البلاد.

 

وفي هذا السياق تقول المحامية فاطمة الحاج إنّه “وعلى الرغم من وجود قوانين أحوال شخصية خاصة بالطوائف تبتّ بأمر الحضانة، إلاّ أنه بالنسبة للأطفال، هناك قانون حماية الأحداث الذي يحميهم في حال تعرضهم للخطر، حرمان الطفل من حضن الأم ورعايتها يعتبر خطراً، وفق قوانين المحكمة، لذلك يمكن اللجوء إليها في هذه الحالة

وبموجب محكمة الأحداث، يمكن للأم أن تحصل على قرار حماية بما في ذلك مصلحة للطفل، على أن تكون الأم وطفلها في نفس البلد.

 

وفي نقد ذاتي لأداء المحكمة الجعفرية، يقول السيّد هاشم: “يمكن القول أنه لا بد من إعادة النظر في قوانين الحضانة ضمن الإطار الشرعي، الذي يعطي الأم حق الحضانة سنتين وأيضًا أعطى بموجب بعض المعطيات في حال كان الأب غير مؤهل للحضانة فيمكن للحاكم الشرعي أن يبقي الحضانة لدى الأم، بالتالي من الواجب تفعيل هذه الآلية والأحكام الشرعية بالشكل الذي يحفظ الأطفال بالدرجة الأولى ولا يؤدي إلى حرمان الأم من حق حضانة ولدها، مع الحفاظ على حق الرؤية الثابت للأم”.

 

قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة: ملجأ قانوني للنساء

أمهات كثيرات حُرمن من حق المشاهدة وفق ما أخبرن “كفى”، بحجة الحرب والتعريض للخطر امتنع الأب من اصطحاب الأبناء لرؤية أمّهم، مثال إحدى الحالات كانت الأم موجودة في صيدا والأب والأبناء في إقليم التفاح فامتنع عن إحضارهم لرؤيتها بحجة أن صيدا أخطر وهو الأمر غير الصحيح. وقد استغل بعض الآباء أيضًا  فكرة نقل الأولاد إلى مكان آمن وذهبوا بهم إلى سوريا.

 

بالنسبة لحماية النساء والأطفال، صدر قانون يعرف بقانون “حماية النساء وسائر أفراد الأسرة”، عام 2014، وتم تعديله سنة 2020، وهو يحمي النساء من العنف الممارس من قبل الرجل، وبحسب التعديل الأخير، أصبح بموجبه، يمكن للمرأة المعنّفة التي تترك منزل الزوجية، أصطحاب أولادها معها”.

 

وتؤكد الحاج، على أنه يمكن للنساء في لبنان أن يلجأن لقانون “حماية النساء وسائر أفراد الأسرى من العنف”، الذي ينص وفق المادة 14، أنه في حال تعرضت الأم للعنف واضطرت لترك بيتها، يبقى أولادها معها حتى سن الـ 13 سنة، كذلك قانون حماية الأحداث، الذي يعرف بقانون 425، الذي يراعي مصلحة الطفل الفضلى.

 

للأسف، في لبنان يتمّ استخدام حق الولاية الجبرية من الأب بدلًا من الوصاية الوالدية، وهو لا يراعي مصلحة الطفل بالدرجة الأولى.

معاناة النساء خلال الحرب من أجل الحفاظ على حماية الأولاد تفاقمت بسبب عدم وجود مراكز إيواء ليس فقط من الاعتداء الإسرائيلي بل من عنف أسري محتمل ونزاعات على الحضانة.

 

أيضًا ما زاد الوضع سوءًا هو عدم عمل المحاكم في فترة الحرب أو سفر بعض القضاة المختصّين، سواء بين المحاكم الدينية أو المدنية عانينا في الحصول على سرعة بتنفيذ الأحكام وأخذ الإشارات.

 

التحديات لوجستيًا وقانونيًا كانت كبيرة على الأمهات، بسبب انتقالهنّ لمناطق لا يعرفن فيها أحد، ووعي بعضهنّ كان بالتواصل مع الجمعيات المختصّة فيما ظُلمت نساء أخريات.

 

الأثر النفسي الممتدّ لحرمان الطفل من حضن أمه

الأخصائية والمعالجة النفسية للأطفال والمراهقين إليانا النجّار ركّزت في حديثها على الوضع النفسي للطفل في إطار والدين منفصلين، إذ يعاني الطفل أساسًا من فكرة الهجر والفقد، والفقد هنا ليس الموت إنما بعد والدته القسريّ عنه، وتأتي الحرب لتضاعف هذا الشعور بشكل كبير خاصة إذا كانت الأم قد انتقلت إلى مكان آخر آمن أو سافرت خارج البلد فيما بقي الأطفال مع والدهم في مناطق الحرب.

 

تقول نجّار: “الطفل هنا سترسم صورة في رأسه عن والدته بأنها أنانية وأنه تمّ التخلّي عنه، وهو ما سينعكس على تصرفاته العدائية حتمًا من خلال نوبات الغضب، كسر الأشياء، الردود الانفعالية وغيرها، ولا يتوقف الأمر عند مرحلة الطفولة بل يمتدّ إلى مرحلة شبابه عندما يصبح ساعيًا دومًا لإرضاء أمه بطريقة مبالغ بها خوفًا من هجرانها المزعوم له، خصوصًا أنّ مجتمعاتنا يعتمد فيها الدور الرعائي على الأم بالدرجة الأولى وهي أكثر من يقضي وقتًا مع الأطفال، ويستمع لأحاسيسهم وتفاصيل يومهم على عكس الآباء في معظم الأحيان”.

 

بالإضافة إلى ذلك، تفصيل أخير هام تلفت إليه الخبيرة النفسية إليانا النجّار قائلة:”ما الذي يخبره الوالد لأبنائه عن أمهم؟ أهل الأب ماذا يقولون عنها أمامهم؟”، إذ لا يخلو مجتمعنا من حالات “الانتقام” عبر الأطفال، من الأم – الطليقة، سواء بحرمانها من رؤيتهم أو بتشويه صورتها أمام أبنائها.

 

وهو ما يندرج في علم النفس ضمن إطار “التأثير على الهوية وتقدير الذات”، عندما يتولدّ لدى الطفل إحساسًا بالنقص أو الدونية مقارنة بأطفال آخرين يعيشون مع أمهاتهم، ويبدأ البحث عن بدائل عاطفية، مثل التعلق الزائد بشخص آخر (مثل الجدة أو المعلم) أو حتى الانجراف نحو سلوكيات سلبية مثل العصيان والتحدي.

ولتجنّب كل ما سبق، يمكن تقليل التأثيرات السلبية من خلال تواصل مستمر، دعم نفسي، وتوفير بيئة مستقرة تُساعد الطفل على التكيف وبناء مشاعر الأمان.

 

إذا وفي الخلاصة، تبدأ المشكلة من تركيبة المجتمع كاملةً ونظرته للمرأة-الأم-المنفصلة، الحلّ بالتأكيد لا يكون بمعاداة المجتمع الأبوي الديني، إنما من خلال محاججته بالقانون والعلم، وعدم انتظار حرب أخرى لا سمح الله لكي تحصل النساء على حقهنّ البديهيّ في احتضان أولادهنّ وتوفير الأمان لهم.

 

تم اعداد هذا التقرير في اطار مشروع "مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام" بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت. أن محتوى هذا الفيديو لا يعكس وجهات نظر هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت. وتم نشر التقرير أيضًا على موقع لبنان الكبير.