Loading...

روائح "الفساد" تفوح من مشروع تكرير مياه الصرف الصحي

 

يكاد لا يمر يوم واحد من دون أن يشكو مواطنون من روائح منبعثة من مياه الصرف الصحي، التي تجري في بعض المناطق على الطرقات في الأحياء والشوارع، من دون أي ربط بشبكات الصرف الصحي وبمعامل التكرير الخاصة بها. وبدلًا من أن تعالج المياه الآسنة في المعامل، تُحوّل إلى الأودية والأنهار والبحر كمحطة أخيرة، رغم وجود نحو 22 محطة تكرير تابعة لمجلس الإنماء والإعمار و65 محطة تابعة للبلديات ومؤسسات المياه. لكن واقع الحال، يظهر أنّه "لا من تكرير ولا من يحزنون".

 

أما المواطن فيدفع الفاتورة الصحية والبيئية، فيما يتخطى  الهدر المالي عتبة الـ1.4 مليار "على عينك يا تاجر". وفي ظل انهيار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وانشغال المواطن بتأمين أبسط حاجاته اليومية والحياتية، لم يعد قطاع الصرف الصحي يحظى بالاهتمام اللازم. في غضون ذلك، تتحوّل القضية يومًا بعد يوم إلى فجوةٍ كبيرةٍ من حيث الهدر والاستهتار وتفاقم تداعياتها.

 

تُعتبر عملية جمع مياه الصرف الصحي ومعالجتها وإعادة استخدامها ضعيفةً أو شبه غائبة في لبنان. فلا سياسة أو إطار عمل مؤسساتي خاص بمعالجة هذه المياه أو إعادة استخدامها، ولا إرشادات حول التقنيات الأكثر فعالية من أجل توفير كلفة معالجة مياه الصرف الصحي واستخدام المعالجة منها في الزراعة، بحسب تقرير تقييمي صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (فاو).

ورغم التزام الحكومة بتعزيز جمع ومعالجة مياه الصرف الصحي، ودعم استخدام المعالج منها في الزراعة والصناعة واستخدامات أخرى، ناهيك عن استرداد تكلفة معالجة مياه الصرف الصحي اعتمادًا على مبدأ "إلزام الجهة الملوّثة بالدفع" وعملًا بـ"استراتيجية قطاع الصرف الصحي" التي أطلقتها وزارة الطاقة والمياه عام 2010، والتي قوبلت بدعم دولي وتحديدَا أوروبي، إلا أن الحكومة فشلت فشلًا ذريعًا في إنجاز الأهداف التي وضعتها لنفسها. 

وذكرت منظمة الفاو  في تقرير أعدته عام 2016 بعنوان "تقييم مياه الصرف الصحي المعالجة والمخصصة للزراعة في لبنان"، أنه وفق أهداف الاستراتيجية الموضوعة "ستزداد عمليات جمع ومعالجة مياه الصرف الصحي بنسبة 95 في المائة بحلول عام 2020 مقارنة مع يومنا هذا؛ وسيتم إدخال كافة مياه الصرف الصناعي بحلول عام 2020". وقالت إن الحكومة ستسعى إلى "إعادة استخدام كافة مياه الصرف الصحي في المناطق الداخلية المعالجة على المستوى الثاني؛ واسترداد كامل لجميع تكاليف المعالجة والصيانة تبعًا لمبدأ "إلزام الجهة الملوّثة بالدفع".

وعلى غرار ما توقعه التقرير لناحية أن "تقديرات الحكومة تبدو على درجة كبيرة من التفاؤل"، لم يأت الواقع مشابهًا للمخطط المذكور. عملياً، لم تستطع الحكومة تشغيل محطة تكرير واحدة بشكلٍ كامل. فمن أصل 12 محطّة كبيرة كفيلة بتلبية احتياجات نحو 65% من المُقيمين، أُنجزت ثماني محطّات فقط، (طرابلس، شكا، البترون، جبيل، الغدير، النبي يونس، صيدا وصور) فيما لا تزال محطّات العبدة وكسروان وبرج حمود قيد الإعداد، وتنتظر محطّة ساحل الزهراني تحديد موقعها (في الصرفند أو الغازية) وتوفر التمويل لإنشائها. 

واللافت أنه من بين المحطّات الثماني التي أنجزت، تعمل اثنتان فقط ، وهما محطّتا صيدا والغدير (جنوب مطار بيروت)، لكن يقتصر عملهما على ضخّ المياه على بعد 2 كلم تقريباً من الشاطئ، بعد أن تخضع لمعالجة أولية تقوم على إزالة المواد الصلبة فقط. وتعمل أربع محطّات أخرى (شكا، طرابلس، البترون، والنبي يونس) جزئياً بانتظار وصلها بالشبكات، أما محطتا صور وجبيل فلم توضعا قيد الخدمة بعد.

 

وتثير هذه الوقائع، التي تُظهر مدى فساد واستهتار الجهات المعنية في تأدية واجبها، تساؤلات عن الجهة المعرقلة لعمل المحطات وتشغيلها وعن مدى توفّر حلول في ظل الأوضاع الراهنة. 

 

فوضى عارمة 

 

تعكس حالة الفوضى التي تعم القطاع الاستثماري للمياه، حالة العجز عن استكمال مشروع تكرير مياه الصرف الصحي. فلم تُستكمل معظم شبكات معامل التكرير بسبب عدم وصلها بشبكات الصرف الصحي وشبكات المياه حتى هذه الساعة، ما يعني باختصار عدم تكامل المشروع تقنيًا بذريعة عدم توفّر التمويل الكافي، المقدّم  كهبة لكن يتم استخدامه لأغراض أخرى و"فهمكم كفاية"، وفق ما يقول المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه غسّان بيضون لـ"مهارات نيوز".

 

أنشأت هذه المحطات بالتعاون مع مجلس الإنماء والإعمار الذي يتولى تشغيلها عبر عقود لمدة سنة أو سنتين. وعند انتهاء العقود، لا تكون المؤسسة جاهزة وقادرة على استلام المحطات لتشغيلها وبدء العمل فيها.

إلى جانب ذلك، تشكو هذه المؤسسات من نقص  في اليد العاملة، كونها تعتمد على مستخدمين لفترة محددة، وسط عجز مالي وعجزٍ تقني جراء عدم تكامل البنيان الأساسي لإطلاق عملها. 

ويشرح بيضون أن التزام لبنان باتفاق دول الشرق الأوسط للحدّ من تلوّث المياه هو ما دفعه لتنفيذ مشروع تكرير الصرف الصحي. ويؤكد "لولا هذا الالتزام لما كانت الدولة اللبنانية قد فكّرت من الأساس بالمشروع ولكنّا بقينا على عاداتنا القديمة". 

ويتابع  "قدّمت الدول الأوروبية مشاريع نموذجية بهباتٍ، لكن لم تقابل هذه المساعدات بإدارة متكاملة وبجهاز فني وبشري في المؤسسات الاستثمارية للمياه لمتابعة وإكمال الانتفاع من هذه النماذج".

وبحسب بيضون، منذ العام 2009 حتى اليوم، ما من مؤسسات مستقلة، بل هناك وزير يحتكر القرار بغياب مجالس إدارات، ولا من قدرة على ضبط مواردها وشبكاتها ومنع سرقة المياه، إضافةً إلى عملية تفعيل جباية أموالها وزيادة تعرفاتها بسبب سوء الأوضاع المعيشية.

ويعتبر أن قانون تنظيم قطاع المياه 221/2000 الذي خلق هذه المؤسسات الاستثمارية "خلقها وخنقها في الوقت ذاته"، عبر فرضه مراعاة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية في التعرفة التي يعتمدها. 

ويؤكد أن عدم استقلالية مؤسسات المياه هو السبب الرئيسي لعدم قدرتها على تفعيل أعمالها ومشاريعها التي تضم معامل تكرير الصرف الصحي. 

ويقول "فرض وزارة الطاقة توجّهاتها الخاصة على المؤسسات هو السبب الرئيسي وراء حالة العجز التي تعيشه اليوم.. وكل هذه الفوضى ناجمة عن سوء إدارة"، معتبراً أنّ  "الوزير لا يقبل استكمال المشاريع إلا على طريقته عبر إحضار متعهديه وتلزيماته ويبرمج العمل وفق مصالحه الخاصة".

 

قضاء في "خدمة" السياسة

 

قضائيًا، لا يختلف المشهد عن المشهد الإداري أو التقني أو المالي. يرمي القضاء في أدراجه هذا الملف، ويعود إليه عندما تفوح رائحة الفساد، من دون متابعة قانونية تضمن خواتيم إيجابية ومحاسبة المسؤولين الفعليين.

 

فُتح ملف قطاع الصرف الصحي للمرة الأولى عام 2019 عن طريق الصدفة، بعد فضيحة فيضان مجرور الصرف الصحي الذي يصب في البحر قرب مشروع الإيدن باي، في منطقة الرملة البيضاء في بيروت. وتسبّب إقفال المجرور يومها بفوضى وأضرار في الممتلكات، وذلك كلّه لضمان عدم إقلاق راحة صاحب مشروع فندقٍ مخالِفٍ بُني على الأملاك البحرية.

 

لم توفّر رائحة الصفقات حينها السلطة وأزلامها وبعض القيّمين على المؤسسات العامة أو التابعة لها. وطالت كذلك بلدية بيروت ومحافظها السابق القاضي زياد شبيب وشركة العرب وصاحب الفندق وسام عاشوروغيرهم. وعلى قاعدة من "هالك لمالك لقباض الرواح"، انتقل الملف من مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات إلى المحامي العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان خوري وانتهى في أحد أدراج القضاء.  

بعدها، تقدّم النائب عن حزب الله حسن فضل الله، بإخبار أمام المدعي العام المالي. وأجبر الأخير القضاء على إعادة فتح الملف لاستكمال التحقيقات ومحاولة كشف الملابسات وتحميل المسؤوليات للفاسدين والمسؤولين عن  الهدر المالي، الذي تقدّره النيابة العامة المالية بمليار ومئتي مليون دولار. ويعود معظم الهدر إلى سبب أساسي هو إتمام  تشييد عدد من هذه المحطات من دون تشغيلها. 

وعوضاً عن استجواب كل المتعهدين الذين نفذوا مشاريع بملايين الدولارات، ادعى القضاء على قلّة، بينهم المتعهد رياض الأسعد الذي تم الاستماع إليه هذا الأسبوع. ويعتبر الأسعد في تصريح لـ"مهارات نيوز" أن "منظومة الفساد الحاكمة تحاول كالعادة تحميل مسؤولية هذا الفشل والفساد إلى موظفين صغار أو أشخاص غير محسوبين عليها كما تحاول أن تفعل اليوم".

ويرى أن "الملف القضائي كيدي وليس جدياً بعدما  اختاروا أن يتهموا به متعهّداً واحداً"، واصفاً عبر فيسبوك ما يجري "بالسخافة".

 في حال "لم يتصوّب التحقيق نحو الرؤوس الكبيرة والمسؤولين السياسيين الذي يتقاسمون الفساد ويسببون الهدر" ستبقى التحقيقات وفق الأسعد "بلا جدوى".

ويقول "تفاجآت  خلال جلسة الاستماع بأنني لم أر أيًا من المتعهدين العاملين في هذا المشروع، كما لو أنّ  الحملة والتحقيقات وكل ما يدور في هذا الملف موجّه لي شخصياً". 

ويتعهّد الأسعد بكشف معطيات في المستقبل القريب، دفاعاً عن سمعته بالدرجة الأولى، ولنقل الوقائع وتسليط الضوء على صلب المشكلة، بالدرجة الثانية.

 

ومن خلال مراجعة النتائج التي تمّ تحقيقها حتى الآن، يتبيّن جليًا أن السلطات فشلت في إدارة مشروع تكرير المياه الذي لم يبصر النور حتى اليوم، لا بل أنها ستطفئ محركات المحطتين الوحيدتين العاملتين بشكلٍ جزئي، جراء عدم توفر القدرة التشغيلية مع ارتفاع التعرفة وعدم قدرة مؤسسة كهرباء لبنان على تشغيلها. وسيؤدي ذلك إلى ضمّ هاتين المحطتين إلى 85 محطة أخرى متوقفة عن العمل منذ إنشائها، حتى أجلٍ غير مسمى. 

والمثير للاستغراب أن يصار إلى تحميل الفشل والفساد إلى متعهدٍ واحدٍ والتهرب من محاسبة كبار المسؤولين. ويبقى السؤال إلى متى ستبقى روائح الفساد تفوح  من قطاع الصرف الصحي، من دون أي حلول؟

TAG : ,فساد ,حوكمة ,الصرف الصحي ,معامل تكرير الصرف الصحي ,وزارة الطاقة والمياه ,مجلس الانماء والاعمار ,قضاء ,معامل تكرير ,هدر