Loading...

العودة إلى الجنوب بعد الحرب: بين التحديات والواقع السياسي

 

في خضم الأزمات التي يعاني منها لبنان، تبرز قضية نازحي الحرب الأخيرة على لبنان من أهالي الجنوب والبقاع تحديدًا كواحدة من أبرز التحديات الأمنية والإنسانية التي واجهها القطاع الأمني اللبناني في السنوات الأخيرة. ومع توقف الأعمال العدائية في جنوب لبنان وبدء مرحلة “الهدنة” (60 يومًا) فجر الأربعاء 27 تشرين الثاني، بدأت عملية عودة النازحين إلى قراهم ومدنهم. ورافق هذا اليوم تحديات كبيرة وحالة من الفوضى وضعت القوى الأمنية أمام مسؤوليات تنسيق العودة الآمنة للأهالي، حيث كان الجيش الاسرائيلي لا يزال في القرى الامامية ولم ينسحب منها.

 

مؤخرًا ومع انتهاء فترة “الهدنة” يوم الأحد 26 كانون الثاني 2025 والتي كان مقررًا أنّ ينسحب الجيش الاسرائيلي في نهايتها من القرى التي تواجد فيها، شهدت قرى الجنوب عودة ثانية لمئات الأهالي إلى قراهم وحصلت صدامات كثيرة مع قوات الجيش الاسرائيلي الذي أعلن قبل يومين من انتهاء الهدنة أنه لن ينسحب من القرى. أدت هذه الصدامات إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى، قبل أن يتم بعدها تمديد فترة “الهدنة” بشكل رسمي إلى ١٨ شباط/فبراير 2025.

 

يتناول هذا المقال أداء القطاع الأمني اللبناني في التعامل مع هذه القضية خلال الفترة الماضية، خاصة في اليوم الأول من بدأ سريان وقف النار، مع ما شهده هذا اليوم من انتهاكات واعتداءات على مواطنين عُزّل وصحافيين.

 

السياق العام للنزوح والعودة…هرج ومرج

أدت التوترات الأمنية والعسكرية في جنوب لبنان إلى نزوح آلاف العائلات من أهالي الجنوب، خاصة في المناطق القريبة من الحدود مع فلسطين المحتلة. وقد شكل هذا النزوح ضغطًا كبيرًا على المناطق التي استقبلت النازحين، سواءً في المدن اللبنانية الداخلية أو في مراكز النزوح المؤقتة. ومع إعلان بداية الهدنة، بدأت عملية العودة التدريجية للنازحين إلى ديارهم، وهي عملية تتطلب تخطيطًا أمنيًا وإنسانيًا متكاملًا. هذا التخطيط غاب عن لسان السياسيين والمسؤولين الأمنيين على الاقل في الايام الاولى من الهدنة، فكانت المفاجأة لبعض المواطنين بتواجد الجيش الإسرائيلي في قراهم الجنوبية.

 

انطلاقًا من هذا الواقع سادت حالة من الفوضى في الساعات الأولى من الهدنة حيث كانت المعطيات محدودة ومحصورة فقط من خلال القوات الدولية “اليونيفيل”، بسبب إنسحاب الجيش اللبناني من نقاط تموضعه. مع تقدم قوات الإحتلال إلى قرى جديدة. أدى هذا الأمر الى تصادم الأهالي العائدين مع الجيش الاسرائيلي وانتشرت حينها فديوهات توثق هذه الحالات، حيث قام الإسرائيلي باستهداف واعتقال متعمد للمدنيين لفرض معادلة وجوده.

 

استهدافات بالجملة، مدنية وصحافية

في اليوم الأول لوقف العدوان، تعرّض صحافيون لعملية استهداف مباشر من قبل الجيش الإسرائيلي في منطقة الخيام، حيث أُطلق الرصاص عليهم أثناء تغطيتهم لعودة الأهالي إلى قراهم صباحًا. وأسفر الهجوم عن إصابة ثلاثة مصورين صحافيين هم: محمد الزعتري، الذي تلقى ثلاث رصاصات أصابت يده ورجليه، وعبد القادر الباي، الذي أصيب بشظايا في قدمه، بالإضافة إلى علي حشيشو، الذي تعرّض لإصابة بشظية في وجهه. ويُسلّط هذا الأمر الضوء على المخاطر التي يتعرض لها الصحافيون أثناء أداء واجبهم الإعلامي في المناطق الساخنة، ويفتح الباب مجددًا للتذكير بضرورة تأمين الحماية للصحافيين الذي تكفله القوانين الدولية بشكلٍ حاسم.

 

 

وفي سياق متصل لم تسلم قرى الجنوب اللبناني ومزارعيها من بطش قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي واصلت سياسة الاقتحامات العشوائية وتدمير الممتلكات، بهدف تخريب الُبنى التحتية وجعل هذه القرى غير قابلة للسكن. وفي إطار هذه الحملات القمعية، شهدت بلدة وطىء الخيام اعتقالات جماعية طالت المدنيين العزل، حيث تم استهداف المزارع راشد عبد الله المحمد أثناء قيامه بأعماله الزراعية المعتادة برفقة أقاربه وعماله.

 

يقول راشد إن قوة إسرائيلية اقتحمت المنطقة واعتقلته مع من كانوا برفقته، ثم اقتادتهم إلى مركز “الحماري” داخل الأراضي المحتلة. وصف راشد عملية الاعتقال بالوحشية، حيث تعرضوا للاستجواب والتحقيق لأكثر من ثماني ساعات، بينما كانت أعينهم مغطاة تحت تهديد السلاح والقتل المباشر في حال عدم الامتثال للأوامر. خلال التحقيق، حاول المحققون انتزاع أي اعترافات من راشد، إلا أنه أكد لهم أنه مدني ولا يعلم شيئًا، مشيرًا إلى أن تواجده في المنطقة كان لأغراض زراعية بحتة.

 

وفي يوم الاثنين 27 كانون الثاني/يناير 2025 (العودة الثانية)، استهدف الجيش الإسرائيلي المصور الحر حسن فنيش برصاصة أصابت ساقه أثناء تغطيته عودة الأهالي إلى بلدة حولا الجنوبية. هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، حيث يعمل فنيش على تغطية الأحداث في المناطق الحدودية منذ بداية التوترات في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

 

أكد فنيش أنه تعرض لإطلاق نار مباشر أثناء وجوده بين المدنيين وتغطيته عودة الأهالي إلى قراهم. فنيش الذي يعمل بشكل مستقل دون انتماء إلى أي جهة إعلامية محددة، أوضح أن الرصاصة التي أصابته كانت من نوع “متفجر”، ما يدل على أن الاستهداف كان متعمدًا. ورغم الإصابة، يؤكد فنيش عزمه على العودة إلى العمل بمجرد تعافيه، معتبرًا أن دوره كصحافي يفرض عليه نقل الصورة الحقيقية للأحداث.

 

 

هذا الاستهداف يأتي في إطار سياسة إسرائيلية متكررة تستهدف الصحافيين الذين يوثقون انتهاكاتها في المناطق الحدودية. وهي امتداد لاعتداءات سابقة أدت الى استشهاد عدد من الصحافيين في جنوب لبنان مثل عصام عبدالله وفرح عمر وربيع المعماري، ما يؤكد الحاجة الملحة إلى تعزيز الحماية الأمنية للصحافيين في مناطق النزاع. كما تبرز ضرورة توفير تنسيق أفضل بين الجهات الأمنية والصحافيين لضمان سلامتهم أثناء أداء واجبهم الإعلامي.

 

أداء القطاع الأمني: تحديات، إجراءات، وفرص

واجه القطاع الأمني اللبناني، ممثلًا بالجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، عدّة تحديات في التعامل مع قضية النازحين العائدين. من أبرز هذه التحديات:

 

عدم الوضوح: على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها القطاع الأمني اللبناني في إدارة أزمة النزوح والعودة، إلا أن هناك انتقادات تُوجه إليه حول بعض الجوانب، خاصة في ما يتعلق بغياب المعلومات. واضطر اللبنانيين للإعتماد بشكل كبير على التصريحات والتحذيرات التي يطلقها الجيش الإسرائيلي.

هذا الوضع أثار تساؤلات حول فجوات آليات التواصل، ما يتطلب تحسينًا جذريًا في هذه الآليات، وتوفير معلومات دقيقة ومحدثة بشكل مستمر، حتى لا يضطر المواطنون إلى اللجوء إلى مصادر قد لا تكون موثوقة أو محايدة.

 

دمار هائل : شهدت المناطق الحدودية في الجنوب اعتداءات كبيرة ومدمرة، أثرت بشكل كبير على البنى التحتية، وتركت ورائها آلاف الأمتار من الأماكن غير المأهولة، مما يجعل تأمين طرق عودة آمنة للمدنيين مهمةً صعبة.

التعامل مع الألغام والمتفجرات: في بعض المناطق الحدودية، كان هناك كم كبير من الألغام أو مواد غير منفجرة، ما يُصعّب على القوى الامنية السماح بعودة النازحين، ما استدعى عملا كبيرًا لتطهير هذه المناطق قبل عودتهم.

 

ونشرت مديرية التوجيه في الجيش اللبناني عدّة حملات إعلانية توعوية (لا تقترب، لا تلمس، بلّغ فوراً) حول مخاطر الألغام والأجسام المشبوهة عبر إرشادات وفديوهات في الشوارع والقنوات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي. فيديو: 

 

 

بدورها تعتبر الصحافية أمل خليل أن الجيش اللبناني واجه تحديات كبيرة في اليوم الأول لعودة النازحين، في ظل التهديدات الإسرائيلية التي لا ترحم. وأشارت إلى أن الجيش حاول فرض إجراءات أمنية مشددة، مثل وضع نقاط تفتيش وإقامة أسلاك شائكة بين المدنيين والمناطق التي تحتلها القوات الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن اندفاعة الناس كانت أكبر من الإجراءات الأمنية، مما أدى إلى اقتراب بعض المتظاهرين من السواتر الترابية وتعرضهم لإطلاق نار إسرائيلي.

 


وتضيف خليل أن الجيش اللبناني رفض استخدام القوة المفرطة، وفضّل التعامل مع المدنيين بحذر. ومع ذلك، فإن هذا النهج لم يمنع وقوع إصابات واستشهاد عدد من المواطنين، بما في ذلك جنود من الجيش اللبناني.

 

في مقابل هذه التحديات شكل تواجد الجيش اللبناني وإعادة انتشاره في المناطق الحدودية تماشيا مع بنود القرار 1701 بارقة أمل للبنانيين وساهم مؤخرًا بعد انتهاء الهدنة بتأمين عودة الأهالي الى العديد من القرى ما يعكس مستوى عالٍ من الحرص والمسؤولية، مع بقاء المناطق التي لم تنسحب منها إسرائيل رهينة للتطورات.

 

كما استطاع الجيش اللبناني الذي أظهر التزامه بتنفيذ ما هو مطلوب منه رغم ادعاءات الجانب الإسرائيلي في حشد الدعم الدولي والإقليمي لتعزيز أدواره من خلال توفير بعض المعدات الأمنية و الدعم اللوجستي. وهذا التعاون يساهم في تعزيز القدرات الأمنية اللبنانية في التعامل مع الأزمات.

 

توصيات لتحسين الأداء الأمني

أظهر القطاع الأمني اللبناني، وفقًا لمصادر أمنية وعسكرية، قدرة ملحوظة على التكيّف مع تحديات عودة النازحين رغم الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة. ومع ذلك، يبقى القطاع بحاجة لعدة أمور لأداء فعال للمهمات منها:

ضرورة تحسين البنية التحتية الأمنية وزيادة الاستثمارات في هذا المجال
تعزيز التنسيق بين الجهات الأمنية لضمان استدامة الأمن في المناطق
تطوير خطط طوارئ فعّالة للتعامل مع أي أزمات مستقبلية قد تؤدي إلى نزوح جديد

 

وفي التوصيات أيضًا دعت خليل إلى ضرورة تعزيز التنسيق بين الجيش اللبناني والفعاليات المحلية، مثل البلديات والقوى السياسية النافذة في الجنوب، لضمان عدم تكرار الأخطاء التي حدثت في اليوم الأول. وأكدت على أهمية توعية الشباب بمخاطر الاقتراب من المناطق المحتلة، خاصة في ظل وجود عدو لا يفرق بين المدنيين والعسكريين.

 

كما أوصت بضرورة تعزيز الحماية الأمنية للصحافيين الذين يغطون الأحداث في المناطق الحدودية، خاصة في ظل التهديدات المباشرة التي يتعرضون لها من قبل القوات الإسرائيلية. وأشارت إلى أنها تلقت تهديدات مباشرة عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، مما اضطرها إلى تخفيف وجودها في المناطق الساخنة.

 

ختامًا تبقى عملية عودة النازحين الى الجنوب تُمثل معضلة كبيرة يجب التعامل معها بحذر من قبل الأجهزة الأمنية ومن خلفها طبعًا الحكومة اللبنانية في قادم الأيام، خاصةً أننا على بعد أيام ليست ببعيدة من انتهاء المهلة الجديدة للهدنة في 18 شباط، والتي من المتوقع إذا لم يحصل جديد أن تشهد نهايتها موجة أخرى من تدفق الأهالي نحو قراهم.

 

يُنشر هذا التقرير في إطار البرنامج التدريبي حول "أسس ومبادئ التغطية الإعلامية لقضايا الأمن في لبنان" الذي نظمّته مؤسسة "مهارات" بدعم من مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن "DCAF". هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن. وقد تم نشر التقرير أيضًا على موقع أخبار لبنان 24.