كتبت صبا سكرية وناهلة سلامة:
"قال لي أن أذهب مع أطفالنا وسيلحق بنا، لكنه لم يفعل". قتلت إسرائيل زوج زهرة خشان، من بلدة البازورية في جنوب لبنان، بعد نحو 40 يوماً على بداية اشتداد العدوان على لبنان، وكان جالساً في منزله في البلدة.
وفي ذلك المنزل تستعيد السيدة الجنوبية في حديث لـ"النهار" لمحات من حياة ما قبل الحرب، لتشير إلى أن العودة إلى المنزل كانت صعبة جداً: "كنت وزوجي نملك محلاً لتزيين كافة المناسبات. نقسم الوقت كي نستطيع التركيز على العمل والمنزل معاً، لكنني مع نهاية الحرب كنتُ قد خسرت كل شيء، واضطررت للعودة إلى العمل بمفردي وأصبحت مسؤولة عن أطفالي بالكامل، وهذه مهمة صعبة. فتربيتهم متعبة إلى حد كبير وخصوصاً مع ابني المراهق الذي يبلغ من العمر 15 عاماً، والذي تعوّد على طريقة تعامل معينة مع والده الذي كان يلبّي جميع متطلباته".
وتضيف: "الآن عدت إلى العمل في المنزل بتكاليف بسيطة كي أغطي الديون التي خلّفتها لنا الحرب. لم أشعر يوماً في حياتي بصعوبة العيش كما أشعر بها الآن، إلا أنني مجبرة على المحاولة والاستمرار".
صورة من أعمال زهرة خشان (النهار)
أعباء ما بعد الحرب
يختلف تأثير الحرب بين النساء والرجال في مختلف النواحي، فالنساء خلالها يواصلن عملهن الجندري المعتاد المختص بالرعاية غير المدفوعة، تضاف إليها أدوار أخرى مثل إعالة الأسرة بشكل كامل عندما يغيب الرجل، بحسب الخبيرة
الاقتصادية عبير شبارو، التي تشرح لـ"النهار" عن الأدوار المستجدة للمرأة بعد الحرب: "تفاقمت مهماتها الرعائية في معظم الأحيان بسبب زيادة أعداد الجرحى وذوي الاحتياجات الخاصة من العائلة والاضطرار إلى تغيير مكان السكن، وما يترتب على ذلك كله من ضغوط، وخصوصاً عندما تضطر النساء إلى إعالة الأسرة اقتصادياً بالكامل".
وفي هذا السياق تذكر شبارو قصة "الطبيبة التي رفضت ترك المستشفى مع زوجها الطبيب أيضاً في النبطية، فأصرت على استكمال علاج المرضى، بل كان عليها استكمال تدريس أطفالها فأتت بهم إلى المستشفى تحت القصف والدمار من أجل تقديم الرعاية الكافية لهم، وثمة مديرة أيضاً في إحدى الشركات تركت عملها فاضطرت إلى العمل في الحياكة لتأمين قوت أطفالها".
وعن الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها المرأة خلال فترة النزاعات وبعدها، تلفت شبارو إلى غياب الموارد للنساء من أجل البدء من جديد، بسبب خسارة الممتلكات خلال الحرب وعدم حصول المرأة على الإرث مثلاً في بعض الأحيان، وهو ما يقلّل من فرص البدء بمشاريع كبيرة وعدم إمكانية إكمال المشاريع الصغيرة التي يكون رأسمالها ضعيفاً، وهو ما تسبّب بإقفال العديد من المشاريع.
نموذج عن مآس كثيرة
"رحيل أبو علي دمّرنا. تركنا وترك حملاً كبيراً"، تتحدث السيدة الجنوبية فاطمة شهاب بأسى عن تجربتها المؤلمة بعد خسارة زوجها في الحرب. وتقول: "استفقنا كعادتنا في الصباح الباكر، نزلنا إلى الأرض وقطفنا الباذنجان. حين عدنا إلى المنزل وجدنا إنذاراً من إسرائيل بإخلائه بسبب قربه من مراكز تابعة لحزب الله. في البداية لم نعر الأمر اعتباراً، وبعد وقت قصير ضربت غارة إسرائيلية مكاناً قريباً إلى منزلنا فاضطررنا إلى المغادرة، إلا أن زوجي أبو علي أبى أن يترك منزله وأرضه. استشهد في ضربة على منزلنا مباشرة. بعد وفاته وانتهاء الحرب عدت إلى العمل في الأرض وحدي بعدما كنت أتشارك المهمة معه، وهي تشمل الزراعة والري والحصاد، إلى الاهتمام اليومي وكل المهمات اللازمة".
تتنهّد أم علي بين حسرة وأخرى: "أصبحت المسؤولة الأولى عن الأرض بعد استشهاده. زرعت الأفوكا وأنوي زراعة كل أنواع الخضار بعد إعادة تأهيل إمدادات المياه، فالأرض تضرّرت كثيراً بسبب العدوان. سأعيدها كما كانت وأحسن وأعيد استثمارها بالكامل لأنها غالية جداً على أبو علي الذي استشهد بثياب العمل في الأرض".
وعلى رغم مأساتها والصعوبات التي تثقل كاهلها، لم تفقد أمّ علي حسّاً طريفاً يميّزها، وتقول مازحة "سأصير أنا أبو علي"، فمن الآن وصاعداً هي تكمل مسيرته: "أخذت دور الرجل والمرأة معاً، وهذا ما لا يتقبله المجتمع بتاتاً. ورغم ضغط أولادي الدائم لأرتاح في المنزل إلا أنني مصرة على الاستمرار في العمل".
فاطمة شهاب تعمل في أرضها في البازورية (النهار)
تحويل التحديات إلى فرص
رغم هذا المشهد المأسوي الذي يسيطر على البلاد بعد الحرب، تستطيع النساء تحويل هذه التحديات إلى فرص للصمود الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يؤكّده الباحث الاجتماعي الدكتور سعيد نجدي في حديث لـ"النهار": "يمكن الاعتماد على المبادرات الأهلية التي تشكّل شبكة دعم ضرورية، والتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني التي تساهم في تمكين النساء عبر برامج التدريب المهني واكتساب المهارات. كما يمكن الاستفادة من دعم المغتربين، الذين يلعبون دوراً حيوياً في الحفاظ على استقرار العديد من العائلات اقتصادياً. وكذلك تعدّ إعادة الاندماج في سوق العمل خياراً ضرورياً، رغم المصاعب المرتبطة بندرة الفرص، وذلك عبر الانخراط في مجالات جديدة مثل الحرف اليدوية، وريادة الأعمال الصغيرة، أو أي مهن تلبي احتياجات السوق".
وعن التضامن المجتمعي في الأزمات يعلّق نجدي أنه يسهم في إتاحة فرص أكبر للتواصل والاستفادة من المبادرات المحلية التي تدعم الاستقلال الاقتصادي: "أما العائلة، فلا ينبغي أن تظل مجرد مصدر للحماية، بل يجب تطوير أدوار جديدة داخلها، بحيث تصير مساحة لابتكار حلول للصمود الاقتصادي والاجتماعي".
العودة إلى الصفر
نسرين دلباني هي امرأة جنوبية أيضاً، كانت تعمل مع زوجها في محل لبيع الخضار، هو مصدر الدخل الوحيد للعائلة. وخلال الحرب حصل خلاف مع زوجها فتركها وذهب دون مقدمات، فبقيت إلى جانب أولادها محاولة إعادة بناء المحل الذي خسرته بأكمله في الحرب: "قدّرت خسارتنا بحوالى 9 آلاف دولار من الخضار والفاكهة والتجهيزات، لذلك عدت إلى العمل من الصفر، بمساعدة ابني الكبير، محاولة تعويض هذه الخسارة الكبيرة، دون دعم من أحد. لدي أربعة أولاد والمسؤولية كبيرة جداً على عاتقي، وعليّ العمل أكثر بكثير من السابق. الأمر أشبه بتأسيس منزل جديد والاهتمام بكل تفاصيله".
وتستفيض دلباني في شرح معاناتها لـ"النهار"، متحدثة عن المهمات التي باتت على عاتقها منذ انتهاء الحرب، وهي الزراعة لتأمين الخضار للمحل وبيعها والاهتمام بالأولاد، والعمل على زيادة الدخل من خلال صنع المونة البيتية والاستفادة من الخضار المتبقية، "الكوسى والملوخية والباذنجان"، كل هذا تبدأ به في الليل بعد العودة من المحل، وهدفها العودة إلى ما كانت عليه الحال في السابق وتحسين المستوى المادي للعائلة: "دمّرتني هذه الحرب، أتعبتني بشدة وأصبح الحمل كبيراً جداً، لكنني أعمل بلا توقف للنهوض وخصوصاَ أن الحرب أثرت على كثيرين، والبيع لم يعد كالسابق ولم نتلق أيّ مساعدات".
نسرين دلباني تعمل في محالها في بلدة البازورية (النهار)
دور المجتمع المدني
وعن دور الجمعيات المدنية في دعم النساء، يقول نجدي إنه "من الضروري أن تراعي المنظمات والجمعيات المدنية أهمية تقديم دعم شامل للنساء، ليس فقط عبر المساعدات المالية، ولكن أيضاً من خلال الرعاية النفسية والتدريب المهني، لضمان خروجهن من دائرة التبعية إلى فضاء الاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية". ويضيف: "بما أن العائلة تُعدّ الحصن الأساسي الذي يوفر الدعم العاطفي والمادي، فإن فقدانها قد يدفع بعض النساء إلى الوقوع في براثن الاستغلال والابتزاز، مما يجعل من الضروري العمل على توفير بيئات آمنة تتيح لهن فرصاً حقيقية للحياة الكريمة".
غيّرت الحرب الأخيرة على لبنان حياة كثيرين، إلا أن النساء كنّ من ضمن الفئات الأكثر تضرّراً، إذ فرضت الحرب أدواراً مستجدة لكثيرين منهنّ، ما أجبرهنّ على تحمّل مسؤوليات جديدة وسط ظروف صعبة، غير داعمة ولا مساعدة للنساء بشكل خاص.
ومن أجل دعم النساء وتمكينهن اقتصادياً، "يجب العمل ضمن خطط اقتصادية محدّدة تأخذ في الاعتبار الاحتياجات الخاصة للنساء، والتي نادراً ما يتم التطرق إليها بسبب عدم إشراك المرأة في صنع القرار. والمطلوب تطوير المهارات لمواكبة متطلبات العصر، إلى جانب العمل على تأمين موارد بديلة في حالات الطوارئ، وهي مسؤولية الدولة أولاً"، بحسب شبارو.
تم إعداد هذا التقرير في إطار مشروع "مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام" بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة -لبنان- والسفارة البريطانية في بيروت. إن محتوى هذا المقال لا يعكس بالضرورة وجهات نظر هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت. وتم نشر التقرير على موقع النهار.