Loading...

ملف الأبنية المتصدعة في طرابلس: خطر داهم وحلول مؤجلة

 

في قلب منطقة الزاهرية – طرابلس، يقف أبو محمد أمام محله العتيق الذي ورثه منذ أكثر من خمسين عاماً، لكن خوفه من دخول المكان بات يفوق حنينه إليه. يقول بقلق: "البناء في وضع خطير، القرميد يتساقط، والسقف متشقق بالكامل. نعلم أن المبنى مهدد بالانهيار، وأي سقوط إضافي قد يسبب كارثة". ويضيف أنه نجا بأعجوبة بعدما انهار جزء من السقف قبل أسابيع، لافتاً إلى أن دائرة الآثار حذرت السكان من أي تدخل، باعتبار المبنى موقعاً أثرياً خطراً في آن واحد، فيما لم يصدر أي تحرك رسمي فعلي منذ ذلك الحين.

 

 

هذه المخاوف تتردد أيضًا في شهادة خالد، صاحب محل تجاري في الزاهرية، الذي يروي معاناته بعد أن انهار المبنى الذي كان يملكه إثر زلزال 2023. يقول: "المبنى لم يكن أثريًا ولا تراثيًا، بل كان مصدر رزقي، انهار كليًا وتحول إلى ركام. في الحقيقة، المبنى كان متأثرًا منذ حرب جبل محسن–التبانة، ورغم أنه بُني عام 1935، ظل صامدًا. لكن الزلزال كان الضربة القاضية، ومع انهياره خسرت محلي وتجربتي وعملي". يتابع: "الأخطر أن غيري قد يتعرض للمأساة نفسها، لأن هناك عشرات الأبنية في المنطقة في وضع مشابه أو أسوأ، خاصة في شارع القديس جاورجيوس. نحن بحاجة إلى ترميم عاجل، فلم نعد قادرين على تحمّل سياسة الانتظار والتجاهل. لذلك أطالب البلدية ومديرية الآثار ووزير الثقافة بالتحرك قبل أن تقع الكارثة. الأبنية تتآكل مع مرور الزمن، وكل يوم يمر من دون إصلاح يقرّبنا من الخطر".

 

 

شهادات السكان تكشف صورة قاتمة لطرابلس حيث تتزايد الأبنية الآيلة للسقوط مع المحال السكنية والتجارية، في ظلّ غياب حلول سريعة وحاسمة. خلف هذا المشهد تتوارى أزمة عمرانية معقّدة، أساسها مبانٍ قديمة، قوانين متشابكة، وغياب التمويل.

 

أسباب التصدع: بين الحجر والباطون

المهندس باسم زودة، المتخصص في ترميم الآثار التاريخية وعضو مجلس بلدية طرابلس، يشرح لـ"مهارات نيوز" أن الأبنية الحجرية، المؤلفة من عناصر إنشائية معقدة، تتأثر بهبوط تربة المدينة، وبأعمال شق الطرقات، وبالتعديات التي تفرض طوابق إضافية على الأبنية الأثرية. أما الأبنية الباطونية فتنهار نتيجة عوامل أخرى أبرزها إضافة طوابق غير شرعية، استخدام البحص البحري الغني بالملوحة الذي يسرّع تآكل الحديد، وتسرب المياه إلى الأساسات، فضلًا عن تأثير الزلازل.

 

من جهته، يشير نقيب المهندسين في طرابلس والشمال شوقي فتفت في حديث لـ "مهارات نيوز"، إلى أن تقادم العمارة وسوء الصيانة وضعف البنى التحتية، إلى جانب قانون الإيجارات وعجز الدولة عن الترميم، كلها عوامل فاقمت الأزمة. ويضيف أن مؤسسة ليبنور شكّلت لجنة بالتعاون مع نقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس لتحديد كيفية التعامل مع الأبنية القديمة، وهو ملف يتم متابعته على المستوى الوطني.

 

مسوحات وأرقام مقلقة

رئيس بلدية طرابلس عبد الحميد كريمة يكشف لـ "مهارات نيوز" أن المسح الأخير سجّل أكثر من 600 مبنى متصدع في المدينة، وهو رقم ينذر بالخطر. حاليًا يجري العمل على استكمال المسح في الجزء الجنوبي من المدينة جنوب نهر أبو علي، فيما لا يزال الجزء الشمالي قيد المتابعة. وإن عملية التقييم تتم عبر شكاوى المواطنين أو عبر الكشف الميداني من قبل مهندسين مختصين، حيث يُحدد الخطر إما بالنظر أو بكشف هندسي معمّق. أما الأبنية التراثية فيجري مسحها بالتعاون بين وزارة الثقافة ونقابة المهندسين ومديرية الآثار، خصوصًا تلك المبنية قبل عام 1970 مثل الزاهرية والتبانة وباب الرمل.

 

التمويل والعقبات القانونية

يؤكد زودة أن التدخل لترميم هذه الأبنية يواجه عقبات مالية وقانونية كبيرة. فمعظم العقارات ملكيات خاصة مهملة من أصحابها المقيمين خارج لبنان، فيما يفرض القانون الحصول على رخصة من البلدية ومديرية الآثار قبل أي ترميم، وأي عمل من دون إذن يعرّض الورشة للتوقيف. في المقابل، تعاني البلدية من أزمة مالية وغياب خطط شاملة. ورغم ذلك، تعمل لجنة الآثار والتراث المصغّرة على إعداد خطط طويلة المدى لعرضها على المجلس البلدي.

 

وفي ظلّ ضعف الموارد، تعتمد مشاريع الترميم على التمويل الخارجي. من أبرز المشاريع الحالية ترميم "الحمام النوري" بتمويل من شركة Total Energies، إضافة إلى مبادرات مثل ترميم سوق الحراج وخان الخياطين بتمويل من البنك الدولي وسفارات أجنبية. كما يبرز مشروع "Chantier École" الذي يجمع التدريب المهني مع ترميم المباني الأثرية، حيث يشارك الأهالي في تعلّم الحرف التقليدية مقابل أجر، وهو نموذج أعاد الأمل لبعض المناطق بعد انفجار مرفأ بيروت.

 

طرابلس القديمة: قلب الخطر

تتفق البلدية ونقابة المهندسين على أن الأسواق والمناطق القديمة هي الأكثر عرضة للخطر، إذ لم تحظَ منذ عقود بأي دعم فعلي. ورغم وجود دراسات، يبقى الخطر قائمًا ما لم تتحول هذه الخطط إلى إجراءات ملموسة. وفي هذا السياق، يرى المهندس والأستاذ في كلية العمارة والفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية خالد عمر تدمري، أن استبدال الأبنية التراثية بأخرى من الباطون قد يكون مربحًا للمالكين لكنه يدمّر هوية المدينة ويقضي على إمكانيات استثمار تراثها. ويؤكد أن المسألة تحتاج إلى مقاربة قانونية واضحة، وإلى سياسات تحافظ على التراث العمراني وتوظّفه في التنمية بدل هدمه.