Loading...

محطة تكرير طرابلس شبه معطّلة... فيما صحة المواطن وبيئته بخطر!

 

اعتاد اللبناني رؤية الأوساخ التي تطفو على سطح مياه الأنهر بسبب تعطّل 72 محطة تكرير لمياه الصرف الصحي في البلاد، فيما بقيت 18 محطة فقط قيد التشغيل. محطة تكرير مياه الصرف الصحي في طرابلس واحدة من هذه المحطات، فهي شبه معطلة رغم أنها الأكبر في لبنان.
 
مرّ عقدان من الزمن على إنشاء هذه المحطة، ولكن مدينة طرابلس لا تزال في انتظار استكمال مشروع "شبكات مياه الصرف الصحي لحوض طرابلس الكبرى"، لعلّ خدمات الصرف الصحي تتحسّن في ثاني أكبر مدن لبنان وأفقرها.
 

 

نحو مليون شخص كان بإمكانهم الاستفادة من هذا المشروع لو استُكملت توصيلات محطة معالجة مياه الصرف الصحي، ما يسهم أيضاً بالحد من التلوّث المائي والهوائي في المنطقة، إلا أن الإهمال المتواصل حال دون تمكن الأهالي من الاستفادة من ذلك، خصوصاً أن محطة طرابلس تُعدّ أكبر وأضخم محطة في لبنان وواحدة من أكبر محطات التكرير ومن الأكثر تطوراً في منطقة حوض البحر المتوسط. كما أن هذه المحطة كانت مصمّمة لخدمة مدينة طرابلس ومناطق مجاورة عدة، منها الميناء والمنطقة الممتدة شمالاً حتى نهر البارد، ومنطقتي القلمون والكورة.
 


محطات التمويل والعمل على المشروع
 
بعد الحرب الأهلية وتحديداً في عام 1997، حصل لبنان على موافقة لبناء محطة تكرير طرابلس وإعادة تأهيل وتوسيع شبكة الصرف الصحي وإنشاء شبكة لتصريف مياه الأمطار لمنطقة طرابلس الكبرى بتمويل من البنك الأوروبي للاستثمار، بلغ نحو 100 مليون يورو، والهدف الأساسي منه تقليل المخاطر البيئية والتلوث في البحر الأبيض المتوسط.
 

 

بعد خمس سنوات، أي عام 2002، وقّع مجلس الإنماء والإعمار عقداً مع مجموعة suez بتكليف من مجلس الوزراء لإنشاء محطة معالجة المياه المبتذلة في طرابلس بقيمة 100 مليون يورو أيضاً، وتخدم مليون شخص بسعة معالجة تبلغ 135 ألف متر مكعب في اليوم، فبدأت عملية البناء بعد عام على هذا العقد، واستمرت حتى عام 2009.
 

 

لكن المحطة لم تدخل حيّز التنفيذ بالمرحلة التمهيدية إلا في عام 2014، وعادت وحصلت على قرض إضافي من البنك الأوروبي للاستثمار عام 2018 بقيمة نحو 92 مليون يورو، لإنشاء شبكات الصرف الصحي وتوصيلها إلى محطة معالجة الصرف الصحي القائمة.
إلا أن القرض ألغي في 2019 بعدما عصفت بالبلاد أزمة اقتصادية ومالية كبيرة، وأبقى البنك الأوروبي للاستثمار على منحة بقيمة 18 مليون يورو، وهي لا تزال متاحة.


 
أما اليوم، فالمحطة شبه معطّلة، وهي بالكاد تستقبل 45 ألف متر مكعب من المياه المبتذلة، بما لا يخوّلها حتى العمل بشكل متقدّم بالحد الأدنى أي 60 متراً مكعباً. السبب هو عدم استكمال التوصيلات في الشبكة ما يؤدي الى تحويل نسبة كبيرة من مياه الصرف الصحي إلى مجرى نهر أبو علي في طرابلس والبحر. فهل سيُستكمل العمل بالمحطة؟

 

 
استكمال عمل المحطة
 
نقلت "النهار" هذا السؤال إلى مجلس الإنماء والإعمار في كتاب حصول على المعلومات، استناداً إلى قانون حق الوصول إلى المعلومات بتاريخ 11 تموز 2024. لكن المجلس تخطى مهلة الـ15 يوماً التي ينص عليها القانون وفي 2 أيلول 2024 أي بعد شهر ونيّف من انقضاء المهلة، جاء الرد على الشكل الآتي:
"إن المحطة التي تبلغ تكلفتها 79 مليون يورو مصمّمة لتخدم مدينة طرابلس والميناء والمنطقة الممتدة شمالاً حتى نهر البارد ومنطقتي القلمون والكورة وإن إيصال المياه المبتذلة يتطلب تنفيذ عدة مئات الكيلومترات من الشبكات الجديدة بالإضافة الى تجميع المياه المبتذلة الناتجة عن الشبكات الموجودة والمنفذة من قبل البلديات وغيرها من المؤسسات العامة. وبالتالي فإن عمل محطة التكرير بكامل طاقتها مرهون بتنفيذ الشبكات التي تربطها بهذه المناطق والعمل جارٍ على هذا الأمر منذ سنوات عديدة نظراً إلى طول الشبكات اللازمة لهذه الغاية.
 

 

أما التسلسل الزمني للعمل بمشروع الصرف الصحّي لطرابلس وجوارها فهو التالي:
 
كلف مجلس الوزراء مجلس الإنماء والإعمار تنفيذ محطة التكرير والمصبّ البحري والنفق الرئيسي الذي يؤمّن تجميع المياه المبتذلة وإيصالها الى محطة التكرير وذلك بتمويل من البنك الأوروبي للتثمير ولم يترافق هذا الأمر بمتابعة وبخطة واضحة لاستكمال المشروع ووضعه في الخدمة وصيانته وتشغيله واستيفاء رسم للصرف الصحي لتأمين إدارة المشروع وذلك من قبل الإدارات المسؤولة عن هذا القطاع عملاً بقانون تنظيم مياه الصرف الصحّي.
 

وبناءً على ذلك ولمعالجة هذا الواقع، بادر مجلس الإنماء والإعمار إلى اقتراح تأمين التمويل اللازم لاستكمال شبكات المياه المبتذلة المؤدية إلى محطة طرابلس وتم نتيجة هذا الأمر تنفيذ المشاريع التالية: شبكات مياه مبتذلة داخلية في قسم مدينة طرابلس، خط الجر الرئيسي من منطقة نهر البارد لغاية طرابلس، شبكات الصرف الصحي في البداوي وفي التبانة، كما تم تنفيذ شبكات الصرف الصحي في منطقة الكورة ويجري حالياً وصل شبكات الكورة الى محطة التكرير بالإضافة إلى تنفيذ شبكات ومحطات ضخ منطقة القلمون ووصلها أيضاً الى محطة التكرير.
 

 

بالإضافة إلى ما تقدّم عمل مجلس الإنماء والإعمار على تأمين تمويل بقيمة تبلغ حوالي 88 مليون يورو من البنك الأوروبي للتثمير لاستكمال تنفيذ كافة الشبكات المؤدية إلى محطة التكرير إلا أن البنك ألغى أخيراً هذا التمويل بسبب الوضع الاقتصادي في لبنان.
وعند إنهاء تنفيذ مشروعي الكورة والقلمون يكون مجلس الإنماء والإعمار قد نفذ المشروعين المكلف بتنفيذهما من قبل مجلس الوزراء وبالتالي فإن على الإدارات والمؤسسات المسؤولة قانوناً عن قطاع الصرف الصحّي تأمين الاعتمادات اللازمة لاستكمال كافة الشبكات المؤدية الى محطة طرابلس أو تكليف مجلس الإنماء والإعمار إنجاز المهام المناطة قانوناً بهذه الإدارات والمؤسسات وتأمين التمويل واستكمال الأشغال".

 

أما عن المبلغ المقطوع لاستكمال العمل في المحطة، فجاء جواب مجلس الإنماء والإعمار: "إن الاشغال في محطة التكرير كاملة ولا حاجة لأموال لاستكمالها وإنما هي بحاجة لتأهيل بعض التجهيزات نتيجة مرور الزمن".

 

 

مؤسسة "مياه لبنان الشمالي": المسؤولية ما زالت عند مجلس الإنماء والإعمار
 
رمى مجلس الإنماء والإعمار الكرة في ملعب "الإدارات والمؤسسات المسؤولة قانوناً عن قطاع الصرف الصحي" لاستكمال عمل المحطة، ما يعني أن مؤسسة "مياه لبنان الشمالي" هي المسؤولة الأولى بنظره.
 
في السياق، لفت المدير العام لمؤسسة مياه لبنان الشمالي خالد بركات عبيد لـ"النهار" إلى أن محطة طرابلس لا تزال بعهدة مجلس الإنماء والإعمار والشركة الفرنسية Veolia المسؤولة بدورها عن تنفيذ المشروع. وقال إن مؤسسة "مياه لبنان الشمالي" تسلمت من مجلس الإنماء والإعمار محطات التكرير في سلعاتا وشكا ولكنها لم تتسلّم طرابلس كمنشأة بعد، بل تسلّمت فقط الخط المؤدّي إلى طرابلس الذي يأتي من مخيّم البداوي الى طرابلس.

 

واعتبر عبيد أن المحطة تحتاج الى عمل دؤوب ليتم تجهيزها خصوصاً أنها مهترئة ومتوقفة منذ عام 2010، مؤكداً أنه عند انتهاء مرحلة التجهيز، يمكن حينها لمؤسسة مياه لبنان الشمالي تسلّمها بمحضر تسلّم وتسليم.
أما رئيس اتحاد بلديات البداوي حسن غمراوي، فاعتبر أن الحكومة سلّمت مجلس الإنماء والإعمار كل عملية متعلّقة بهذا المشروع، والأخير لا يريد أحداً أن يتدخل ويراقب ما يحصل حتى البلديات.


 
وتابع أن "المشكلة سياسية كما حال كل شيء في هذا البلد، وبالتالي كل المشاريع تتوقف ولا تُستكمل".
ووصف غمراوي لـ"النهار" ما يحصل بعملية "تعتيم"، وطلب أن "تكون هناك رقابة على المحطة التي لا تعمل بتاتاً في بعض الأوقات".
بدورها، تساءلت د. ياسمين جبلي، أستاذة محاضرة في جامعة البلمند، عن خطة التنفيذ بأكملها، واعتبرت أنه عُمل على إنشاء المحطة بدل العمل على البنية التحتية، ما حال دون تمكن المحطة من العمل بسبب مشكلة التوصيلات في الشبكة.

 


 

المواطن ضحيّة التلوّث البيئي

من قرب الجامعة العربية في الميناء، تنطلق رائحة كريهة يشكو منها السكّان، خصوصاً بعد جرّ مياه الصرف الصحّي التابعة لزغرتا لتصبّ مباشرة في نهر "أبو علي" أي نهر قاديشا، الذي كان قبل نكسة الفيضان في الخمسينيات، مصدراً حيوياً لمياه الشفة ومساحة طبيعية للسباحة والاستجمام.

 

وتؤكد ناريمان الشمعة رئيسة جمعية التنمية المستدامة، في حديث لـ"النهار"، أن فاتورة التكلفة البيئية مرتفعة جداً، وأن التلوّث سينعكس مباشرة على المواطنين خصوصاً في طرابلس، لأن مياه الصرف الصحي تنجر من القلمون وشكا والكورة وزغرتا ومن المخيمات كما من بحنين والمنية ودير عمار، وكل ذلك من دون معالجة، ما أحدث تلوّثاً في البحر المتوسط وهذا التلوّث يخالف اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط، لأن التلوّث في البحر ينتشر إلى مواقع أخرى في لبنان وفي بلدان أخرى.

 

وترى الشمعة أن المسؤول عن هذه الكارثة البيئية هو مجلس الإنماء والإعمار لأنه المخطط والمشرف على التنفيذ والوسيط على التمويل وعلى العملية بأكملها. أما المسؤولية الأخرى فتقع على السياسيين ولا سيما في طرابلس الذين كان عليهم مراعاة مشاريع المدينة ومصالحها لمنع الضرر عن المنطقة، إذ "لا يكفي فقط التباكي على أوضاع طرابلس على كافة المستويات"، كما أن المشكلة الشاملة تكمن في غياب الإدارة السليمة لقطاع الصرف الصحي ككل، بحسب الشمعة.

 

أما مدير مختبر علوم البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية، د. جلال حلواني، فعدّد المراحل التي تمرّ بها معالجة المياه وهي 3: المعالجة التمهيدية، المعالجة الأولية أي المعالجة الفيزيوكيميائية، والمعالجة الثنائية أي البيولوجية.

 

ولفت لـ"النهار" إلى أن محطة طرابلس تعمل اليوم بالمرحلة التمهيدية بسبب عدم توصيل مياه الصرف الصحي إليها وتشغيلها، فيما تبقى الملوّثات الكيميائية والجرثومية، معتبراً أن المشكلة لن تُحلّ حتى 5 سنوات.

 

وتضم المحطات المنشآت التالية: محطة الرفع الأساسية، منشآت استقبال مياه الصهاريج، منشأة المعالجة التمهيدية، منشأة المعالجة الأولية، منشأة المعالجة الثانوية، منشأة معالجة البقايا والوحول الناتجة عن عملية التكرير، المصبّ البحري، مشغل صيانة التجهيزات والمبنى الإداري، وكلها منشآت لا تعمل باستثناء المعالجة التمهيدية التي تعالج الدهون والرمال والشوائب الصغيرة، فتبقى العملية مجرّد تنقية الصرف الصحي من المواد الصلبة فحسب.

 

وفي ما يخص الوباء، اعتبر حلواني أن منطقة مصب نهر "أبو علي" حيث توجد المحطة هي أكبر منطقة موبوءة بيئياً لأنها منطقة المصبّ التي كان من المفترض أن تكون من المواقع البيئية الجميلة والمهمة، إلى جانبها أيضاً مكبّاً للنفايات ومسلخاً.

 

أما عن المشاكل البيئية المتأثرة بسبب هذه المحطة، فيشير إلى ثلاث مشاكل:

أولًا، المشكلة البيئية المائية، خصوصاً في حال صيد الأسماك عند أول 500 متر من حدود الشاطئ، لأن هذه الأسماك تتغذى من ملوّثات المجارير وبالتالي تسبّب أمراضاً فتّاكة في حال تناولها.

ثانيًا، المشكلة التي يعاني منها الأفراد الذين يسبحون الى جانب المجرور ما يسبّب أمراضاً كارثية عند الأطفال وعند الأشخاص الذين يعانون من مشكلة في المناعة.

ثالثًا، مشكلة تلوّث الهواء والروائح خصوصاً إذا تمدّدت التيارات الهوائيّة ما يؤثر سلباً على جوّ المنطقة بأكملها.

 

أما مجلس الإنماء والإعمار، فجاء ردّه عن انعكاس تعطل محطة التكرير على الواقع البيئي، كالآتي: "إن الأعطال التي تطرأ عادة على تجهيزات المحطة لا تؤدّي الى توقف كامل لعملية التكرير وتُضخ المياه في المصب البحري الذي يصرف المياه على مسافة 1600 متر من الشاطئ وتُعالج هذه الأعطال ضمن عمليات الصيانة دون إيقاف تشغيل المنشآت. منذ وضع محطة التكرير في طرابلس في الخدمة في عام 2014 حتى تاريخه توقفت المحطة عن العمل كلياً مرة واحدة نتيجة انقطاع عام للتيار الكهربائي حصل بالتوازي مع عملية صيانة المولدات الكهربائية واستمرّ التوقف لساعات قليلة قبل معاودة عملية التكرير. في حال التوقف الكامل لمنشآت المحطة عن العمل يتم تصريف المياه عبر مخرج طوارئ يقع في القسم الأسفل من نهر أبو علي".

 

في النهاية، كلٌّ يرمي المسؤولية في ملعب الآخر، والنتيجة واحدة: محطة شبه معطلة، صحّة المواطن بخطر وبيئة متعطشة لثقافة الوعي. ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟

 

تم إعداد هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي نظمته مؤسسة مهارات حول "الإعلام والتغير المناخي والقضايا البيئية" بالتعاون مع مشروع خدمات الدعم الميداني في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان، والعراق) والمنفذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية. تم نشر هذا التقرير في موقع النهار.