كالأم التي تترحم على إبنها، تتحدث الحاجة الجنوبية نعيمة قطيش عن رزقها الذي أحرقته القذائف الفوسفورية الاسرائيلية منذ بداية المعارك جنوبًا. تحمد قطيش ربها على بقائها وعائلتها على قيد الحياة بعد تعرض منزلها في بلدة حولا الحدودية للقصف واضطرارها إلى النزوح منه، لكنها في الوقت عينه تبكي بحسرة جنى عمرها الذي تعوّل عليه كسبيل للعيش.
كانت قطيش تعتاش من زراعة القمح والزيتون والدخان إلى أن طالت الوحشية الإسرائيلية البساتين فحرمتها من قطاف 12 دنمًا من الدخان، وأتلفت الحرائق موسم القمح و 100 شجرة زيتون. بكلمات قليلة تختصر الحاجة واقعها بالقول “كلّ ما استطعت إخراجه من منزلي الذي تعرض للقصف هو هذا الصاج الذي أعوّل عليه لصناعة “الخبز المرقوق "لتأمين قوت عائلتي. هذه الحرب أعادتنا سنينًا إلى الوراء، وأحرقت قلوبنا على أرزاقنا وأبنائنا".
ليست حالة إبنة حولا إلاّ نموذجًا عن مئات العائلات التي قضى العدوان الاسرائيلي على مصدر رزقها. فمنذ بداية معركة طوفان الأقصى طالت القذائف الفوسفورية طول الشريط الممتد من بلدة الناقورة الساحلية حتى شبعا في القطاع الشرقي. على طول الخط فتكت الحرائق بالبيئة فالتهمت النيران المزروعات والأشجار وتركت بصمتها حتى على الثروة الحيوانية التي فقدت مصدر غذائها الأساسي أي النبات، وطالت حتى صحة السكان.
بالنتيجة بات أبناء الجنوب في مواجهة سلاح فتاك بالبيئة في كل جوانبها، علمًا أن إحصاء حجم أضراره النهائي لا يزال مبكرًا.
بالأرقام: الواقع الزراعي جنوبًا في خطر
استمرار المواجهات العسكرية على الحدود وتوسع رقعة الحرب الى مناطق كانت آمنة سابقًا يحولان دون وصول الخبراء إلى الأرضي الزراعية المتضررة لمسح الأضرار. لكن على الرغم من الصعوبات الأمنية، شكلت وزارة الزراعة منذ اليوم الأول للعدوان الاسرائيلي لجنة لإحصاء الأضرار استنادًا إلى معلومات فرق الإغاثة والجمعيات والبلديات والأهالي والدفاع المدني والصليب الأحمر. وعليه تقدم مصادر الوزارة أرقامًا حتى تاريخ 19 آب 2024 عن حجم الاضرار الزراعية جراء القصف الفوسفوري الاسرائيلي:
⦁ 1031 حريق واستهداف منذ 8 تشرين الأول 2023 حتى 19 آب 2024
⦁ 96 حريق في 26 تشرين الأول 2024 وحده
⦁ إحتراق أكثر من 3220 دنمًا من الأراضي بالكامل
⦁ تضرّر حوالى 7200 دنمًا من الأراضي الزراعية والحرشية
⦁ نفوق 400 ألف طائر وأكثر من 2300 رأس ماشية
⦁ استهداف أكثر من 24 مزرعة
⦁ تضرّر 370 قفير نحل بشكل كامل و 3000 قفير نحل بشكل جزئي
⦁ استهداف أكثر من 60 ألف شجرة زيتون
أمام هذه الأرقام يتبين أن واقع الثروة الزراعية وما قد تتركه من تداعيات اقتصادية صعب جدًا، مع احتمال تدحرجه نحو الأسوأ، وسط تعذّر التعويض على المزارعين طالما أن “الداتا” ليست نهائية.
فبعد مرور أكثر من عشرة أشهر لم تقدم الدولة أي تعويضات ومساعدات للمزارعين لعدم تمكنها من إحصاء الأضرار بسبب استمرار الحرب، على الرغم من إرسال وزارة الزراعة استمارات إلى المزارعين لتعبئتها بحسب رئيس بلدية الطيبة عباس دياب. والأكثر تضررًا في مثل هذه الحالات هي الفئات الضعيفة والمهمشة، وعائلة حسيب إبن كفرحمام الحدودية إحداها.
يخبر حسيب أنه أب لصبية من ذوي “متلازمة داون” والمعيل لعائلته، لكنّه وبنتيجة الحرب خسر موسم الزيتون والتين والصنوبر” الذي يشكل مورد رزقه وسبيله الوحيد لتأمين العلاجات لابنته. يروي الأخير أن أرضه لم تعد صالحة للزراعة نتيجة القصف المعادي، وأن عائلته لم تتلق حتى اليوم سوى مساعدتين بسيطتين من إحدى الجمعيات على الرغم من مرور أحد عشر شهرًا على بداية الحرب. حاله كحال عشرات العائلات التي باتت تعيش في قلق على رزقها ومصيرها.
الفسفور والمزروعات.. انقسام الآراء
يوازي الخطر الإقتصادي المترتب عن تلف المزروعات حينًا، وتعذّر الوصول إلى المحاصيل المتبقية حينًا آخر، خطر ثاني يتمثل بالخوف على نمو المحاصيل وجودتها مستقبلاً نتيجة احتراق المزروعات وامتصاصها للفوسفور. (ولو أن الآراء العلمية لم تحسم بعد مدى تأثير الفوسفور على نوعية المحاصيل على المدى البعيد).
في هذا الإطار تنقسم آراء الخبراء بين من يعتبر أن للفوسفور تداعيات قد تكون خطرة على النظام البيئي، وبين من يرى أن التربة قادرة على تجديد نفسها وبالتالي فإن آثاره ستكون محدودة.
فبحسب جمعية "الجنوبيون الخضر" يلوث الفوسفور، الذي يلقى على درجة حرارة تلامس الثمانمئة، التربة والمسطحات المائية ومجاري الجداول مما يجعل المناطق المتضررة غير مناسبة لعيش العديد من الكائنات فيها، كما يتسبب باختلال النظم البيئية. فضلا عن إضرار ترسبات الفوسفور بالنظام البيئي والأسماك والبرمائيات والأنواع المائية الأخرى وبمصدر غذائها. في المقابل، للخبيرة البيئية فيفي كلاب وجهة نظر مختلفة إذ ترى أن الأمطار قد تكون قادرة على غسل الفوسفور وأنه بإمكان التربة تحمل كميات معينة من هذه المادة وإعادة إحياء نفسها.
هنا يلتقي استاذ مادة الهندسة المستدامة في الجامعة اللبنانية المهندس شاكر نون مع كلاب بحيث يقول إن الفوسفور لا يؤثر على الإنتاجية الزراعية والاشجار، كما أن الأمطار قد تكون قادرة على غسله تبعًا للكمية التي تتلقاها التربة. في الإطار نفسه تصب دراسة أعدّتها القوة الإسبانية في اليونيفيل العاملة في جنوب لبنان، تجدون تفاصيلها مرفقة أدناه:
لكن بأي حال يجمع الخبراء البيئيون على أن تحديد الضرر الفعلي يتطلب دراسة وتقييمًا للتربة بعد أخذ عينات منها عند انتهاء الحرب. وعليه تقول جمعية “الجنوبيون الخضر” أن تحديد مدى الأضرار يتوقف على أمرين:
الأول: إحصاء حجم الدمار البيئي التي تسببت به الحرائق ونسبة وكثافة تركز مخلفات الفوسفور الأبيض في التربة والمياه.
الثاني: وضع خطط إعادة تأهيل للمواقع وهو ما يتطلب وقتًا طويلاً خاصة أن الأضرار لحقت بأحراش معمرة وتعويضها يتطلب جهدا ووقتًا.
وفيما لا يزال تأثير الفوسفور على المدى البعيد غير محسوم، تبدو أثاره الآنية على صحة الناس واضحة ومباشرة.
الفوسفور عدو لصحة الإنسان:
تتعدد الآثار الضارة للقذائف الفوسفورية على صحة الإنسان، ومنها المشاكل التنفسية الناتجة عن تنشق الدخان بعد احتكاك الفوسفور بالهواء، مما قد يؤدي إلى حروق في الأنسجة التي تغطي القصبة الهوائية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الآلام الرئوية قد تبدأ بعد 24 ساعة على تنشق الدخان ما يفترض البقاء تحت المراقبة طيلة هذه الفترة بعد التعرض للدخان.
أما دخول جزئيات الفوسفور إلى الجسم فقد تتسبب بحروق عميقة بعد ملامسة الفوسفور لجسد الإنسان بحسب الطبيب الجراح عمران فوعاني، هذا فضلا عن إحتمال تسبب هذه المادة بالوفاة إذا ما امتصها الجسم ووصلت إلى القلب والكبد والكلى.
هذه المادة السامة الحارقة التي لا ترحم لا بشر ولا حجر، تفتك كسواها من أدوات الحرب بالفئات الأقل قدرة على المقاومة ومن بين هؤلاء ذوي الإعاقة. فهؤلا يشكون غالبًا من ضعف في الأعضاء أو يعانون من مشاكل صحية وبالتالي فإن أجسادهم أضعف من سواهم على المقاومة خاصة إذا ما كانوا من مرضى الكلى والسكري والقلب، وبالتالي فإن التعامل معهم يحتاج إلى دقة أكبر إن كان لناحية الوقاية أو العلاج من آثار الفوسفور.
وعليه، أمام كل هذه التداعيات الاقتصادية والبيئية والصحية التي تنال بشكل مباشر من المدنيين، يبقى السؤال الأساسي: هل يشكل استخدام الفوسفور بشكله الحالي في جنوب لبنان، جريمة يعاقب عليها القانون الدولي؟
الفسفور الأبيض والقوانين الدولية
خلافاً لما هو متعارف عليه لا يشكل الفوسفور الأبيض مادة محظورة وإنما مقيّدة، يمكن استخدامها فقط ضد أهداف عسكرية لتعطيل أو لتقييد حركة "العدو". لكن بمعزل عن ذلك، قام العدو الاسرائيلي باستخدامها بشكل عشوائي ضد المقاتلين في الجنوب والمدنيين على حدٍ سواء، وأحرق معه الأخضر واليابس، خارقًا بذلك المواثيق والأعراف الدولية.
فصحيح أن القوانين الدولية والمواثيق لا تحظر صراحة استخدام الفوسفور، إلا أنه ونظرا لتشابه آثاره مع آثار أسلحة محظورة يمكن تطبيق بعض الاتفاقيات والقوانين الخاصة بهذه الأسلحة على حالات استخدامه، بحسب النقيب السابق للمحامين النائب ملحم خلف الذي يعدّد بعضها:
الاتفاقية الدولية للعام 1993 لحظر استخدام الأسلحة الكيماوية
⦁ المادة الأولى: تتعهد كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بألا تقوم تحت أي ظروف باستحداث أو إنتاج الأسلحة الكيميائية أو احتيازها بطريقة أخرى، أو الاحتفاظ بها، أو تخزينها أو نقل الأسلحة الكيميائية بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى أي كان.
⦁ المادة الثانية: التي تحظر أي مادة كيميائية يمكن من خلال مفعولها الكيميائي في العمليات الحيوية أن تحدث وفاة أو عجزًا مؤقتا أو أضرارًا دائمة للإنسان أو للحيوان، ويشمل ذلك جميع المواد الكيميائية.
البروتوكول الثالث للأسلحة التقليدية عام 1980
⦁ ينص على ان السلاح الحارق هو سلاح أو ذخيرة مصمم لإشعال النار في الأشياء أو للتسبب بالحروق بفعل اللهب أو الحرارة ولذلك يحظر البروتوكول استخدام الأسلحة الحارقة:
⦁ ضد المدنيين
⦁ عن طريق الجو
⦁ ضد الأهداف العسكرية وسط الكثافة السكانية
⦁ إحراق الغابة أو النباتات هي الهدف إلا إذا استخدمت لإخفاء المقاتلين أو أهداف عسكرية أخرى.
إذًا يفنّد النائب خلف هذه المواد القانونية ليؤكد أن ما ينطبق على الأسلحة الكيمياوية المحرمة يجب أن ينطبق على الفوسفور الأبيض، لأن الأخير حارق للنبات والإنسان ويستخدم اليوم في الجنوب ضد المدنيين وفي الأماكن المكتظة سكنيًا . وبالتالي فإن ما يخلفه هذا السلاح في الجنوب هو جريمة ضد الإنسانية. لكن في ظلّ تعذّر ردع اسرائيل عن مواصلة انتهاكاتها الحالية للقوانين الدولية والتي تتمثل بشكل أساسي باستخدام الفوسفور في المناطق المأهولة وفوق الأراضي الزراعية، لا بد من استخلاص العبر من بعض التجارب الغربية لمواجهة التلوث وإعادة إصلاح الأراضي بعد انتهاء الحرب في الجنوب.
كيفية مواجهة التلوث الناتج عن الحروب
تؤثر الحروب بشكل كبير على الطبيعة وتُدمر النظم البيئية، ويمكن مواجهة هذا التلوث عبر بعض الطرق مثل التشجير، وإزالة مخلفات الحرب كالألغام.
مثال على ذلك ما حصل في حرب أوكرانيا التي تسببت في دمار كبير للبنية التحتية، بما في ذلك المنشآت الصناعية، مما أدى إلى تلوث الأنهار والمياه الجوفية. وهناك جهود دولية كبيرة لإصلاح الأضرار, منها المكاتب التي أطلقتها الأمم المتحدة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والحكومة السويدية وتتخذ عدة خطوات ملموسة منها:
تقييم الأضرار البيئية: عبر إجراء دراسات ميدانية لتحديد مدى التلوث والأضرار التي لحقت بالتربة والمياه والهواء.
تنظيف المواقع الملوثة: من خلال إزالة المواد الكيميائية والنفطية المتسربة من المواقع المتضررة ومعالجتها بطرق آمنة.
إعادة تأهيل التربة: باستخدام تقنيات زراعية حديثة لتحسين جودة التربة المتضررة وجعلها صالحة للزراعة مرة أخرى.
إعادة بناء البنى التحتية: إصلاح وإعادة بناء المنشآت الصناعية والبنى التحتية المتضررة بطرق تضمن تقليل تأثير الحرب على البيئة.
التوعية والتدريب: تنظيم حملات توعية وتدريب للمجتمعات المحلية حول كيفية التعامل مع التلوث البيئي والحد من تأثيره.
التعاون الدولي: العمل مع منظمات دولية وخبراء بيئيين لتبادل المعرفة وأفضل الممارسات في مجال التعافي البيئي.
تم إعداد هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي نظمته مؤسسة مهارات حول "الإعلام والتغير المناخي والقضايا البيئية" بالتعاون مع مشروع خدمات الدعم الميداني في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان، والعراق) والمنفذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية. تم نشر هذا التقرير في موقع شبكة جبل عامل الإعلامية.