Loading...

ارتفاع الدولار يخنق التعليم: عامٌ دراسيّ كارثيّ في لبنان

 

يباغتنا الموسم الدراسي هذه السنة على عجلٍ، مجاريًا الخريف في اسقاطاته. فالملف التربوي لهذا العام ذبُلت أوراقه منذ أوّل بذوغه، إذ تهاوت معه القدرة الشرائية للأهالي ساحبة خلفها رُزمٌ من آمال الأطفال وأمانيهم. فمن يقنع ذلك الشقي الذي لطالما حلم بحقيبة "سبايدرمان" في يومه الدراسي الأوّل أنّ سعرها يوازي دخل والده، فيعدُل عنها؟ ومن يواسي تلك الطفلة التي لطالما تباهت بملصقات "ديزني" بعد كل إجابةٍ صحيحة أنّ التصفيق الحار هو أقصى ما قد تحظى به هذا العام، فترضى؟ على هذه الأيام أن تعتذر للجيل الجديد عن جلّ ما أفرزته لهم من خيبات.

أفرغت مفاعيل الأزمة الاقتصادية كيدها هذه المرّة على القطاع التربوي المشرذم الأحوال أصلًا منذ سنتين. فبعد أن فشل التعليم عن بُعد والتعليم المدمج في مواكبة أساسيات المنهج الدراسي، كانت العودة الى التعليم الحضوري قسرية لا بدّ منها، وهنا بيت القصيد! زُفّت هذه العودة على وقع ارتفاعاتٍ جنونية لأسعار الدولار مقابل الليرة المتخاذلة، فقفزت معها أسعار القرطاسية والكتب وتكاليف الدراسة والمواصلات والأقساط المدرسية. على الأثر، يذهب الطالب هذا العام الى مدرسته بحقيبةٍ شبه مفرغة لكنها ابتلعت جلّ ما في الجيب من نقود. إذًا، واقعٌ أزماتيٌّ جديد يرهق جيوب الأهالي المثقوبة أساسًا بفعل التدهور الاقتصادي الحاصل.

قرطاسية وأقساطٌ مدرسية: الأرقام ملغومة!

تقف هبة فوّاز أمام رفٍّ مخصصٍ للدفاتر في مكتبة قدموس في صور وبصرها يتنقل بين الأسعار بحثًا عن النوعية الأرخص. لن يلزمها شراء عدد كبير من الدفاتر لأبنائها الثلاث هذا العام، فدفاتر العام الماضي ما امتلئ من صفحاتها إلاّ القليل، لكنها لا تخفي دهشتها من الأسعار الجنونية للّوازم المدرسية. تمنّعت هبة من اصطحاب أبنائها معها الى المكتبة، قائلة: "إذا أصرّ ابني الصغير بدو شي ما رح اقدر ما جبلو ياه، وبنفس الوقت مش قدرتي". تكاد تكون المكتبة خالية من زائريها، ما خلا هبة وبعض الزائرين المستعجلين.

هذا الحال لم تعهده مكتبات المدينة التي لطالما كانت مكتظة بالناس في المواسم الدراسية. يتذمّر صاحب المكتبة أحمد سرور من هذا الواقع المرير، موضحًا أنّه لم يستطع شراء كميات كبيرة من المستلزمات الدراسية كما كل عام، فهو يدفع ثمنها بالدولار. أمّا عن الكتب المدرسية، يشكو سرور الأسعار الخيالية التي تطرحها دور النشر، فتضطر المكتبة الى شراء أغلبها حسب طلب الزبائن الذين يفضلون بمعظمهم شراء الكتب المستعملة، وأضافَ قائلًا: " أملك هذه المكتبة منذ زمن، وهذا هو أسوأ عام يمر عليّ بهذا الشكل".

في مكتبة أخرى، تعبّر سمر دمشقي، وهي أم لأربعة أولاد، عن استيائها من الغلاء الفاحش مشيرةً الى أنّ شراء الكتب والقرطاسية أصبح عبءٌ معيشيٌ إضافي. فأسعار الكتب والقرطاسية تحلق عالياً وكل مكتبة تسعّر الكتب وفق دولارها الخاص، وتشرح: بيطلع سعر الدولار بيطلعوا الأسعار بس إذا نزل بتضل الأسعار محلقة". يقاطع حديثها رجل أربعيني غاضب مؤكدًا أنه لم يستطع تأمين جميع لوازم أبنائه الدراسية هذا العام، فاشترى الحاجات الأساسية فحسب وبنوعياتٍ أرخص، ويلفت الى أن راتبه وراتب زوجته بات لا يكفي سعر رزمة من الأقلام والدفاتر.

تماشيًا مع سيناريو الغلاء، رفعت بعض المدارس الخاصة أقساطها، فنزح عدد كبير من الطلاب الى المدارس الرسمية. في هذا السياق، يوضح مدير مدرسة الليسه برومي عبد مرتضى أنّ زيادة الأقساط في مدرسته بنسبة مليون ليرة هي لتغطية ازدياد معاشات الموظفين والاساتذة، ويؤكّد أنّ هذه الزيادة في الأقساط لم تؤثر على عدد طلاب المدرسة وذلك نظرًا لأن المدارس الرسمية المجاورة غير مؤهلة لاستيعاب أعداد كبيرة من الطلاب. أمّا فيما يتعلق باللوازم المدرسية والقرطاسية، أمّنت مدرسة الليسه برومي بعض اللوازم الأساسية بعد تواصلها مع بعض الجمعيات، ويضيف مرتضى مؤكّدًا:" لم نجبر الطلاب على شراء أي شيء حتى الزي المدرسي، واكتفينا بطلب ما هو ضروري فحسب، على سبيل المثال قلم رصاص واحد بدل علبة كاملة".

زيادة غير قانونية

في بلدٍ تحكمه مجموعة كارتيلات، لا عجب في أن يتحكم "كارتيل المدارس" بالملف التربوي، شائحًا بصره عن قانونية أفعاله. ففي حديثٍ مع رئيسة اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة لمى الطويل، أكّدت الأخيرة أنّ الزيادات في الاقساط حالياً هي غير قانونية قبل اقرار الموازنة والمصادقة عليها من قبل اللجنة المالية في لجنة الأهل.  ولفتت الطويل الى أنّ العديد من المدارس تعمد الى التحايل وادراج بنود ومصاريف تحت مسميات شتّى وجميعها مخالفة للقانون. كما تلجأ هذه المدارس الى فرض دفعات بـ "الفريش" دولار أحياناً الزامية وأحياناً على شكل هبات التي من المفترض إدخالها ضمن الايرادات، حسب الاستشارة 2015/75 (التي تنص على إلزام المدارس احتساب المداخيل الخارجية غير الملحوظة في الموازنة  من ضمن إيراداتها) بالتالي ما ينعكس انخفاضًا في القسط المدرسي، وهذا ما لا يحصل.

توضح الطويل قائلة: " تتذرّع إدارات المدارس المخالفة بالوضع الاقتصادي الصعب والغلاء المعيشي، ضاربةً عرض الحائط بالقوانين، كيف لا وهي تجد من يبرر لها من قبل المعنيين، متغاضيةً عن الأرباح الهائلة التي جنتها هذه المدارس على مدى السنوات السابقة من جيوب الأهل".

وتعتبر الطويل أنّ أهالي الطلاب في المدارس الخاصة هم الأكثر تضررًا من الأزمة التعليمية الحالية نتيجة اهمال وزارة التربية لدعم القطاع الخاص واعتماد مبدأ الشفافية المالية والتدقيق من جهة، وتلكؤها في مسألة الحد من مخالفة بعض المدارس الخاصة لتطبيق القوانين من جهة أخرى.

البنزين يحاصر الملف التربوي أيضًا

عند كل مفترق أزمة، لا يأتي الغلاء وحيدًا، إنما يحشد خلفه قوافل من فواتيرٍ عالية الأرقام. فحتى كلفة المواصلات باتت شريكة أساسية في محاصرة الملف التربوي وتهديد مصير العام الدراسي. وبعد أن كان ثمن 20 ليتر من البنزين لا يتعدى ال32 ألف ليرة في العام المنصرم، تخطى ثمنها ال300 ألف ليرة هذا العام للكمية نفسها. إن فسّرنا ذلك في لغة الحساب، سيتّضح أنّ أسعار المحروقات تضاعف 9 مرات وأكثر وهذا رقمٌ  قابل للارتفاع. وفي مشهدٍ أقل ما يقال عنه المضحك المبكي، يلجأ عدد من الأهالي في إحدى القرى البقاعية الى نقل أبنائهم الى مدارسهم على الدّواب لعجزهم عن تأمين تكاليف النقل. لا تقف معضلة المواصلات عند كلفتها فحسب، فحتى مسألة توافرها لم تتخذ بعد منحًا مستقرًّا. يظهر ذلك جليًا في محافظة الجنوب، على عكس باقي المحافظات، حيث لا تزال أزمة شح المحروقات قائمة لأسبابٍ غير معلنة، ما يجعل فاتورة باص المدرسة هي الأعلى على صعيد لبنان. وبشهادةٍ من مدير مدرسة الليسيه برومي، لم تستطع المدرسة إيجاد أي حلّ بشأن النقل، فيضطر الاساتذة والموظفون وأهالي الطلاب أن يدفعوا ثمن النقل من جيوبهم. على الرغم من ذلك، تعتبر الطويل أنّ مسألة العودة الى التعليم عن بُعد هي شبه مستحيلة نظرًا لفشلها في العامين السابقين وافتقارنا لبنانيًا لمقوماتها.

وتوضح الطويل:" لقد طالبنا بتأمين محروقات مدعومة للنقل المدرسي لكن لا حياة لمن تنادي في دولةٍ مهترئةٍ تضع القطاع التربوي في أسفل أولوياتها". تجدر الإشارة الى أنّ الحد الأدنى للأجور في لبنان لا يزال 675 ألف ليرة، أي أقل من 35 دولارًا في الشهر، بينما كل السلع والمواد الأساسية باتت تجاري الدولار في ارتفاعاته، ما يخلق هوّة كبيرة في السوق بين المداخيل والمصاريف.

الأهالي يحتوون الأزمة

رغم سوداوية المشهد، إلّا أنّه لا يخلو من المبادرات الفاعلة التي من شأنها تخفيف وطأة الأزمة على الأهالي. فقد نوّهت الطويل الى مبادرات تبادل الكتب التي تجري في بعض المدارس الخاصة هذا العام بالتعاون مع لجان الأهل وبالتنسيق مع الإدارة. كما أجرت لجان الأهل العديد من التفاهمات مع الادارات المتعاونة في موضوع الزي المدرسي والكتب والقرطاسية. غير أنّ مسألة التعاون هذه بقيت نسبيةً تتخبّط بين مدارس متعاونة وأخرى عدم مراعية لظروف الأهل، إذ ترفض عدد من المدارس الخاصة تبادل الكتب وتصر على شراء الطلاب كتباً جديدة، ماضيةً في سياسة جني الأرباح. لم تقتصر عمليات تبادل الكتب المدرسية ضمن نطاق المدارس فحسب، بل لاقت هذه الخطوة رواجًا كبيراً بين أبناء المنطقة الواحدة وبتعاون بلدي وشبابي في أغلب الأحيان. كما نشطت بعض الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي لتبادل الكتب أو حتى بيعها بأسعارٍ مقبولة سعيًا من أولياء الأمور لتدارك الأزمة وبخاصة أنّ بعض الكتب المدرسية في المدارس الخاصة سعرها بالدولار الأميركي كونها مستوردة من الخارج.

 في بلدٍ غارقٍ بالعجز والأزمات، لا عجب في أن يشحد مواطنوه تعليمهم حتّى. وإن كان التعليم الخاص في مأزقٍ اليوم، فالتعليم الرسمي قد حُكم عليه مسبقًا بتخبّطٍ دائمٍ في وجه الأزمات. بإضرابٍ مفتوح، يناشد أساتذة التعليم المهني الرسمي رفع أجورهم أسوةً بزملائهم في التعليم الأساسي الذين ما تحصلوا على هذه الزيادة لولا هبة الUNICEF، إذ أنّ الدولة اللبنانية بمختلف وزاراتها باتت تتعاطى مع ملف الأزمات على مبدأ " من مال الله يا مقرضين"!  إذًا، الأساتذة كما الطلاب وذووهم، هم ضحايا المجاعة التربوية الحاصلة، ومصير الملف التربوي، كما غيره من ملفات، بات اليوم رهنٌ لما يقرضه صندوق النقد الدولي للبنان، وما تمنحه له المنظمات الدولية والدول المانحة.

*هذا الموضوع تم إنتاجه بدعم من برنامج “النساء في الأخبار” التابع للمنظمة العالمية للصحف وناشري الأنباء “وان-ايفرا”

TAG : ,ارتفاع الدولار ,عام دراسي ,لبنان