"من هالك لمالك لقباض الارواح"، يلخّص هذا القول الشعبي آلية اتخاذ القرارات المتعلقة بجائحة كوفيد-19 في لبنان. وفيما كانت تُرفع التوصيات من "اللجنة العلمية لمكافحة الأوبئة في وزارة الصحة" و"اللجنة الوطنية لكوفيد-19" و"اللجنة النيابية الصحية" و"لجنة كوفيد-19 الوزارية" و"لجنة متابعة التدابير والإجراءات الوقائية لفيروس كورونا" إلى مجلس الوزراء، يرفع الوباء من مستوى هجومه. ويحصد في طريقه المزيد من الأرواح، ويهدد حياة الآلاف. فهل أدّى تعدد اللجان إلى إدارة الأزمة الصحية بشكلٍ أفضل أو ساهم في تفاقمها؟ وهل من حوكمة واضحة وشفافة بين اللجان المعنية؟ وهل يمكن لخلاص لبنان من كوفيد-19 أن يكون قريباً؟
من لجنة إلى لجنة ضاعت الأزمة
اللجنة العلمية لمكافحة الأوبئة في وزارة الصحة، لم تُنشأ حديثًا، لكن تم تفعيل دورها عند وصول جائحة كورونا إلى لبنان. تضم اللجنة ممثلين عن وزارة الصحة العامة، أكاديميين من الجامعات الأميركية واللبنانية واليسوعية واللبنانية الأميركية، ممثلين من منظمة الصحة العالمية في لبنان وأطباء من مستشفى جبل لبنان ومستشفى رفيق الحريري الجامعي.
ترفع اللجنة توصياتها بناءً على دراسات وبيانات علمية بحتة، إلى اللجنة الوزارية لكوفيد-19، التي أنشأها رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب. تضم هذه اللجنة الوزارات المعنية مباشرةً بقرارات الإقفال وهي وزارة التربية والتعليم العالي، وزارة الداخلية والبلديات، وزارة الأشغال العامة والنقل ووزارة الشؤون الاجتماعية والسياحة.
بدورها، ترفع اللجنة الوزارية توصيات اللجنة الوطنية لكوفيد-19 التي تضم كلاً من مستشارة الصحة العامة في الحكومة اللبنانية د. بترا خوري، ممثلة عن منظمة الصحة العالمية في لبنان د. أليسار راضي، ممثل مستشفى القديس جاورجيوس (الروم) د. عيد عازار، ورئيس مطار رفيق الحريري الدولي فادي الحسن.
وتَضم اللجنة الوطنية إلى توصياتها، توصيات لجنة متابعة التدابير والإجراءات الوقائية لفيروس كورونا. وتتألف الأخيرة من الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع اللواء محمد الأسمر، ممثلين من وحدة إدارة الكوارث، قوى الأمن الداخلي، الصليب الأحمر اللبناني، وزارة الزراعة، وزارة التربية والتعليم العالي، وزارة الخارجية والمغتربين، وزارة الصحة العامة، وزارة الأشغال العام والنقل، وزارة الشؤون الاجتماعية والسياحة ومستشفى رفيق الحريري الجامعي.
تقدّم اللجنة الوزارية لكوفيد-19 كل التوصيات التي جمعتها من اللجان الثلاث، إلى مجلس الوزراء. ولكن على ما يبدو، فإن هذه التوصيات ليست كافية لوحدها. لهذا، تتقدم اللجنة الصحية النيابية، المؤلفة من رئيس اللجنة النائب عاصم عراجي، النائب علي المقداد، النائب فادي علامة والنائب عناية عز الدين بتوصيات إلى مجلس النواب الذي يرفعها بدوره إلى مجلس الوزراء.
يدرس مجلس الوزراء التوصيات، ممزوجةً بتوصيات رئيس الجمهورية عبر المجلس الأعلى للدفاع، ليتم بتّ القرار النهائي بما يخص الإقفال والتدابير العامة المتعلّقة بكوفيد-19.
استجابة بلا فعالية
تعدد اللجان واللامركزية في اتخاذ القرارات المتعلقة بكوفيد-19، دفع أخصائية الصحة العامة والمتخصصة بتتبّع وتحليل البيانات المتعلّقة بالوباء في لبنان ساره شانغ، إلى رسم خريطة الاستجابة في لبنان لكوفيد-19 وآليات اتخاذ القرار، التي أظهرت مدى تعقيد هذه العملية بسبب تعدّد اللجان.
وتقول شانغ لـ"مهارات نيوز" إنّ "بعض اللجان المدرجة في المخطط تتسم بشفافية كبيرة في ما يتعلق بعضويتها وعملها، بينما يقدم البعض الآخر معلومات قليلة جدًا، وما هو مقلق بشكل خاص إذا كان لديها سلطة كبيرة في اتخاذ القرارات". وتتابع "بسبب تعدّد الجهات، قد يكون توفير المزيد من الشفافية حول أعضاء هذه اللجان، دورها ومسؤولياتها وكيفية اتخاذ القرارات خطوة قيّمة في إعادة بناء الثقة مع الجمهور".
ومن حسنات هذه الآلية، وفق شانغ، تعزيز المسؤولية المشتركة وإشراك وجهات نظر متنوعة ومجموعات ذات مهارات وخبرات متعددة. ولكن تعدّد من سيئاتها: عدم وضوح الأدوار والمسؤوليات، عمل اللجان بشكل مستقل عن بعضها البعض بدلًا من التشارك، عدا عن المسار الطويل الذي يجعل اتخاذ القرار بشكل سريع- وهو أمر مطلوب غالبًا أثناء الاستجابة للأزمات - أمرًا دونه تحديات.
نتيجةً لذلك، لا تؤخذ كافة التوصيات التي يتم رفعها بعين الاعتبار، وأهمها تلك الصادرة عن وزارة الصحة، وهو ما تؤكده مديرة الصحة الإلكترونية في وزارة الصحة لينا أبو مراد بقولها لـ"مهارات نيوز": "لو تم الأخذ أكثر بتوصيات اللجنة العلمية التابعة لوزارة الصحة، لكان الوضع على الأرجح أفضل مما هو عليه راهناً".
ولا تتقاطع الاعتبارات والمعايير المعتمدة من اللجنة الوزارية مع المعايير المعتمدة من اللجان الأخرى. وتشرح أبو مراد "تجتمع في إطار اللجنة الوزارية قطاعات اقتصادية وليس فقط صحية. لذلك لا يكون معيارها الصحة في معظم الأوقات، بل تكون الأفضلية للاقتصاد والسياحة". وتضيف "لا شك أن الوضع الاقتصادي صعب على الجميع، ولكن بلا صحة لا اقتصاد، ولم تؤمن الدولة البديل للمواطن ولم تعوض عليه لتحفيزه على الالتزام، بل راهنت على الصحة من أجل الاقتصاد".
قامت اللجنة الوزارية بهذه المفاضلة خلال فترة الأعياد في نهاية عام 2020، وتغاضت عن كل التوصيات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية ولجنة وزارة الصحة. وسمحت لقطاع السياحة والسهر بتشريع أبوابه بقدرة 50%، على الرغم من إعلان وزير الصحة آنذاك ولجنة الصحة النيابية رفضهما هذا القرار، مؤكدين أن الوضع سيكون كارثياَ ما بعد الأعياد. ولا يسع أبو مراد سوى القول "الآن لم يعد ينفع الندم، لقد تأخرنا كثيرًا"..
الاعتبارات السياسية أولاً
يعتبر المختص بالسياسات الصحية وعلم الأوبئة ومؤسس مبادرة "Zero Covid" في لبنان الدكتور جاد خليفة أنه من الضروري أن يكون هناك فريقٌ واحد يمسك بزمام الأمور ويدير أزمة كوفيد-19 بالاعتماد على استراتيجية "صفر كوفيد".
ويوضح "عندما تتوفّر شفافية واستراتيجية واضحة يعمل على أساسها رأس الهرم، كما جرى في دول عدة بينها نيوزيلندا، الصين، أستراليا، تايلاند، فيتنام ومنغوليا استطاعت خفض الإصابات للوصول إلى صفر إصابة، يبقى الوباء، مهما انتشر، محدودًا بشكل كبير وبأرقام ضئيلة".
ولجأت بعض الدول، وفق ما يوضح خليفة، على غرار كوريا الجنوبية، إلى لجانٍ متخصصة. وتمكنت من مواجهة كورونا بشكل كبير، ولكن ما يميزها عن السيناريو اللبناني أنها اتبعت استراتيجية وطنية مبنية على مبدأ "صفر كوفيد"، ما جعل هامش الفشل محدودًا جدًا.
ويشرح "حاولنا كثيرًا منذ سنة تقريبًا، أي ما قبل انطلاق مبادرة "Zero Covid" التواصل مع عدد من المسؤولين وأرسلنا لهم العديد من المعلومات. تجاوب قسم منهم معنا واقتنع، لكن القسم الأكبر لم يوافق لاعتباراتٍ سياسية".
متى "صفر كوفيد"؟