Loading...

ثمن الحياد في بلد مضطرب

 

تقدم هذه المقالة رأي متحسّس جندرياً لأصوات منبثقة من النسيج الإجتماعي اللبناني والتي لطالما دعت إلى حقّها في أن تُرى، أن تُسمع وأن يُعترف بوجودها. الكاتبة ليست محايدة ولم تتجنب الكتابة عن النزاعات. الأصوات التقاطعية في هذه المقالة هي جزء من حركة مستمرة مثل لوحة فنية نحاول الجمع فيها بين مختلف الخطوط، الألوان، الأصوات، الحياة اليومية وتحديد كلّ صورها لنرسم "اللوحة اللبنانية" على فرادتها. هذه الأصوات هي واقعية، سياسية وشخصية في آن.

لطالما شكّل التنوّع والهويات نسيجاً اجتماعياً لبنانياً مختلفاً يدعو للفخر والقوّة في آن.

"التقاطعيات الأكثر شيوعًا في لبنان هي الدينية والمذهبية، الموقع الجغرافي، الطبقة الإجتماعية، النوع الإجتماعي والإثنية. تشمل التقاطعيات الأخرى والتي تعتبر من التابوهات التوجه الجنسي، الهويّة، الأشخاص ذوي الإعاقة والعرق".

وبالتالي قد نميل أحيانًا إلى تجاهل جوانب مختلفة من هويتنا في محاولة لتجنب الصراع أو الأزمة، ما يؤدي إلى ترك مواضيع هامة وراءنا عبر تجاهلها أو عدم التعامل معها بشكل صحيح. هذا الواقع ليس بالضرورة طريقة فعالة لتعزيز التماسك الإجتماعي لأنه يمكن أن يؤدي إلى تقويض أهمية الهوية في الحركات الإجتماعية، وتجاهل عناصر مهمة عندما يتعلق الأمر بالتشريعات والخدمات والاستجابة في حالات الطوارئ. في نهاية المطاف، يقع تأثير كلّ ذلك على الحياة اليومية للناس في هوياتهم التقاطعية.

عندما نتحدث عن التقاطعية كمقاربة نستعين بها كأداة أو كنهجٍ لمساعدتنا على فهم كيف يمكن أن تتراكم طبقات الهويّات المختلفة لخلق تحديّات أكبر (مثال: التمييز والتهميش) أو فرص أكبر (بناء التحالفات والوصول إلى مجموعات الدعم) لنا كأفراد. في هذه المقاربة يأتي مفهوم التقاطعية ليساعدنا على معرفة كيف تتداخل جوانب مختلفة من الهوية الفردية ضمن عملنا الجماعي كما تفاعلنا الإجتماعي.

فلنبحث في تأثير حدثين تاريخيين حديثي العهد في لبنان، 17 تشرين الأول 2019 و4 آب 2020، على النسيج الاجتماعي اللبناني حيث تظهر وتتقاطع وجهات نظر يجدر بنا أخذها بعين الإعتبار.

"لن يصبح إحترام حقوقنا وتحسين نوعية خدماتنا ممكناً سوى بالتغيير الهيكلي"

عكست التغطية الإعلامية لإنتفاضة 17تشرين الأول 2019 (والبعض يسميها ثورة) وحدة اللوحة اللبنانية التي قهرت الخوف وتغلبت عليه وهزمت سياسات الهوية عبر شعار "كلن يعني كلن" (كتصريح رافض لكلّ أحزاب الطبقة الحاكمة بلا استثناء). إمتلأت الساحات عبر مظاهرات ضخمة، تجمعات جماهرية وقاعات دراسة في الهواء الطلق في كلّ البلاد من الشمال إلى الجنوب وعلى مدى عدة أشهر. كانت دعوة الناس في الشارع إلى معركة لتنفيذ الإصلاحات ومواجهة الفساد خاصّة تلك العابرة لما يسمى الخطوط الطائفية/المذهبية. هذه الطريق التي لم تسلك سوى قليلاّ كانت نسوية، ثوريّة، معززة للعدالة الإجتماعية للجميع دون استثناء. أضعف هذا الخطاب الجماهيري المنادي بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية العاجلة الحجج الطائفية/المذهبية الراسخة في خطاب المجموعة الحاكمة. لكن وبالرغم من ذلك بقي الخطاب الجماهيري محايداً تجاه العديد من أشكال الهويات الأخرى والتي أصبحت أكثر من واضحة في العام التالي.

"نحن بحاجة إلى رؤية التنوع على أنه جغرافي، إثني، عرقي، جندري ، ديني، قائم على العمر، ذوي الإعاقات، كما الحال الإجتماعي-الاقتصادي".

في 4 آب 2020: ثوانٍ قليلة غيرت معالم العاصمة اللبنانية بيروت. دُمرت منطقة المرفأ والأحياء المحيطة بالكامل، ومنها مناطق مكتظّة سكنياً في المدينة، من جراء انفجار قارب حجمه نحو 1500 طن من مادة الـ"تي إن تي" وتسبّب بقتل أكثر من 250 شخصاً، إصابة حوالي 7500 وتشّرد 300 ألف شخص. ذكرت تقارير إعلامية آنذاك أن الناس شعروا بالإنفجار في كلٍّ من سوريا وفلسطين، ووصلت بعض الإرتدادات إلى قبرص وتركيا. ومع ذلك بدا أن حجم هذا الانفجار لم يكن قوياً بما فيه الكفاية لإختراق الحواجز "العازلة للصوت" المحيطة بـ"أسياد" السلطة اللبنانية والذين يشار إليهم شعبياً بإسم "السلطة".

"نحن مثقلون تماماً من هذه الحالة، نحن نسعى فقط للبقاء على قيد الحياة. من الصعب التركيز على قضايا أخرى غير قضايانا الخاصة في هذه الاجواء".ولنعود قليلا لملاحظة الشعار الثوري خلال انتفاضة 17 تشرين الأول "كلن يعني كلن" لم تزودنا فكرة شمولية الشعار بالمفاهيم التقاطعية الضرورية لتأسيس تحالف متنوع قادر على المواجهة لدى حدوث الكارثة في صيف 2020.

بالتغاضي عن الخلافات والإختلافات التي تحكم علاقة المجموعة الحاكمة كما المصالح المتضاربة والمتأصلة في الثقافة الشعبية اللبنانية، تمكّنت "السلطة" الفاسدة من التعافى بسهولة من هذه الكارثة المأساوية. وها نحن بعد عام على انفجار المرفأ حيث تبدو البلاد أكثر انقسامًا من ذي قبل بين العاصمة والأطراف، بين من يملكون قوّة، من يملكون عملة نقدية (يشار إليها بالفريش دولار) ومن يعيشون على الهامش الإجتماعي؛ اليوم أكثر من ذي قبل تبدو وعود "الثورة" في 17 تشرين أبعد من الناس ومن القدرة على التطبيق.

في فيلم وثائقي صدر في العام 2004 بعنوان "هاوارد زين: لا يمكنك أن تكون محايدًا في قطار متحرك" يقول زين التالي: "التاريخ مهم. وإن كنت لا تعرف التاريخ سيبدو الأمر كما لو كنت قد ولدت بالأمس. وإذا كنت قد ولدت بالأمس يمكن لأيّ شخص في موقع قوّة أن يخبرك بأيّ شيء ولن يكون لديك وسيلة للتحقق من ذلك". يبدو أن تشبيه قطار التاريخ لدى زين يتحدث بشكل مباشر عن الشعور المستمر بالضيق في لبنان. فضح انفجار مرفأ بيروت تشكيلة الهياكل السلطوية وانتهاكات "السلطة" المستمرة. وأظهر لنا الإنفجار كيف أن هؤلاء "السلطة" هم أسياد الكارثة وأربابها. نساء، رجال، أطفال، كبار السن، ذو الإعاقة، العاملات والعمال الأجانب، اللاجئات واللاجئين كما المقيمات والمقيمين ... تُركنا جميعاً على قارعة الطريق. هل ما زال بإمكاننا أن نكون محايدين في ضوء ظروف أليمة مماثلة؟ "سيكون الأمر صعبًا، لكننا بحاجة إلى العمل على بناء المهارات اللازمة للتضامن الحقيقي، التراضي وقبول الآخرين".

سلطت مأساة 4 أب 2020 والكوارث التي نتجت عنها، الضوء على مخاطر محاولة التسلح بالحياد وأن نصبح مجرد مراقبات ومراقبين عادلين بعيداً عن أزمة الهويات اللبنانية المتعددة في هذه الأيام.

لا يمكننا نسيان خصائص نسيج المجتمع اللبناني حين حبكه حائك عبر خيوط كثيرة سميت طوائف، لكن هذه الطوائف ليست فقط الصور المعممة تقليدياً في مشاهد التعايش والمواطنة بل تشمل الإحتياجات المتعلقة بحقّ التعليم، الرعاية الصحيّة، التنقل، حقّ السكن والوظيفة، فضلاً عن الحصول الآمن وبكلفة غير باهظة للمياه، للطاقة ولإدارة النفايات؛ كلّ هذه التقاطعات على شاكلة فسيفساء فنية هي هوياتنا المختلفة وربما المتباينة في بعض الأحيان.

"لدينا بالفعل قائدات من مجموعات نسائية، منظمات ويملكن قدرات ومهارات مختلفة، أفراد من مجتمع الميم وأشخاص من عدة خلفيات اثنية وعرقية يعملون معًا. نحن بحاجة للمضي قدماً بكلّ ذلك".

فلنتذكر من نحن في لبنان: نساء ورجال، أشخاص ذوي إعاقة وآخرون دونها ظاهرياً، نحن من توجهات جنسية مختلفة، نحن أغنياء ونحن فقراء، نحن عاملات وعمال الياقات الزرقاء والبيضاء، نحن لاجئات/لاجئين، مهاجرات/مهاجرين ومواطنات/مواطنين في هذا البلد. نحن مختلفون في نواح كثيرة ولكننا لسنا بعيدين عن الواقع والحقيقة.

دفعت التقاطعية في كافة أنحاء العالم نحو تطوير الخطاب المتعلق بالنوع الإجتماعي إلى مستوى أعلى ليشمل قضايا الفقر، ذوي الإعاقات، التوجه الجنسي وغيرها من الأمور الحاسمة التي غالباً ما كانت ناقصة التمثيل - أو حتّى خاضعة للرقابة.

"تظهر الأزمة السياسية والاقتصادية اليوم التقاطعات داخل المجتمع اللبناني. لكن ما يوحدنا يفرقنا أيضًا - على الرغم من أننا نتشارك الأرض غير أن معتقدات تفرقنا. لهذا السبب عملنا كمنظمات مجتمع مدني أكثر أهمية الآن من أيّ وقت مضى".

لم يزل الواقع لحينه في لبنان بعيد بعض الشيء؛ هذا المفهوم هو تحدٍ للعمل بجهد أكبر لكنه أيضاً بصيص أمل عبر تحالف تقاطعي مبني على الحقوق. من خلال البناء على تجاربنا الخاصة ومع قوّة الإندماج والتنوع سيصبح طريق النضال من أجل حقوق النساء، الرجال، الشباب والأشخاص ذوي الإعاقة، اللاجئات/اللاجئين، مجتمع الميم كما العمالة الأجنبية مهيئاً، لنتمكن من هزيمة ذلك "الحياد الطائفي/المذهبي" المشرذم فلنركز إذاً على الإحتياجات. علينا العمل ضمن حركة هادفة وشمولية لإشراك الأشخاص في فعل القيادة ومسار صناعة القرار، في التخطيط، التنفيذ والعمل معاً من أجل تحقيق آثر يتجاوز مجموعاتنا، منظماتنا وهوياتنا الفردية.

"لا يمكننا مساعدة المجتمع الأهلي إلا من خلال زيادة الوعي، التعليم والتعلم كما تقوية الشعور الجماعي بالمسؤوليّة"

ستمكننا تحالفات مبنية على صلابة صخرة التقاطعية من التغلب على الإنحيازات والأفكار النمطية القائلة بأن المساواة والتنوع لا يلتقيان. من خلال التعرف على اختلافاتنا وفي بعض الأحيان المصالح المتناقضة قد يتمكن تحالف تقاطعي من أن يخترق في النهاية حاجز الصوت الذي يعزلنا عن مجموعة تحالف "السلطة".

 


ربى الحلو، محاضرة وباحثة مشاركة في وحدة دراسات النوع الإجتماعي، التواصل، التنقل والحركة العالمية في كليّة الحقوق والعلوم السياسية في جامعة سيدة اللويزة.

قبل صياغة هذه المقالة، يسرّت الحلو حلقة نقاش تفاعلية حول المناصرة التقاطعية شارك فيها مجموعة من الناشطات والناشطين وممثلات كما ممثلين من ثماني عشرة منظمة ساهموا جميعاً في تبادل خبرات شخصية ومهنية بحضور كلّ من قادة المشروع منظمة أبعاد ABAAD والإتّحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً LUPD بالإضافة إلى الشبكة العربية لديموقراطية الإنتخابات ANDE، درب الوفاء، جمعية الإنماء والتجدد DRA، منظمة في-مايل، منظمة "عدل بلا حدود" الحقوقيّة، الجمعية اللبنانية للمناصرة الذاتيّة LASA، مركز التعلم للصم LCD، الجمعية اللبنانية لتثلث الصبغية 21، الإتّحاد اللبناني للصم LFD، مركز عدل، جمعية المرأة الخيريّة PWHO، حقوق الركاب، جمعية العناية الصحيّة SIDC، نقابة الإختصاصيين في العمل الإجتماعي في لبنان و جمعية الحياة الإيجابية. هذه المنظمات هي جزء من "المسار التحالفي: القوّة في الشمولية والتنوع" وهو تجمع شمولي لمنظمات المجتمع المدني اللبنانية بدعم من المؤسّسة الدوليّة للأنظمة الإنتخابية IFES.

 

TAG : ,صحافة التنوع ,مجتمع مدني ,النوع الإجتماعي