لم تخلُ لقاءات المسؤولين اللبنانيين مع ممثلي المجتمع الدولي للانطلاق في مسارالاصلاح في البلاد، من التأكيد على ثلاثية إصلاحية، تتمثل بإصلاح قطاع الكهرباء، وإقرار قانون السلطة القضائية المستقلة وإقرار "قانون الشراء العام"، وهو القانون الذي يُراد منه وضع حدّ لـ"الفوضى" في المناقصات والمشتريات.
فالخلل في منظومة الشراء العام، وغياب الشفافيّة والرقابة، فضلاً عن صيغة "التراضي" التي اعتمدت في قسم كبير من القطاعات، رفع الأصوات المطالبة بمعايير واضحة ودفاتر شروط منظّمة وعلنيّة المناقصات والمنافسة المشروعة والمساءلة وتعزيز دور إدارة المناقصات بعيداً عن المحسوبيّات والصفقات المشبوهة.
وما كان هذا الملف ليُفتح، لولا الهدر وشبهات الفساد التي شابت منظومة الشراء والتلزيمات، وما تردد عن صفقات تحيط بها، وضعت لبنان في المرتبة 137 من أصل 180 بلداً على مؤشر مدركات الفساد للعام 2019، على اعتبار أنّ57% من المعاملات الحكومية المعرّضة للفساد مرتبطة بالشراء العام بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2014).
وقانون "الشراءالعام" الذي تدرسه اللجان الفرعية في البرلمان اللبناني، هو قانون ينظم كل ما تشتريه الدولة اللبنانية والقطاع العام بكل مؤسساته من وزارات ومجالس بلديات. هو "قانون عام"، يُنظر اليه على انه "مهمجدا"وبأنه "اصبح اكثر من ضروري". وتنطلق أهميته من أن هناك "فوضى كبيرة في موضوع المناقصات والمشتريات"، وبإقراره يمضي لبنان على خط عريض للحد من الفساد، ويتصدى لكل الثغرات التي ساعدت على وجود الفساد.
وتقر السلطات اللبنانية والمنظمات الدولية بأن هناك خللاً في منظومة الشراء العام في لبنان، إذ نصّت البيانات الوزاريّة المتعاقبة والخطة الاصلاحيّة الأخيرة(2020) على ضرورة تحديث وإصلاح عمليّة الشراء العام وتمّ تكليف لجنة نيابيّة فرعيّة لدراسة اقتراح قانون شراء عام عصريّ برئاسة النائب ياسين جابر الذي اعتبر أنّ "هذا القانون سيتصدى لكل الثغرات الكبيرة التي ساعدت على وجود الفساد".
الّا أنّ جابر، وفي مقابلة مع "مهارات نيوز"، رأى أنّ"الأهم من تشريع القانون وإقراره هو أن تلتزم السلطة التنفيذيّة بتطبيقه"، فـ"العبرة بالتنفيذ" مضيفاً أنّ اللجنة ستنتهي من العمل به بعد حوالي شهرين ونصف.
عمليّة الشراء العام:
الشراء العام هو عمليّة شراء الحكومات والمؤسسات المملوكة للدولة للسلع والخدمات والأعمال. ونظرًا لأن المشتريات العامة تمثل جزءًا كبيرًا من أموال دافعي الضرائب، فمن المتوقع أن تنفذها الحكومات بكفاءة ومعايير عالية من أجل ضمان جودة عالية في تقديم الخدمات وحماية المصلحة العامة، بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
ويقوم الشراء العام على 4 مراحل أساسيّة:
تعدّ "منظومة الشراء العام في لبنان ذات جودة متدنيّة، إذ يبلغ المؤشر العام لجودة دورة الشراء 48/100" وفقاً لموجز إصلاح الشراء العام في لبنان الصادر عن "معهد باسل فليحان الماليّ والاقتصاديّ في أيّار/مايو2020. وهذه النتيجة المتدنية تعود لعدّة أسباب من أبرزها تبعثر الأطر القانونيّة التي ترعى الشراء العام في لبنان وعدم تطابقها مع معايير الشفافيّة المطلوبة لتعزيز الحوكمة الرشيدة.
مسح الـ MAPS:
عملت وزارة الماليّة في حزيران/يونيو 2019 على تقييم منظومة الشراء العام في لبنان من خلال المنهجية الدوليّة
MAPS II المُطوَّرَة من منظمة التعاون الدولي والتنمية بهدف تحسين منظومة الشراء العام في لبنان.
ويقوم المسح على أربع ركائز أساسيّة:
1- الإطار القانونيّ والتنظيميّ والسياساتيّ (القوانين والمراسيم التي تنظّم عمليّة الشراء العام والأحكام المتعلّقة بها مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، التجارة والمنافسة، الوصول إلى المعلومات، مكافحة الفسادوغيرها من العوامل).
2- الإطار المؤسّسي والقدرة الاداريّة :التقييم العمليّ لممارسة عملية الشراء العام ومدى فعالية هذه المنظومة من ناحية الالتزام بالقوانين باستقلاليّة وتقييم مدى ارتباطها بنظام إدارة الموارد العامّة في البلد وما إذا كانت القدرات الإدارية والتقنية كافية للقيام بعمليّات ومناقصات تتّسم بالجودة والشفافية.
3- عمليّة الشراء وممارسات السوق: وتدقّق هذه الركيزة بالكفاءة التشغيليّة وفعاليّة منظومة الشراء العام في وضع إجراءات الشراء موضع التنفيذ.
4- المساءلة والنزاهة والشفافيّة: أي مدى إمكانيّة منظومة الشراء العام من مواجهة الفساد وذلك من خلال وجود ضوابط تدعم تنفيذ العمليّة وفقاً للإطار القانوني والتنظيمي وامتلاك الأدوات الفعّالة لكشف أي فساد محتمل. ويركّز المسح على أهميّة الحوكمة لضمان الشفافيّة والنزاهة.
واقع الشراء العام في لبنان والتحدّيات:
يعدّ الشراء العام أداة رئيسيّة لتحقيق القيمة الفضلى من إنفاق المال العام إذا إنّ حجمه 20% من النفقات العامة المركزيّة في لبنان (أي باستثناء المؤسسات العامة والبلديّات) التي تُقدّر بحوالي 3.4 مليار دولار أميركي و6.5% من الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لمعهد باسل فليحان الاقتصاديّ والماليّ.
وذكر اقتراح القانون الجديد موجزاً عن مخرجات المسح الذي رأى أنّ منظومة الشراء العام في لبنان فيها ثغرات في آليّات المساءلة بالإضافة إلى غياب معاييرعالية الجودة ومُوحِّدة لدفاتر شروط نموذجيّة. كما لفت المسح إلى اللجوء المفرط للشراء بالتراضي، أي تحديد الإدارة العامة للجهة التي ترغب بالتعامل معها وفقاً لتبريرات معيّنة وهذا ما يؤدّي للاستنسابيّة وما وصفه جابر بـ"الفضيحة السياسيّة من العيار الثقيل" مضيفاً أنّ اقتراح القانون الجديد يسعى لتفادي هذا الشيء "ولكن هذا يتوقّف على النيّة السياسيّة". ويُضاف الى ذلك، اعتماد استثناءات لا تتطابق مع القوانين والمراسيم المرعيّة للشراء العام وتداخل وتشابك الأدوار التي تقوم بها الجهات المعنيّة وأبرزها وزارة الماليّة، ولجان المناقصات (لجنة مركزيّة في بيروت ولجان في المناطق)، ودائرة المناقصات في التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومراقبو عقد النفقات وغيرها من الجهات. فـ"المشهد الحالي أقرب إلى الفوضى المنظّمة منه إلى التنظيم" بحسب وصف لمياء مبيّض البساط، مديرة معهد باسل فليحان الماليّ والاقتصادي، في مقابلة لها مع "مهارات نيوز".
وتسود عمليّة الشراء العام في لبنان بما فيها من مناقصات وتلزيمات شبهات جمّة من الفساد إلى التواطؤ مع شركات معيّنة، فضلاً عن غياب الشفافيّة ومعايير الجودة بالإضافة إلى المحسوبيّات واحتكار العمليّة من قبل شركات تابعة لجهات سياسيّة وحزبيّة معيّنة.
كما تكمن المشكلة بالقوانين المتقادمة والمبعثرة، فالقوانين التي تحكم الشراء العام هي:
- قانون نظام المناقصات (مرسوم 2866/1959)
- قانون المحاسبة العموميّة (مرسوم 14969/1963)
- فضلاً عن بعض القوانين والمراسيم الأخرى كتنظيم التفتيش المركزي وتنظيم ديوان المحاسبة
أمّا دائرة إدارة المناقصات في التفتيش المركزي والتي يجب أن تكون الجهة الأساسيّة فدورها مهمّش، رغم انه من المفترض أنّها المعنيّة "بتنفيذ عمليّات الشراء الضروريّة المتعلّقة باللوازم والأشغال والخدمات لحساب الوزارات... وهي المسؤولة عن مراجعة مستندات المناقصات وفضّ العروض وتقييمها" بحسب تقرير لمعهد باسل فليحان الماليّ والاقتصادي عن واقع الشراء العام في لبنان عام2014. ويضيف التقرير عينه أنّ الإدارة منذ إنشائها لم تُمنح الاستقلاليّة اللازمة ولا الموارد الماديّة والبشريّة والتقنيّة التي تمكّنها من القيام بدورها بشكلٍ فعّال.
وبناءً على استطلاعٍ أجراه المعهد، فإنّ المؤسسات والإدارات تلجأ لإدارة المناقصات في 24% فقط من عمليّات الشراء لديها.وبحسبمبيّض، يقترح القانون الجديد "تفعيل دورها لتصبح هيئة ناظمة ذات صلاحيات واسعة للتدخل في كلّ عمليات الشراء،وقادرة على التدخل لوقف عمليات مشبوهة في أي وقت. وهو دور غير موجود في المنظومة الحالية إذ يقتصر دورها حالياً على دور استشاري غير ملزم ودور تنظيمي فقط في بعض العمليات التي تتخطى سقفاً ماليّاً معيّناً (أكثر من ١٠٠ مليون)".
أمّا التحدّيات أمام تطوير المنظومة فما زالت جمّة ويمكن اختصارها بغياب الرؤية المستدامة لإصلاحها، وتداخل أدوار الجهات المعنيّة،والمحسوبيّات وتدخّل مصالح رجال السياسة والأعمال وكبح المنافسةخصوصاً بالنسبة للمؤسسات المتوسطة والصغيرة، وعدم استقلاليّة الجهات المعنيّة، والتجاوزات للقوانين والمراسيم، وغياب الشفافيّة والمساءلة وأدوات الرقابة، وضعف المعايير فيما يتعلّق بدفاتر الشروط في ظلّ غياب منصّة الكترونيّةلضمان علنيّة المناقصات.
اقتراح القانون الجديد وأبرز الاصلاحات:
ينصّ اقتراح القانون(2020) في مادّته الأولى على مبادئ أساسيّة مرتبطة بتعزيز التنافسيّة وإعطاء فرص متكافئة واعتماد الشفافيّة والمساواة بين جميع العارضين فضلاً عن علنيّة الإجراءات وتفعيل الرقابة والمحاسبة وتشجيع الإنتاج الوطني. كما وتنصّ هذه المادّة على إخضاع عمليّة الشراء الى قواعد الحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة. وتنتهي هذه المادّة بـ "لا تطبّق أي استثناءات على هذا القانون".
ويشمل اقتراح القانون استحداث جهتين أساسيّتين هما:
أ- "إدارة الشراء العام، وهي إدارة ناظمة ومستقلة، ذات دور تنظيمي واشرافي"؛
ب-"لجنة الاعتراضات، وهي لجنة شبه قضائية، تعمل وفقآ لياتو مسارات للبتّ بالمراجعات والشكاوى".
ويرتكز اقتراح القانون على 8 مبادئ للشراء العام، بحسب مبيّض هي: الميزة الشاملة (يشمل الخدمات العامة أو إدارة المرافق العامّة)؛ والتخطيط والدمج؛ والمساءلة؛ والفعاليّة والمنافسة؛ والنزاهة؛ والشفافيّة؛ والتمهين (تخصيص موارد بشريّة عالية المهنيّة)؛ والاستدامة.
ومن بين أبرز الإصلاحات التي نصّ عليهااقتراح القانون:
أ- إعداد وتنظيم دفاتر الشروط العام:
لطالما كانت دفاتر الشروط محطّ انتقاد من ناحية الجهة التي تعدّها، طريقة إعدادها ودرجة الشفافيّة في العمليّة إذ إنّ العديد من دفاتر الشروط تكون معدّة بشكل دقيق يتطابق معمواصفات شركة واحدة لا غير.
ويعرّف اقتراح القانون دفتر الشروط أو ملفات التلزيم بكافة المستندات "المتعلقة بالشراء الصادرة إلى العارضين والتي يستخدمونها لغرض إعداد عروضهم بما في ذلك المواصفات الفنية والمتطلبات الأخرى والإجراءات الواجبات باعه التقديم العروض، بما في ذلك النماذج التي يتعيّن استخدامها وشروط العقد".
ونصّت المادّة 52 على محتويات الدفاتر أهمّها وصفاً مفصّلاً للحاجة أو السلع المطلوبة وأحكام وشروط العقد والعملة المعتمدة والمهلة المحدّدة وغيرها من التفاصيل.
لقد عمل معهد باسل فليحان عام 2008 على دفاتر شروط نموذجيّة للأشغال ولتوريد سلع ولوازم وتأمين الخدمات ذات الصلة تتضمّن التالي:
دفتر شروط نموذجي للأشغال |
دفتر شروط توريد سلع ولوازم وتأمين الخدمات ذات الصلة |
نموذج الإعلان (لاستدراج العروض العلني) |
الفصل الأول: تحديد الالتزام ومستنداته |
نموذج لائحة بالمدعوّين للمشاركة(لاستدراج العروض المحصورة) |
الفصل الثاني: تقديم العرض وإرساء التلزيم |
الفصل الأول: تحديد الالتزام ومستنداته |
الفصل الثالث: تنفيذ الالتزام |
الفصل الثاني: تقديم العرض وإرساء التلزيم |
الفصل الرابع: أحكام عامة |
الفصل الثالث: شروط وأحكام العقد |
|
الفصل الرابع: نماذج العقد |
|
ب- علنيّة المناقصات:
تنصّ المادّة 126 من قانون المحاسبة العموميّة على ضرورة علنيّة المناقصات الّا أنّ هذه المادّة لم تُطبّق. أمّا اقتراح القانون الجديد فهو ينصّ أيضاً على العلنيّة في فتح العروض (المادّة 54) وفي فضّ وتقييم العروض(المادّة 70). بينما يضمّ مبدأ العلنيّة، وهو بحسب تقرير للمعهد، الإعلان المسبق عن المناقصة الذي يتضمّن الخطة السنوية والإعلان الخاص بالصفقة بالإضافة إلى علنيّة إجراءات التلزيم وجلسة المناقصة.
ت- المنصّة الالكترونيّة:
أوّل ما ينصّ عليه اقتراح القانون لمعالجة الثغرات من ناحية الشفافيّة والنزاهة والمساءلة هو "اعتماد منصّة الكترونية مركزية لدىإدارة الشراء العام وإلزام الجهات الشارية نشر المعلومات الاساسية المتعلقة بمراحل الشراء على هذه المنصة" لتكون معظم المعلومات باستثناء الحالات السريّة التي ينصّ عليها القانون، علنيّة إسوة بتجارب ناجحة في العديد من الدول العربيّة التي اعتمدت الشراء الالكتروني المُلزم. وبحسب الاقتراح فإنّ المنصّة هي "أساس لنظام إفصاح ورقابة فعليّة" ويسمح بالوصول إلى البيانات والمعلومات.
غير أن هذه النقطة، تخضع لنقاش مستفيض في اللجنة الفرعية التي تصيغ قانون "الشراء العام"، حيث يدور البحث حول أن تكون مركزية أو لامركزية، وهي مدار بحث متواصل في اللجنة لم ينتهِ حتى كتابة هذه السطور.
الرقابة والحوكمة:
تبقى الرقابة إحدى أكبر العوائق لإصلاح المنظومة وتحقيق الشفافيّة والنزاهة،فالرقابة هي شبه غائبةفي منظومة الشراء العام الحاليّة. وبالرغم من أنّ اقتراح القانون الجديد يتشدّد من هذه الناحية لكن يبقى على المواطن اللبناني الانتظار والتحقّق من إمكانيّة تحقيق المساءلة الحقيقيّة في ظلّ منظومة سياسيّة تعتمد الزبائنيّة والمحسوبيّات وتوزيع الحصص فيما بينها.
وتقول مبيّض ان القانون العصريّ لا يكفي وحده، "إذا لم يترافق مع مجموعة من التدابير الإصلاحية المتلازمة، وأولها مسح مفصّل للجهات المعنيّة لتوضيح أدوارها وصلاحياتها، وتطوير دور إدارة المناقصات،وإدارة نظام شراء إلكتروني موحّد، وبلورة رؤية استراتيجية وطنية مبنية على نهج شمولي وتشاركي مع الجهات المعنية".
لكن اقتراح القانون هذا هو فرصة ذهبيّة لإصلاح منظومة الشراء العام وتحديثها، الذي من شأنه أن يحقّق وفراً سنويّاً مقداره 500 مليون دولار، بناءً على تقرير المعهد الذي يسلّط الضوء على أهميّة الشراء العام في التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وفقاً للرسم المرافق.
في سياق الرقابة والحوكمة، يقول الخبراء انه لا بدّ من تحديد الجهة المسؤولة عن الرقابة وضمان فصل الجهات المنفّذة عن الجهات المراقبة، وتفعيل دور الهيئات الرقابيّة مثل ديوان المحاسبة، وهيئة التفتيش المركزي، ومراقبي عقد النفقات، إضافة الى تتبّع الـ 12 جرس انذار في منح الرخص والعقود (الرسم التالي)التي حدّدها معهد حوكمة الموارد الطبيعية.
TAG : ,المشتريات ,المناقصات ,البرلمان اللبناني ,قانون الشراء