Loading...
false

غير صحيح

مصرف لبنان 1
هل تجاوز المصرف المركزي معايير FATF عند تطبيق التوصية 16؟
16/12/2025

أثار تقرير صحافي نشرته جريدة الأخبار مؤخرًا جدلًا، بعد الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان يذهب "أبعد من معايير مجموعة العمل المالي (FATF)" في تطبيقه للتوصية رقم 16 المتعلّقة بتحويلات الأموال. ووفقًا للتقرير، فإن الإجراءات التي يفرضها المصرف المركزي على المؤسسات المالية وغير المالية بناءً على التعميم الأساسي رقم 3، لا تشكّل التزامًا بالمعايير الدولية بقدر ما تمثّل توسيعًا لها إلى حدّ يفرض رقابة أشدّ من تلك المطلوبة عالميًا. 

 

فهل تجاوز فعلًا المصرف المركزي معايير FATF عند تطبيق التوصية 16؟

 

يندرج التعميم الأساسي رقم 3 الصادر عن مصرف لبنان ضمن إطار التزام السلطات النقدية اللبنانية بتطبيق المعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ولا سيما توصيات مجموعة العمل المالي (FATF). وفي سياق مقارنته بالتوصية رقم 16، التي تنظّم المعلومات الواجب إرفاقها بالحوالات المالية، يبرز اختلاف في مقاربة كلٍّ من الإطار الدولي والتنظيم المحلي لآلية جمع البيانات ومتطلبات الإفصاح. إذ تحدّد توصية FATF حدًّا أدنى من المعلومات الأساسية المرتبطة بمرسل الحوالة والمستفيد منها، فيما يعتمد التعميم اللبناني نموذجًا أكثر تفصيلاً في تحديد البيانات المطلوبة من المؤسسات المالية غير المصرفية، ما يفتح المجال لتحليل الفروقات بين النصين من حيث النطاق، والمضمون، وأسلوب التطبيق.

 

فما الذي تفرضه FATF فعليًا؟

جاءت توصية FATF رقم 16 في سياق التحوّلات العميقة التي شهدها قطاع المدفوعات عالميًا، لا سيما مع التوسع السريع في استخدام القنوات الرقمية وظهور مقدّمي خدمات مالية غير مصرفية، ما زاد من تعقيد تتبّع الحوالات المالية ورفع من مخاطر استغلالها في عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وانطلاقًا من ذلك، هدفت مجموعة العمل المالي إلى تعزيز شفافية التحويلات المالية ومنع تنفيذ حوالات مجهولة المصدر، عبر إلزام المؤسسات المالية بإرفاق معلومات أساسية عن المرسِل والمستفيد مع كل تحويل مالي، سواء كان محليًا أو عابرًا للحدود.

 

وتُعدّ التوصية 16 من الركائز الأساسية في منظومة FATF، إذ تنظّم الحدّ الأدنى من المعلومات التي يجب أن ترافق الحوالات المالية بما يتيح إمكانية تتبّعها عند الحاجة. ووفقًا لنصوص التوصية وتفسيراتها، يقتصر هذا الحدّ الأدنى على بيانات أساسية عن مرسل الحوالة (originator) والمستفيد (beneficiary)، مثل الاسم، ورقم الحساب، والعنوان أو رقم الهوية عند الاقتضاء. ولا تُلزم FATF المؤسسات المالية بالتحقق من دقة هذه المعلومات بصورة منهجية، إلا في حال وجود شبهة غسل أموال أو تمويل إرهاب، في هذه الحالة يصبح التحقق واجبًا على المؤسسة المالية من المعلومات المتعلقة بعميلها.

 

وما الذي يفرضه التعميم الأساسي رقم 3 فعليًا؟

في المقابل، أصدر مصرف لبنان التعميم الأساسي رقم 3 الموجّه إلى "المؤسسات المالية غير المصرفية"، ويشمل مؤسسات الصرافة، وكونتوارات التسليف، والمؤسسات التي تقدّم خدمات التحاويل النقدية الداخلية و/أو الخارجية المنفّذة بالوسائل الإلكترونية، إضافة إلى المؤسسات التي تقدّم خدمة المحفظة الإلكترونية، وجميعها خاضعة لرقابة مصرف لبنان.

 

وبحسب المادة الثانية من التعميم، تُلزم هذه المؤسسات بتطبيق الأنظمة المرعية وتعليمات مصرف لبنان النافذة، انسجامًا مع المعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ومنعًا لإساءة استخدام النظام المالي في عمليات عالية المخاطر (High Risk Operations). غير أنّ التعميم لا يكتفي بهذا الإطار العام، بل يفرض على المؤسسات جمع والتحقق والاحتفاظ بمعلومات مفصّلة عن عملائها وعملياتهم وفقًا لما ورد في "نموذج العمليات النقدية RF1" المرفق بالتعميم، مع إمكانية تعديله عند الاقتضاء.

 

عمليًا، يشترط التعميم تعبئة نموذج يتضمّن تفاصيل دقيقة وشاملة عن صاحب العملية، تشمل، اسم الأب والأم، الرقم الضريبي، عنوان السكن بكامل تفاصيله، رقم الهاتف، صورة عن الهوية الرسمية، وصورة شخصية فورية. كما يُطلب من العميل الإفصاح عن مصدر الأموال وتقديم المستندات المثبتة لذلك، وتحديد الغرض من العملية، وطبيعة ومصدر الدخل. ويتوسّع نطاق المعلومات المطلوبة ليشمل مصادر الدخل الأخرى، وتيرة العمليات المتوقعة، والوضع العائلي. أمّا في حالة الشركات، فيُطلب الإفصاح عن أسماء الشركاء، وأصحاب الحق الاقتصادي، والمفوّضين بالتوقيع.

 

ماذا يقول الخبراء؟

في هذا الإطار، يؤكد الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، ورئيس لجنة إخراج لبنان من اللائحة الرمادية، الدكتور كريم ضاهر في حديثٍ لـ "مهارات نيوز"، أن مصرف لبنان يمكن ألا يلتزم حرفيًا بالتوصية 16 الصادرة عن مجموعة العمل المالي (FATF)، إذ تمثل التوصية الحدّ الأدنى من الإجراءات التي يمكن للمصرف المركزي والجهات التابعة له اعتمادها.

 

 ويشير ضاهر إلى أن حاكم مصرف لبنان والمجلس المركزي للمصرف يمكنهما اتخاذ كل الإجراءات اللازمة وفقًا للمواد 70 و75 و174 من قانون النقد والتسليف، والتي تحدّد صلاحيات المصرف المركزي وحاكمه تجاه البنوك والمؤسسات المرخصة، بهدف حماية الاقتصاد والعملة الوطنية والقطاع المصرفي والوضع المالي العام، وخصوصًا في حال وجود أي تهديد محتمل مثل العقوبات التي قد تفرضها وزارة الخزانة الأمريكية على المصارف اللبنانية أو على الاقتصاد المعتمد على الدولار.

 

ويضيف ضاهر أن تقديم معلومات وافية عن الوضعية المالية ومصدر الأموال للأشخاص وفقًا للتعميم رقم 3 لا يُعد جريمة، بل هو إجراء شفاف يهدف لمحاربة تبييض الأموال. ويشير إلى أن هذا الإجراء متبع عالميًا، ومن لا يتعامل بأعمال غير قانونية لا يجب أن يخشى منه، إذ يعزز الشفافية في القطاع المالي دون أن يمس بكرامة الأشخاص. كما أن المعلومات المطلوبة من شركات تحويل الأموال هي نفسها التي تطلبها المصارف من زبائنها، مما يجعل أي اتهام بالظلم أو الاجحاف غير مبرر.

 

ولكن ضاهر يلفت في المقابل، إلى أن هناك إمكانية لإعادة النظر في الحدّ الأدنى للمبلغ الذي يجب التصريح عنه، إذ يعتبر مبلغ 1000 دولار منخفضًا نسبيًا بالنسبة لهذا النوع من الإجراءات. كما يقترح تسهيل العملية عبر المكننة، من خلال إنشاء منصة لمصرف لبنان تتيح التسجيل وإتمام التحويلات المالية بعد الحصول على الموافقة، بحيث يتمكن الأشخاص من إجراء عمليات التحويل عبر أي شركة تحويل أموال بسهولة وأمان.

 

ويتفق الباحث في الشؤون الاقتصادية والمصرفية محمد فحيلي، مع ضاهر على أنّ التشدد الذي تعتمده السلطة النقدية في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب لا يُعدّ بالضرورة مخالفًا للمعايير الدولية. ويشير إلى أنّ التعميم الأساسي رقم 3 يفرض بالفعل متطلبات ومستندات قد تتجاوز ما نصّت عليه التوصية رقم 16 الصادرة عن مجموعة العمل المالي (FATF). غير أنّه يؤكد في حديثٍ لـ"مهارات نيوز"، أنّ هذه التوصيات تمثّل الحدّ الأدنى من المعايير، فيما تتمتّع السلطات الرقابية الوطنية بهامش واسع من الصلاحيات يسمح لها بالتشدّد، لا سيما في بلد كلبنان مدرج حاليًا على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، ومصنّف ضمن الدول عالية المخاطر في ما يتعلّق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب على مستوى السوق الأوروبية.

 

ويضيف فحيلي أنّه وفقًا لمنهجية عمل مجموعة FATF أو الوحدات المعنيّة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تُناط بالدولة نفسها مهمة تحديد المخاطر وتقييمها، وعلى أساس هذا التقييم تقرّر إمّا اعتماد معايير FATF كما هي، باعتبارها حدًّا أدنى، أو الذهاب نحو مستوى أعلى من التشدد يتناسب مع طبيعة المخاطر القائمة. 

 

ويشدّد على أنّ هذا الخيار يجب أن يُقاس أيضًا بميزان الآثار الاقتصادية المحتملة، لاسيما ما إذا كان التشدد قد يدفع شريحة واسعة من المواطنين نحو اقتصاد الظلّ والتحويلات غير النظامية، أو ما إذا كان سيسهم في تعزيز جمع البيانات وتحليلها بما يتيح كشف الجهات المنخرطة في عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

 

ويخلص فحيلي إلى التأكيد أنّ التمييز بين هذين المسارين أساسي، إذ توفّر FATF الإطار والمعايير الدنيا، فيما تتحمّل السلطة النقدية والرقابية المحلية مسؤولية تقييم المخاطر وتقدير انعكاساتها الاقتصادية، واتخاذ القرار بشأن مستوى التشدد المناسب، بما في ذلك تحمّل أو عدم تحمّل التداعيات الاقتصادية الناتجة عنه.

 

وفي السياق نفسه، يؤكد مدير المكتب الإقليمي للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وعضو لجنة إخراج لبنان من اللائحة الرمادية محمد المغبط، في حديثٍ لـ "مهارات نيوز"، أنّه لا يمكن اعتبار ما يقوم به مصرف لبنان تجاوزًا لمعايير مجموعة العمل المالي (FATF)، كون هذه المعايير تأتي في إطار توصيات وممارسات فضلى تعتمدها المنظمة الدولية، وغالبًا ما تُصاغ بمرونة متعمّدة تتيح للدول هامشًا واسعًا للتكيّف معها وفق خصوصياتها القانونية والمؤسساتية.

 

ويستشهد المغبط في هذا السياق بالتوصية رقم 24 الصادرة عن FATF، فيما يتعلّق بالملكية الحقيقية للشركات، من خلال إلزام الدول بضمان حصول السلطات المختصة على معلومات كافية ودقيقة ومحدثة عن الملاك الفعليين للشركات، بهدف منع استغلالها في عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ووفقًا لهذه التوصية، يُطلب من صاحب الحق الاقتصادي التصريح عن ملكيته ابتداءً من نسبة 25 في المئة من رأس مال الشركة.

 

ويشير المغبط إلى أنّ لبنان اعتمد نسبة 20 في المئة بدلًا من 25 في المئة للإفصاح عن صاحب الحق الاقتصادي، وهو ما يشكّل مستوى أعلى من التشدد مقارنة بتوصية FATF، ما يعكس الهامش الذي تمنحه المنظمة للدول لتكييف تطبيق المعايير بما يتلاءم مع أوضاعها الخاصة. ومن هذا المنطلق، يرفض المغبط اعتبار أنّ مصرف لبنان تجاوز معايير FATF، معتبرًا أنّ هذه المعايير بطبيعتها حدّ أدنى، وأنّ التشدد المعتمد في الحالة اللبنانية يُعدّ إجراءً مبرّرًا في سياق دقيق تتداخل فيه مخاطر تبييض الأموال، وتمويل الإرهاب، والتهرّب الضريبي.

 

غير أنّ المغبط يلفت إلى أنّ فعالية هذا النوع من التعميمات تبقى ناقصة ما لم تُواكب بإجراءات وتنظيمات أخرى تُسهم، ولو بشكل غير مباشر، في إعادة توجيه المواطنين نحو القطاع المصرفي. فاستمرار الاعتماد على اقتصاد الكاش يُبقي المشكلة قائمة، ويؤدي عمليًا إلى تحميل أصحاب الأموال المشروعة أعباء إضافية تتعلّق بالتحقق من الهوية ومصادر الأموال. ويختم بالإشارة إلى أنّ وجود قطاع مصرفي فعّال كان من شأنه أن يسهّل هذه الإجراءات إلى حدّ كبير ويحدّ من آثارها السلبية على المواطنين الملتزمين.

 

إذًا، الإشكالية المطروحة غير صحيحة، إذ إن التوصية 16 لمجموعة العمل المالي (FATF) تمثل الحدّ الأدنى من الإجراءات، ما يتيح لمصرف لبنان والسلطات الرقابية التشدد عند الحاجة، لا سيما في لبنان المدرج على اللائحة الرمادية. وعلى الرغم من أن مصرف لبنان لم يخرق التوصية 16، يؤكد الخبراء إمكانية إعادة النظر في الحدّ الأدنى للمبالغ المصرّح عنها واعتماد إجراءات أوسع تساهم في تعزيز الشفافية المالية وإعادة توجيه المواطنين نحو القطاع المصرفي والحدّ من اقتصاد الكاش.