تتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على الشعب اللبناني جرّاء استمرار العدوان الاسرائيلي وما ينتج عنه من نزوح وأزمات، ولعلّ أحد أبرز المخاوف اليوم هو قطاع الكهرباء لما يشكّله من قطاع حيوي وحاجة كبيرة خصوصا مع اقتراب فصل الشتاء والحاجة المتزايدة للطاقة في مراكز الايواء التي تضمّ نازحين من المناطق المعرّضة للقصف.
وقد صرّح وزير الطاقة وليد فياض في مقابلة مع "العربي الجديد" بتاريخ 10 تشرين الثاني 2024، أنّ لبنان يعوّل على الدعم العراقي والجزائري لضمان استمرارية الطاقة عبر استمرار استقدام البواخر عبر البحر إن لناحية المحروقات المخصصة للنقل أو للتدفئة أو للقطاعات الحيوية وعلى رأسها الكهرباء، مضيفا أن لبنان يملك اليوم بطريقة متواصلة احتياطيات لحوالي أسبوعين من المشتقات النفطية في كل القطاعات وهي تتجدد دورياً مع وصول الشحنات.
وأضاف فياض الأولوية في وزارة الطاقة كانت للنهوض المستدام لقطاع الطاقة، وقد تحقق ذلك عبر خطة أثمرت عودة التوازن المالي لمؤسسة كهرباء لبنان بسبب تطبيق نظام تسعير جديد من دون دعمٍ عشوائي ومرتبط بسعر النفط العالمي وسعر صرف الدولار الحقيقي.
لذا، يطرح كلام الوزير فياض حول المسار الذي تعتمده وزارة الطاقة لتأمين الفيول في ظلّ تفاقم حدة الحرب العديد من الاشكاليات لناحية طبيعة الاتفاق الجاري مع العراق اليوم من الناحية القانونية والمالية، بالإضافة إلى حقيقة الوضع المالي لمؤسسة كهرباء لبنان وقدرتها على تغطية تكلفة الفيول.
تجديد اتفاقية الفيول العراقي: غير قانوني وديون متراكمة تهدّد الكهرباء
بعد انتهاء عقد الفيول اويل مع شركة سوناطراك بفئتيه Grade A وGrade B في 31 كانون الأول 2020، وقع الخيار على دولة العراق لاستيراد الفيول اويل والغاز اويل ليتمّ توقيع الاتفاق الأول في تموز 2021 لاستيراد مليون طنّ من المحروقات إلى لبنان.
وفي العام 2023، تم تجديد الاتفاق بين العراق ولبنان بموجب مرسوم صادر عن مجلس الوزراء وليس عبر قانون صادر عن مجلس النواب اللبناني، لاستيراد 1.5 مليون طن متري من الفيول العراقي بقيمة 700 مليون دولار بين الفترة الممتدّة من 1 تشرين الثاني 2023 و 31 تشرين الأول 2024.
شكّل التجديد الثاني للعقد معضلة أمام دفع المستحقات واستمرار توريد العراق للفيول الى لبنان، إذ امتنع مصرف لبنان ممثلا بحاكمه بالإنابة وسيم منصوري من تحويل المستحقات للجانب العراقي من حساب وزارة المالية إلى حساب الحكومة العراقية أو من أموال الجباية المودعة في المصرف بسبب عدم وجود غطاء قانوني من مجلس النواب.
وبعد تعذّر دفع المستحقات المالية للعراق، بدأ شبح "العتمة الشامل" يلوح في الأفق، لتتفجّر الأزمة في آب 2024 ويدخل البلد في العتمة التي طالت أيضا المرافق العامة كمطار بيروت إثر تأخر شحنات الفيول العراقي ونفاذ خزين المجموعة الأخيرة في معمل إنتاج الكهرباء في الزهراني. لتقوم الجزائر حينها بإرسال هبة بقيمة 30 ألف طن من الفيول لإعادة انتاج الكهرباء في المعامل.
وفي هذا الإطار، تقول الخبيرة النفطية والقانونية كرستينا أبي حيدر لـ"مهارات نيوز": "قبل الحرب كان لبنان يعتمد على مصدر واحد من الفيول وهو الفيول العراقي، وكانت السلطات مقصّرة اتجاه الدولة العراقية بعدم دفع المستحقات، واتفاقية الفيول العراقي تمت أول مرة بشكل قانوني، أما المرة الثانية فلم يتم بلورته بشكل قانوني وهو ما دفع حاكم مصرف لبنان الى رفض الدفع الا بموجب قانون في مجلس النواب".
ومؤخرا وبعد إجراء المفاوضات مع الجانب العراقي، أعلن وزير الطاقة وليد فياض في 14 تشرين الثاني 2024، تجديد الاتفاقية موافقة مجلس الوزراء العراقي على طلبه القاضي بتمديد عقد تزويد الفيول اويل الموقّع بين لبنان والعراق لغاية نهاية شهر كانون الثاني 2025، بدل نهاية تشرين الاول 2024، ليتمكن لبنان من استنفاذ كامل الكمية التعاقدية، اي 1.5 مليون طن، وذلك عبر تأمين شحنات بسعة 125 ألف طن شهرياً خلال هذه المدة.
ولكن، يطرح هذا الأمر تساؤلات عديدة لناحية طبيعة التمديد للاتفاق العراقي، فمع عدم اجتماع مجلس النواب لقوننة الاتفاق، كيف سيتم دفع المستحقات المالية من قبل مصرف لبنان؟ وهل من ضمانات مالية قدّمت من المصرف المركزي للدفع؟
وبعد محاولات عديدة للتواصل مع وزير الطاقة عبر مستشاريه للحصول على أجوبة من وزارة الطاقة، لم نحصل على إجابات على الرغم من الاتفاق مع أحد مستشاريه والمسؤول عن الملف على موعد لمقابلة هاتفية إلاّ أنّه لم يلتزم بالموعد الذي اتفقنا عليه ولم يجب على اتصالاتنا المتكرّرة.
إذا على الرغم من أنّ تجديد الاتفاق للمرة الثالثة سيوفّر الكهرباء في لبنان ولو بساعات تغذية قليلة، إلاّ أنه يطرح مخاطر عديدة، إذ تشير أبي حيدر أنّ "لبنان اليوم لا يدفع للجانب العراقي ثمن الفيول، وبالتالي تراكم الديون هو مؤشّر خطير على لبنان فالأن أو غذا سيتم المطالبة بهذه الديون، يضاف إلى ذلك عدم معرفة متى يقرر الجانب العراقي توقيف شحنات الفيول كما حصل سابقا، والأهم اليوم هو أنّ أي حصار بحري من العدو الاسرائيلي أو تأخر لشحنات الفيول العراقي سيدخلنا في كارثة حقيقية خصوصا أننا سندخل في فصل الشتاء وسيتزايد الطلب على الطاقة مع تزايد النزوح ومتطلبات مراكز الايواء".
أي أنّ هذه الديون المتراكمة على الدولة اللبنانية ستشكّل ورقة ضاغطة وتحدّ أمام استدامة استيراد الفيول لتشغيل الكهرباء في لبنان.
كهرباء لبنان: توازن مالي وهمي على حساب الدولة والمواطن
يقول وزير الطاقة وليد فياض: "منذ تولينا مهامنا في وزارة الطاقة والمياه جعلنا من النهوض المستدام في قطاع الكهرباء أولويتنا القصوى وتم وضع خطة متكاملة لقطاع الكهرباء أخذت موافقة ودعم البنك الدولي وعملنا على تطبيق مدرجاتها على الرغم من التحديات المالية والإدارية والسياسية. وقد أثمرت هذه الخطة عودةً للتوازن المالي لمؤسسة كهرباء لبنان للمرة الأولى من عشرات السنين وذلك بسبب تطبيق نظام تسعير جديد من دون دعمٍ عشوائي ومرتبط بسعر النفط العالمي وسعر صرف الدولار الحقيقي وأصبحت المؤسسة قادرة على تمويل مصاريفها ودفع مستحقاتها للمتعهدين والمشغلين ومقدمي الخدمات وشراء المحروقات وحتى الشروع بالإيفاء بديونها".
وحول التوازن المالي قبل الحرب، تشير أبي حيدر إلى أنّ "مؤسسة كهرباء لبنان عندما كانت تجبي الأموال قبل الحرب وكانت عاجزة عن سدّ الديون بسبب ديونها الكبيرة للصيانة والمشغّلين بالاضافة إلى شراء الفيول، أمّا اليوم ومع تفاقم الحرب، تأثرت الجباية بشكل كبير وبالتالي حتى التوازن المالي الذي تكلّم عنه الوزير انتفى".
أي أنّ حديث فياض يطرح إشكالية فعلية حول ما اذا كانت فعلا مؤسسة كهرباء لبنان قد حقّقت توازنا ماليا قبل اندلاع الحرب، ليتبيّن من خلال الخطة التي وضعتها الوزارة، أنها تشترط أن تدفع الدولة اللبنانية كامل مستحقات الفيول العراقي المقدّرة سنويا ب460 مليون دولار وليس من حساب كهرباء لبنان، على أن يتم رفع التعرفة على المواطنين من 27 سنت إلى 37.6 سنت للكيلوواط في حال لم يتم الالتزام بدفع الأموال للجانب العراقي.
أي أنّ الخطة نفسها تقرّ بعجز مؤسسة كهرباء المستمرّ عكس ما يصرّح به الوزير فياض، وقد أتى هذا العجز على حساب المواطنين وحرمانهم من الكهرباء وأيضا على حساب خزينة الدولة التي كانت ولازالت تغطّي هدر المال العام وسوء التنظيم والإدارة في مؤسسة كهرباء لبنان، إذ يشير تقرير للبنك الدولي صادر في العام 2020 أنّ مخصّصات كهرباء لبنان السنويّة من الموازنة العامّة تبلغ 3.8% من إجمالي الناتج المحلّي.
في هذا السياق، يقول مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون في حديث لـ"المدن" إنّه "حتى اللحظة، لا تزال مؤسسة الكهرباء تعيش على سلفات الخزينة "بطريقة غير مباشرة من خلال تأمين الدولة ثمن الفيول العراقي، وأنّ الدولة تعطي المال لكهرباء لبنان، مع علمها بأن السلفات لن تُرَد، وبالتالي تقول الدولة للمؤسسة احرقي المال".
أما اليوم/ ومع تصاعد الحرب وأثارها الكبيرة على كافة القطاعات، تصف أبي حيدر الوضع "بالكارثي"، إذ إنّ "لبنان لا يدفع ثمن الفيول لدولة العراق، وبحسب فياض كانت الجباية 40 مليون دولارقبل الجرب، أما اليوم فصارت أقل من النصف أي أقل من 20 مليون دولار بسبب المناطق التي خرجت من دائرة الجباية واليوم الاتكال على بيروت والشمال وجبل لبنان وهذه كارثة بتحميل هذا العبئ الكبير للبنانيين".
وقد صرّح وزير الطاقة وليد فياض أنّ " أنّ "الخسائر في قطاع الكهرباء والمياه بلغت حوالي 400 مليون دولار، وهي مقسّمة على الخسارة الناتجة عن الكلفة الاضافية للإغاثة السريعة، وتلك البنى التحتية للاستثمار لتحسين الخدمة في أماكن النزوح، وتلك للبنى التحتية المباشرة نتيجة العدوان وتلك المالية من حيث الجباية.
أي وكخلاصة لما سبق وبالتحليل المنطقي لمجريات الأحداث، لا يمكن أن يتم دفع مستحقات الفيول العراقي التي ستأتي إلى لبنان من مستحقات الجباية ومن أموال كهرباء لبنان بسبب استمرار العجز وتفاقمه بسبب الحرب، ما يبقي الأمر محصورا بالدفع من قبل حسابات وزارة المالية في مصرف لبنان والتي لا يمكن الدفع منها للجانب العراقي إلاّ بموجب قانون صادر عن مجلس النواب.
ويبدو من اللافت عدم صدور أي بيانات أو تقارير من قبل مؤسسة كهرباء لبنان حول حجم الجباية، الأمر الذي يضعف القدرة على المراقبة، إذ تشير أبي حيدر إلى أنّ "المشكلة اليوم هي انعدام الشفافية في وزارة الطاقة وكهرباء لبنان، وبالتالي لا وجود لتقارير شهرية لذا لا نعرف حجم الجباية سوى الأرقام التي يعطوها للإعلام ولكن من يستطيع التأكد من هذه الأرقام؟ لا وجود لتقارير لنستند عليها.
إذًا، يعتمد لبنان اليوم على الفيول العراقي لتأمين التغذية بالكهرباء، لكنّه لا يدفع الأموال لسدّ مستحقات الفيول لا من مؤسسة كهرباء لبنان ولا من حسابات وزارة المالية في مصرف لبنان، الأمر الذي يضع مستقبل تأمين الكهرباء في المجهول مع تصاعد المخاطر نتيجة تراكم الديون وتصاعد حدّة الحرب وبالتالي زيادة الطلب على الكهرباء، ويأتي هذا الواقع كاستمرار لسنوات من سوء التنظيم والإدارة وانعدام الحوكمة في مجال الطاقة والتي أوصلت لبنان إلى تهديد دائم بالعتمة الشاملة.