Loading...

الزراعة اللبنانية بين نيران الحرب وقسوة الجفاف: خسائر فادحة تهدد الأمن الغذائي

 

يواجه القطاع الزراعي في لبنان أزمة غير مسبوقة نتيجة لتضافر تداعيات الحرب الإسرائيلية الأخيرة والتغيرات المناخية الحادة. فمنذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 وحتى نوفمبر 2024، تعرضت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية للتخريب، حيث أشارت التقارير إلى تضرر البنية التحتية الزراعية في أكثر من 130 بلدة، لا سيما في مناطق بعلبك، الهرمل، النبطية، ومرجعيون. إلى جانب ذلك، يعاني لبنان من انخفاض ملحوظ في معدلات الأمطار وارتفاع في فترات الجفاف، مما يؤثر سلبًا على إنتاج المحاصيل الزراعية و يشكل تهديدًا حقيقيًا للأمن الغذائي في البلاد.

 

وسط هذه التحديات، تتكاتف الجهود المحلية والدولية لتقييم حجم الأضرار وتقديم المساعدات اللازمة للمزارعين المتضررين، في محاولة لإعادة تأهيل القطاع الزراعي وتعزيز قدرته على الصمود في وجه الأزمات المتفاقمة.

 

أزمة الزراعة والمناخ

"الطبيعة تقف اليوم عائقًا أمامنا، تتصادم مع طموحاتنا، وتعطّل ما يمكن أن يجلب الخير، لأن المطر هو الأساس، وهو الذي يمنح المزارع الإنتاج مجانًا ويدعم استمرار الزراعة"، هكذا عبّر أحد مزارعي البقاع عن قلقه حول مستقبل القطاع الزراعي في لبنان الذي يواجه اليوم تحديات غير مسبوقة بسبب الإنحباس المطري الحاد، حيث تساقطت كميات أمطار أقلّ بكثير من المعدل السنوي المعتاد. هذا الإنخفاض الحاد في الأمطار سيؤدي إلى تقليص المساحات المزروعة إلى النصف، مما سينعكس سلبًا على الإنتاج الزراعي، ويؤثر بشكل مباشر على معيشة المزارعين، ويرفع كلفة الإنتاج، ويزيد الأسعار على المستهلكين، فضلًا عن توسع رقعة التصحر.

 

وعن التحديات المناخية وتأثيرها على الزراعة في لبنان، يقول رئيس تجمع المزارعين والفلاحين في البقاع إبراهيم الترشيشي، في حديث لـ "مهارات نيوز"، "إن أبرز التحديات التي يواجهها القطاع الزراعي في لبنان تراجع معدلات تساقط الأمطار، الذي يؤثر بشكل مباشر على إنتاجية الأراضي الزراعية. فكمية الهطول المطري كانت هذا العام أقلّ بكثير من المعدل العام، وأقلّ أيضًا مقارنة بالسنة الماضية. فعلى سبيل المثال، في تلّ عمارة ومنطقة البقاع بشكل عام، لم يتجاوز معدل الأمطار 180 ملم، بينما المعدل السنوي المعتاد يبلغ 450 ملم، وفي العام الماضي كانت الكمية قد وصلت إلى 560 ملم في الفترة نفسها. هذا الإنحباس المطري سيؤدي إلى تقلص المساحات المزروعة إلى النصف، ما سيؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعي، ويرفع تكاليفه، وينعكس في النهاية على ارتفاع الأسعار للمستهلكين، فضلًا عن زيادة التصحر في البلاد".

 

ويضيف "التغيرات المناخية التي نشهدها هذا العام، وخصوصًا انخفاض معدلات تساقط الأمطار، تُعدّ ظاهرة غير مسبوقة لم نعشها منذ عشرات السنين. لم نشهد جفافًا بهذا الشكل أو انحباسًا مطريًا بهذه الحدة منذ زمن بعيد، وهو ما يجعل المزارعين في حالة قلق دائم". 

 

ويأسف الترشيشي لعدم وجود أي حلول بديلة لتعويض هذه الخسائر. ويرى أن الحل الأمثل يكمن في بناء السدود والبرك المائية، والعمل على تجميع مياه الأمطار في السنوات التي تشهد هطولًا وفيرًا، كي تكون مخزونًا للأوقات التي تشبه الظروف الحالية. أما البديل الوحيد المتاح حاليًا، فهو الإعتماد على الإستيراد لتعويض النقص في الإنتاج المحلي.

 

غياب الدعم بقاعاً

حتى الآن، لم يحصل المزارعون المتضررون على أية تعويضات، وفق الترشيشي، نظرًا للأزمة المالية التي تعاني منها الدولة اللبنانية، والتي تُعد واحدة من أبرز التحديات التي تواجهها البلاد. فالدولة تعاني من نقص حاد في الموارد، و"فاقد الشيء لا يعطيه"، كما أن المنظمات الدولية لم تتخذ أي خطوات لتعويض الخسائر، سواء بسبب تداعيات الحرب أو لدعم استمرار القطاع الزراعي.

 

الدولة كانت سابقاً تدعم القطاع الزراعي، من خلال منح القروض الزراعية عبر بنك التسليف الزراعي، وبرامج كفالات، وقروض مصرف لبنان التي كانت تُمنح بفوائد صفرية لعشرات السنين. كما كانت الدولة تدعم تصدير المنتجات الزراعية عبر مؤسسة EDAL، لكن هذا الدعم تلاشى إلى حدّ كبير. حتى زراعة التبغ، التي كانت تُموَّل بأسعار ومبالغ ضخمة، باتت بحاجة إلى إعادة نظر لضمان استمراريتها بفعالية أكبر. 

 

يُطالب الترشيشي، بضرورة طرح كل هذه القضايا على طاولة النقاش لإتخاذ قرارات عملية وقابلة للتنفيذ، تعود بالفائدة على المزارعين والقطاع الزراعي ككل. ومع الحكومة الجديدة، يأمل المزارعون أن تُتخذ خطوات فعلية لدعم القطاع الزراعي وتشغيل البرامج التي تخدمهم، مما قد يسهم في التخفيف من الأعباء الكبيرة التي يواجهونها اليوم.

 

الزراعة اللبنانية في مواجهة نيران الحرب  

ما بين الجنوب والبقاع واقع يختزل كل المسافات ويوحّد الأسباب. يصف حسين حمود، مزارع من جنوب لبنان وتحديداً سهل الخيام، المشهد حيث باتت معالم الأرض معدومة كليّاً، وحيث دمرت الحرب جزءًا كبيرًا من الأراضي، وبعض الحقول أصبحت غير صالحة للزراعة بفعل القنابل الفوسفورية، كما أن الأرض لم تعد ملامحها معروفة بفعل جرف العدو الإسرائيلي لها، فلم يعد هناك لا بداية ولا نهاية لها. 

 

ويقول في حديثٍ لـ "مهارات نيوز"، "التحديات كبيرة، الحياة باتت أصعب مع إنعدام الإحساس بشعور الأمان في أرضي القريبة من الحدود الفلسطينية، ناهيك عن صعوبة توفير المياه، وإنقطاع الطرقات لأنها  مدمرة أيضاً. بعض الأراضي ملوثة بالمخلفات الحربية، وهذا يشكل خطرًا كبيرًا على المواطنين لأنها تحوي مواد مسرطنة".

 

ويضيف "لقد بقينا في أرضنا نزرع رغم المخاطر، ولكن عندما اشتدت الحرب اضطررنا للمغادرة، لأن البقاء يعني الموت، ولأني لا أعرف شيء في الحياة سوى الزراعة، لم أستطع إيجاد أي فرصة عمل والآن بعد انسحاب الإسرائيليين سأعود إن شاء الله إلى أرضي أغلى من كل أراضي العالم بالنسبة لي".

 

وإستنكر حمود واقع المزارعين الذين يحتاجون إلى دعم حقيقي على مختلف الأصعدة، يشمل توفير البذور والأسمدة بأسعار معقولة، تأمين المياه للري، وإيجاد طرق آمنة لنقل المحاصيل إلى الأسواق، فعلى الرغم من أن بعض المنظمات قدمت مساعدات محدودة،  لكن هذا لا يكفي لتعويض الخسائر الكبيرة. كما وعلى الدولة هناك أن تفرض الإستقرار الأمني حتى كي يتمكن المزارعون من العودة إلى العمل دون خوف من المخاطر.

 

والبقاع رغم بعده عن الحدود الجنوبية، إلا أنّ واقعه أيضاً  مأساوي، والمزارع خير شاهد على ذلك. فبحسب علي الديراني مزارع من منطقة البقاع، وتحديداً قصرنبا، "الحرب أثرت علينا بشكل جزئي، لأن الحرب الفعلية كانت في الجنوب، لكنها لم تمنعنا من البقاء في أرضنا، صحيح أننا واجهنا صعوبات، لناحية تضرّر بعض الأراضي بسبب القصف أو نقص المياه والأسمدة، لكننا واصلنا الزراعة بقدر ما نستطيع".

 

وفي حديث لـ "مهارات نيوز"، يؤكّد الديراني أن أكبر تحدٍّ يواجههم هو قلة الدعم. وأردف قائلاً "نحن بحاجة إلى الأسمدة والمبيدات، لكن أسعارها مرتفعة، بينما في دول أخرى توفر الدولة تسهيلات كثيرة للحصول عليها. كما أن مشكلة المياه تُعد أزمة كبيرة، فهي لا تصل بشكل منتظم، ونظرًا لانخفاض معدل الأمطار هذا العام، فإنني متخوف جدًا من الجفاف في موسم الصيف. كما وتأثر الإنتاج، وأصبحت الأسعار غير مستقرة، لكننا لم نتوقف لأن أرضنا تُعرف بـ "الأرض المحرومة" نظرًا لغياب الدولة عنها، لذلك لم يتغير علينا الأمر كثيرًا.

 

ووفق الديراني فالوعود كثيرة، لكن المساعدات الفعلية قليلة. قدمت بعض الجمعيات مساعدات بسيطة، مثل البذور أو دعم نقدي محدود، لكنه لا يكفي لتعويض خسائرنا. الحكومة دائمًا لديها أولويات أخرى، والزراعة تأتي في آخر سلم الأولويات.

ويطالب الديراني وزارة الزراعة، ممثلة بوزيرها الجديد، بوضع خطط لتطوير قطاعهم ودعمه، خاصة أن سهل البقاع هو أشهر سهل زراعي في لبنان، ويمكنه أن يزوّد لبنان والدول المجاورة بالمحاصيل. والعالم العربي شاهد على فخرنا وجودة مزروعاتنا.

 

إعادة إحياء الزراعة 

وفي ظلّ التداعيات الخطيرة للحرب الإسرائيلية الأخيرة، كانت الحكومة اللبنانية السابقة قد أطلقت الخطة الوطنية لتقييم الأضرار والخسائر الزراعية، لا سيما في المناطق الحدودية. وتشمل هذه الأضرار تدمير المحاصيل الزراعية، وتضرر الأراضي الزراعية، فضلًا عن الدمار الذي طال البنية التحتية للإنتاج الزراعي. وبحسب التقارير، فإن 53 بلدة محاذية للحدود مع فلسطين المحتلة تكبدت خسائر جسيمة، خاصة بسبب استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، مثل قذائف الفوسفور الأبيض، ما تسبب في احتراق مساحات زراعية واسعة. 

 

يشرح الخبير في إدارة القطاع الزراعي الأستاذ عبدالله ناصر الدين، في حديثٍ لـ"مهارات نيوز"، أبرز ملامح هذه الخطة التي تهدف إلى التخفيف من الأعباء التي يواجهها المزارعون، وتشمل تقديم تعويضات مالية ودعم تقني، لضمان استعادة الإنتاج الزراعي بأسرع وقت ممكن. كما وتوزيع مساعدات مادية على المتضررين وفقًا لآليات واضحة تضمن وصول الدعم إلى المستحقين. ويجري تنفيذ هذه الخطة بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية متخصصة في التنمية الزراعية، مثل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، والتي كانت باشرت بإجراء عمليات مسح للأضرار لتحديد الأولويات وتقديم الدعم الفني والمالي اللازم. 

 

علاوة على ذلك، تتضمن الخطة بحسب ناصر الدين، برامج متخصصة لإعادة تأهيل الأراضي الزراعية المتضررة، وذلك عبر تحسين جودة التربة، وتوفير المستلزمات الزراعية الضرورية، وإعادة زراعة المحاصيل التي دُمرت بفعل الاعتداءات. ولضمان تنفيذ هذه الأهداف على أرض الواقع، سيتم تشكيل لجنة متابعة وطنية تضمّ خبراء في المجال الزراعي والبيئي، بالتنسيق مع الجهات الحكومية، مثل وزارة الزراعة ووزارة البيئة ومعهد البحوث العلمية (CNRS). 

 

وبناءً عليه، تباشر الفرق الفنية إجراء مسح ميداني دقيق لجميع المناطق المتضررة، من خلال زيارات ميدانية وتحليل البيانات البيئية، مع التركيز على فحص جودة التربة ومدى تأثرها بالملوثات الناجمة عن القصف. كما سيتم تحديد المزارعين المتضررين لتقديم الدعم المباشر لهم، سواء عبر المساعدات المالية أو من خلال توفير المواد الزراعية الأساسية، مثل البذور والأسمدة. أما بالنسبة لمربي الدواجن والمواشي، فسيتم التدقيق في آليات دعمهم، لتجنب أي تأثير سلبي على الأسواق المحلية، مما يستدعي ضرورة معالجة أوضاع هذا القطاع بأسرع وقت ممكن.

 

ويتابع ناصر الدين، أنه سيتم إصدار تقارير دورية حول مدى تقدم تنفيذ الخطة، مع إجراء تقييم مستمر للإجراءات المتبعة، لضمان تحقيق الأهداف المرجوة وإدخال أي تعديلات ضرورية. وفي سياق تعزيز الاستدامة الزراعية، ستشجع الخطة المزارعين على تبني أساليب حديثة مثل الري بالتنقيط والتسميد العضوي، مما يساهم في تحسين الإنتاجية الزراعية رغم التحديات المناخية والبيئية.

 

أما فيما يتعلق بالتمويل، فيقول ناصر الدين، إنه سيتم الاعتماد على مصادر متعددة، تشمل المساعدات الدولية المقدمة من منظمات مثل FAO وUNDP وبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، بالإضافة إلى التعاون مع الدول المانحة التي قد تقدم دعمًا ماليًا عبر القروض الميسرة أو المنح المخصصة للمشاريع الزراعية. كما سيتم الاستفادة من دعم القطاع الخاص المحلي والدولي، سواء من خلال التبرعات أو عبر توفير التسهيلات المالية والمعدات الزراعية الحديثة. إلى جانب ذلك، يمكن تفعيل الصندوق الوطني للتنمية الزراعية، الذي يخصص له تمويل حكومي لدعم مشاريع إعادة الإعمار في القطاع الزراعي، بالإضافة إلى توفير قروض ميسرة للمزارعين لتمكينهم من إعادة تأهيل أراضيهم وتحسين إنتاجهم.

 

ويكون لبنان بذلك من خلال هذه الخطة الشاملة، يسعى إلى التخفيف من تداعيات الحرب الإسرائيلية على القطاع الزراعي، وتحقيق التعافي السريع للمزارعين، مع تعزيز استدامة الإنتاج الزراعي في المستقبل.