يمّر لبنان بأزمة اقتصادية حادّة، حيث تراجع الناتج المحلي ليصل الى 58.1% في 2021. كما وفقدت الليرة اللبنانية قيمتها مقابل الدولار الأميركي. هذا فضلا عن احتجاز المصارف لأموال المودعين و فرض قيود عليها. هذه الأزمة الاقتصادية أرهقت الشعب اللبناني، خاصة النساء منهم، حيث لا تزال نسبة انخراط النساء في سوق العمل اللبناني ضئيلة مقارنة مع الرجال. وبحسب إدارة الإحصاء المركزي، فإنّ أقل من 30% من النساء في لبنان يعملن ويعود السبب الى اعتماد المرأة على الرجل او غيره مادّيًا. إلا أن الإرادة الصلبة للّبنانيين عامة، واللبنانيات خاصة، وعدم رغبتهنّ بالاستسلام أمام الوضع المعيشي الصعب جعل بعضهنّ ينشئن أعمالهنّ بجهدهنّ الخاص لتأمين لقمة العيش.
ديالا، شابة تعيل أباها المريض وهي مسؤولة عن علاجه، لم تجد عملا ضمن اختصاصها، فاستعانت بصديق لها للبدء بعمل يوفر لها ما تحتاجه. "رحلتي في خلق عمل كانت صعبة، إذ تزامنت مع جائحة كورونا وأزمة الدولار والمصارف، فلم أستطع أخذ قرض من البنك ولا يوجد لدي المال الكافي للبدء بمشروع خاص."- خطوة ديالا الأولى كانت في بيع الألبسة والأحذية- "بدأت ببيع صنف واحد فقط؛ أحذية رجالية، واتفقت مع أحد التجار ليرسل لي صورا كي أعرضها على صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي، وعند الطلب تتم عملية البيع والشّراء." هكذا بدأت ديالا في عملها، و من ثم توسعت فيه حتى تمكنت من التعرف إلى عدّة تجار، فباعت "أونلاين" أنواعا مختلفة من الألبسة والأحذية بالرغم من عدم قدرتها على الشّراء الفوري من التاجر.
وأكملت ديالا قائلة: " لم أدر أن هذه الخطوة ستصبح مصدر دخل أساسي ووحيد لي ولعائلتي."
وفي حديث مع باسكال، طالبة جامعية تكلّمت عن حاجتها الملحّة للعمل خشّية انتهاء تعويض نهاية الخدمة لوالدها، وعدم وجود دخل آخر في المنزل. فقررت القيام بعمل تستثمر فيه مصروفها الذي إدّخرته. تقول باسكال: "لا يوجد لدي رأسمال ولم أتمكن من أخذ قرض مصرفي، فذهبت حاملة مبلغا صغيرا من المال من بعض التجار الألبسة لأشتري قسمًا من بضاعتهم. ومن ثم أنشأت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي وتواصلت مع المعارف والأصدقاء لأطلعهم على البضاعة." وجدت باسكال نفسها أخيرا في مجال لطالما رغبت بالعمل فيه، فقررت ان تفتح متجرها الخاص ولو ببضاعة محدودة. أكدّت باسكال على أهمية الإدارة والتخطيط لإنجاح أي فكرة وتحويلها الى مشروع خاص.
وأضافت: "لست أملك المال الكافي الذي يخوّلني فتح متجر، إلا أن الأوضاع الحرجة في لبنان جعلتني أصنع لنفسي عملا ألتزم به لتأمين القوت اليومي لي ولعائلتي."
وفي السياق ذاته، كانت هدى، تمر في ظروف مادية قاهرة. الأمر الذي دفعها للعمل في تحضير المأكولات المنزلية وبيعها، إذ انه الشيء الوحيد الذي تجيده وتبرع فيه.
"لم يكن لدي المال لأشتري المكونات لصنع أي صنف من المأكولات، فقررت أن أبدأ بمساعدة النساء في بلدتي بتحضير الطعام. وهكذا بدأت تارة أفرم لهنّ البقدونس وتارة أخرى أصنع شيش البرك والكبة وغيرها."
لم تكن هدى تتوقع أن أحدا سوف يقوم بشراء مكونات الأكل وإرسالها لها لكي تحضرها، ولكن عندما بدأت بالعمل اكتشفت أنها تقوم بمساعدة نساء الحي من جهة وتؤمن قوتها اليومي من جهة اخرى، وهذا ما دفعها الى الاستمرار." بدأت بعمل لا يحتاج النقود و نجحت، فقررت ان اطور عملي، فبدأت بجمع المال لشراء مستلزمات الحلويات لصنع أصناف متعددة، كالقطايف مثلا." وعن أزمة الدولار تقول هدى أن هذا هو أصعب ما تواجهه في الآونة الأخيرة، إذ أن أسعار المنتجات ترتفع مع ارتفاع سعر الدولار، فتضطر إلى رفع أسعارها تماشيا مع الوضع ضمن أسعار معقولة تتناسب مع القدرة الشرائية للمواطن ويضمن لها حقها ولو بربح قليل. وأنهت هدى حديثها بالتشديد على أهمية المثابرة وعدم الاستسلام حتى ولو فشل الانسان مرّات عدّة:
"طالما يوجد طموح لا شيء مستحيل، فلا قيمة للإنسان دون أن يعمل ويشعر بأنه ينجز شيئا. لقد مررت بأيام عسيرة، بالكاد استطعت تأمين الحاجات الاساسية، وها انا اليوم وبفعل إرادتي أؤمّن لقمة عيشي بأبسط وأوفر طريقة ممكنة، وأساعد النساء في الطبخ في الوقت نفسه. لا شيء مستحيل!"
كذلك الأمر لليلى، التي تروي معاناتها اليومية مع غلاء الاسعار وعدم قدرتها على تأمين المأكل لعائلتها والدواء لزوجها. "زوجي يعمل كمزارع، مدخوله لا يكفي لشراء المأكل والدواء ولوازم المنزل ودفع فواتيرالكهرباء والمياه، فلم يكن امامي خيار آخرغير تحضير المونة البيتية وبيعها". ترافق ليلى زوجها الى الحقل في الصباح الباكر وتجمع الاعشاب، ثم تأتي الى المنزل وتقوم بتنظيفها وتقطيرها لتصبح جاهزة. " أؤمن بأهمية الاعشاب كدواء للعديد من الامراض، فهي تحتوي على فيتامينات أساسية ومفيدة لجسم الانسان، ولديّ إطلاع واسع على فوائد كل نبتة وكيفية الاستفادة منها." لا تبغي ليلى الربح الكثير او فتح متجر خاص لها، كل ما تسعى له هو تأمين اللوازم الاساسية لها ولزوجها دون طلب العون من أحد. "كنّا مستورين الحمد الله، لكن وضع البلد وفقدان قيمة الليرة اللبنانية أنهكتنا" بهذه العبارة تشتكي ليلى من وضعها المعيشي في لبنان واستكملت حديثها قائلة:
"الاسعار توحي بأن كل الناس تتقاضى رواتبها بالدولار والواقع عكس ذلك تماما، لكن فكرة تحضير المونة وبيعها كان الخلاص لي في ظل هذه الأزمة وساعدني على العيش ولو بالقليل."
وفي حديث مع الخبير الاقتصادي ونائب رئيس جامعة الحكمة، جورج نعمة، تطرق الى موضوع غياب تكافؤ كامل ومساواة بين المرأة والرجل في فرص العمل بين القطاعين العام والخاص. "بالرغم من أن وضع القطاع الخاص يبقى أفضل نسبيًا من القطاع العام من ناحية وجود المرأة داخله، إلا ان هذا يختلف بين قطاع وآخر وبين نظام مؤسسة وأخرى وفقًا للمعايير التي تتبعها إدارة كل مؤسسة وعملها." ومن أبرز هذه المعايير التي تحتّم على المؤسسة توظيف النساء بالتوافق مع الرجال هي رغبة المؤسسة في اتباع معايير الدولة او الحفاظ عليها، فمثلاً، نشهد نسبة عالية جداً من النساء في قطاع التعليم العالي، وذلك يعود الى رغبة كل جامعة في الحصول على اعتماد مؤسسة أن تؤمِّن تكافؤ كامل ومساواة بالتوظيف وتبوء المراكز بين الرجال والنساء." واذا أخذنا بعين الاعتبار هذا المشهد وانعكاسه على الوضع الاقتصادي، ففي حال كان لبنان او أية دولة أخرى لا يؤمِّن المساواة بين الرجل والمرأة، فانه يهدر فرص كبيرة في رأس مال البلد البشري إذ أنّ المرأة نصف المجتمع."
وفي الختام، شدد نعمة على "دور الدولة في تفعيل رؤية وخطة وطنية واضحة لتأمين المساواة لفرص التوظيف والعمل وتبوء المراكز من أعلى درجات الى أدناها، بحيث تبدأ هذه الخطة بالتشريعات ومن ثم بالقرارت الإدارية وبالممارسات. كما لابد من تقييمها للتأكد من أن المساواة بين المرأة والرجل تُحترَم وتُطبٌّق في كل القطاعات وفي المؤسسات. هذا الى جانب دور الجمعيات غير الحكومية وباقي فعاليات المجتمع لتشكيل حلقة ضاغطة على السلطات لتفعيل التشريعات من جهة والممارسات والقرارات من جهة أخرى."
لاشك ان الأوضاع الاقتصادية في لبنان صعبة للغاية، إلا أن الطموح، التخطيط، عدم الاستسلام للواقع المرير، والرغبة في الاستمرارية تجعل اللبنانيين صامدين أمام هذه الأزمة. فهم يبذلون قصارى جهدهم للعيش في هذا البلد وتحويل هذه المحنة الى منحة، يثبتون من خلالها انهم قادرين على إيجاد فرص عمل وتطوير أنفسهم.
تمّ إنتاج هذا المحتوى ضمن إطار برنامج "أساسيّات الصّحافة وإعلام التّنوّع" الذي تنظّمه مهارات بالتّعاون مع إنترنيوز وبدعم مالي من السّفارة الهولنديّة