مع انتهاء مدّة اتفاق وقف اطلاق النار الذي نصّ على خروج الجيش الاسرائيلي بالكامل من جنوب لبنان، الأمر الذي لم يطبّق دافعا أهالي الجنوب لمحاولة دخول المناطق المحتلة بالقوّة، بعد أن عاشوا أشهرا من التهجير في مراكز الايواء التي فرضت تحديات عديدة منها حماية أمن هذه المراكز التي استقبلت النازحين من الجنوب والبقاع ومنع خلق ونمو مظاهر متصلة بالأمن الذاتي.
لذا ومن الدروس المستقاة من هذه الحرب لا بد من النظر إلى الوراء وإلى مسؤولية أمن النازحين بين الدولة والأحزاب، لمحاولة الاضاءة على أبرز التحديات والتعلّم منها للمستقبل في حال حصول أي أزمة مستجّدة، خصوصا لناحية أمن المواطنين وتأمينه من قبل الدولة بعيدا عن مبدأ الأمن الذاتي الذي تصفه الخبيرة بعلم الجريمة باميلا حنين أنّه “معضلة يراها البعض مصدر قوة والبعض الآخر يعتبرها مصدر ضعف وخوف جراء وقوع حدث معين في أي منطقة أو بلد ، لكن بالحالتين الأمن الذاتي لا يبرّره لا القوة ولا الخوف، إذ يجب الالتزام بالدستور والقوانين المرعية الإجراء وأن نكون تحت حماية وفي ظل القوى الأمنية التي هي بدورها تكون العناصر المولجة تأمين الحماية لمنطقة أو بلد بأكمله”.
تروي مصادر عاملة في مراكز الايواء التي كانت تحت رعاية جمعية “نماء” أنّه في إحدى المرّات تم الإشتباه بأحد الاشخاص بشبهة تعامله مع العدو الإسرائيلي وتم التواصل مع مخابرات الجيش اللبناني التي قامت بتوقيفه، مؤكّدة بذلك ادارة المراكز تمت بالتنسيق مع الدولة اللبنانية وانه لم يكن هناك أي تواجد حزبي على الأرض بشكل مباشر.
وبالرغم من هذه التأكيدات التي تلقّيناها من بعض الجمعيات والبلديات والأحزاب لجهة التنسيق مع القوى الأمنية لضبط الأمن، من خلال إنشاء خلايا أزمة لتنسيق عملية النزوح ولـ”حفظ الأمن” ومحاولة الحد من الجرائم والإشراف على توزيع المساعدات، إلّا ان مسألة الأمن الذاتي ظهرت ولو جزئياً في بعض مراكز إيواء النازحين على شكل تولّي عناصر حزبية مسؤولية الحماية الأمنية وإدارة هذه المراكز كما تعريضها للخطر الأمني. فقد ارتفعت أصوات المواطنين في منطقة الصيفي شاكيةً من وجود عناصر مراقبة من “الحزب”، وظهور مسلّح في مركز بمرجعيون، وانتشار فيديوهات لإطلاق النار وإشكالات بمراكز في سن الفيل وعاليه.
مصدر أمني: قرار حاسم بردع "الأمن الذاتي" ومكافحة مظاهره
أكّد مصدر أمني حول الأمن الذاتي في مراكز الايواء أنّه “تم تسيير دوريّات للمديريّة العامة لأمن الدولة بصورة دائمة، بعد اتخاذ الحكومة اللبنانيّة قراراً باعتماد المدارس الرسميّة كمراكز إيواء للّبنانيّين، في المناطق المحيطة بها وبداخلها، ممّا ساهم في طمأنة الأهالي والنازحين معاً، والحدّ من التفلّت الأمني الذي كان هاجساً منذ اللحظات الأولى للحرب”.
وأشار الى ان “المديريّة العامّة لأمن الدولة اتّخذت منذ البداية، قراراً حاسماً بمنع الأمن الذاتي ومكافحة مظاهره، مع الأخذ بالحسبان المخاوف التي انتابت مختلف المكوّنات الوطنيّة، فضاعفت أمن الدولة وجودها لطمأنة الجميع، وبعدها تضاءلت تلك الظاهرة تلقائيّاً، فالدولة القويّة بأجهزتها الأمنيّة، وعلى رأسها الجيش، لعبت ولا تزال تلعب دوراً رادعاً لأيّ مظهر من مظاهر التفلّت الذي يُعتبر الأمن الذاتي أحد مظاهره، من دون أن ننسى الدور الذي لعبه تعيين الجهات المعنية مسؤولاً عن كلّ مركز إيواء، والذي كان يتواصل بشكل مباشر مع أمن الدولة عند حصول أيّ إشكال، وكان عناصر أمن الدولة يصلون خلال دقائق لفضّه”.
وهنا يقول النائب مارك ضو أن “خلال فترة الحرب لعبت القوى الأمنية الرسمية الدور الأكبر خاصة الجيش اللبناني بحيث كان محكم السيطرة على كافة الأراضي اللبنانية ومنتشر بالجنوب والشمال والبقاع ، والذي كان الوحيد باستطاعته التحرّك في المناطق التي تعرّضت للقصف وكان يضبط الأمن فيها”. وبتقدير النائب ضو ان الجيش اللبناني قام بواجبه بشكل كامل. ويعقّب انه “كان هناك أدوار لبعض القوى الأخرى مثل شرطة البلديات التي تواجدت في كل المناطق وكان لها دور في المساعدة على تنظيم النزوح والتعاون بين البلديات والأهالي”.
ولكن رغم ذلك لم يخلو الأمر من بعض الاشكالات، إذ يقول المصدر الأمني إنّ “عدّة احتكاكات حصلت بين الأهالي والنازحين في بعض المناطق، إلّا إن المديريّة تصرّفت بحزم، وبعد أخذ إشارة القضاء، أوقفت أربعة أشخاصٍ كانوا قد تسبّبوا بالإشكال، من دون أن ننسى الدور الذي لعبته الجهات السياسيّة في المساعدة على ضبط الموضوع الذي كان الأخطر بين كلّ الإشكالات التي عالجناها بحكمة”. وقال انه “تمّ التنسيق مع البلديّات المعنيّة والجمعيّات والأحزاب من أجل توزيع المساعدات على النازحين، ومنع أيّ وجود مسلّح داخل مراكز الإيواء”.
وهنا يشير ضوّ إلى “حدوث خلافات في بعض المناطق، حيث كان هناك تدخّل مباشر من قبل بعض الأحزاب بالهيمنة أو الإشراف على إدارة النزوح وبالتالي شهدت بعض المناطق في بيروت والجبل والبقاع والشمال محاولات هيمنة لبعض القوى السياسية على مراكز الإيواء كما على عمليات توزيع المساعدات، إنّما كانت ضعيفة. كما لاحظنا في بعض البلدات بعض الظواهر فيما يتعلّق بالأمن الذاتي منها لجان شبابية تابعة للبلديات كانوا يتناوبون على الحراسة أو المراقبة، وتم إعطائها صلاحيات من قبل الوزارات للتحرّك في هذا الإطار”.
ومنعا لهذه الاحتكاكات، يعطي المصدر الأمني مثالا عن منطقة بيروت إذ يقول إنّه “وبسبب الحرب الدائرة، أُجبر الأهالي على افتراش الطرقات والأرصفة في مختلف الأحياء، وخصوصاً في الواجهة البحريّة للعاصمة، وقد تمّ تكليف المديريّة العامّة لأمن الدولة بإخلاء الواجهة البحريّة من النازحين، بعد إيجاد مراكز إيواءٍ لهم، منعاً للاحتكاكات التي كانت قد بدأت خيوطها تلوح، وقامت أمن الدولة بذلك خلال أيّام بالتنسيق مع الجمعيّات المعنيّة، وبتجاوبٍ تامّ من النازحين وبتعاون كامل من الجمعيات والبلديّات والأهالي الذي ساهموا في إيوائهم”.
تنسيق بين "الجمعيات" والبلديات والقوى الأمنية لضبط الأمن
تؤكد مصادر عاملة في المراكز التي كانت تحت رعاية جمعية “نماء” انها “تولّت إدارة مراكز الإيواء والتنسيق بين الدولة اللبنانية والمراكز في المحافظات، ولم يكن هناك أي تواجد حزبي على الأرض بشكل مباشر فكل الشباب تطوّعوا للعمل ضمن هذه الجمعية في مراكز الإيواء. اذ كان يمنع تواجد أي شكل من أشكال السلاح داخل المراكز، وكان الجيش هو الجهة الأولى والأساسية بمتابعة أي إشكال كما تم التعاون مع مديرية أمن الدولة في عدد من المراكز وكانت تتولّى عملية حفظ الأمن وحل الإشكالات”.
وفي حديث مع عضو في بلدية زرعون يؤكد ان “شرطة البلدية تولّت إدارة موضوع النازحين وسجّلت الأسماء وتأكّدت من تطابق الهويّات، وسجّلت الاحتياجات. كما تولّت المسؤولية الأمنية بالتنسيق الدائم مع القوى الأمنية لضبط الأمن، بالرغم من عدم تسجيل أي إشكالات داخل المراكز في هذه المنطقة. وفي ما يتعلّق بالمساعدات يقول عضو بلدية زرعون انه “كان يتم تنسيقها عبر جمعيات أهلية ومدنية موجودة بالبلدة التي بدورها كان توزّعها بطريقة عادلة وفق الاستمارات التي تم تجهيزها مسبقاً “.
واضافة إلى التنسيق، تضيف مصادر جمعية نماء أنّ “الجمعية كانت متيقّظة لجهة تنوّع المجتمعات من كافة الأطياف وبالتالي أصبح كل مركز إيواء عبارة عن “حي صغير” وبالتالي اعتمدت الجمعية آلية اللامركزية في إدارة المراكز، بمعنى أن الجمعية أوكلت إدارة كل مركز إلى فريق عمل يتولّى حل أي أزمة قبل أن تتّسع لتتسبّب بإشكال، لكن في حال حصوله كان مدير المركز يتولّى الاتصال بمديرية مخابرات الجيش اللبناني في منطقة بيروت التي كانت متعاونة وتتولّى حل الإشكال وفي كثير من الأحيان كان يتم طرد المتسببين به أو المشاركين فيه من مراكز الإيواء”.
وقالت المصادر “بكل تأكيد ساهمت الأحزاب السياسية بتوزيع المساعدات داخل مراكز الإيواء، من خلال مندوب لحزب معيّن مع المساعدات ويستعين بالداتا الموجودة داخل المراكز التي شكّلتها إدارات المراكز ويتم التوزيع إما بشكل مباشر أو من خلال العاملين في هذا المركز، إنما كانت جمعية “نماء” ترفض ربط عملية التوزيع بالمظاهر الحزبية إن كان عبر الأعلام والصور والرايات، لأن هذه المراكز كانت تضم نازحين من كل الفئات ورفضت إعطاء المراكز أي صفة حزبية واحتراماً لخصوصية المجتمعات”. وتشير المصادر الى انه “تم الإشتباه بأحد الاشخاص لجهة تعامله مع العدو الإسرائيلي وتم التواصل مع مخابرات الجيش اللبناني التي قامت بتوقيفه”.
ويقول أحد أعضاء خلايا الأزمة في “الحزب السوري القومي الاجتماعي” في مركز لإيواء النازحين في ضهور الشوير انه “كان للقوى الأمنية والجيش دور كبير في حفظ الأمن داخل مراكز إيواء النازحين وخارجها، وبطبيعة الحال كان هناك تنسيق بين القوى الأمنية والأحزاب المتواجدة في المنطقة حيث كان يتواجد 4 مراكز فيها. ان حفظ الأمن بالدرجة الأولى كان من مسؤولية القوى الأمنية لضبط التفلّت داخل هذه المراكز بالإضافة إلى حل المشكلات بين النازحين أنفسهم”.
ويشير العضو في خلية الأزمة الى ان “الحزب القومي” شكل خلايا أزمة لمتابعة شؤون النازحين وتقديم المساعدات الطبية والدوائية والمستلزمات الأولية “.
الأمن الذاتي: لا تبرير بوجود القانون والقوى الأمنية
أكدت الخبيرة بعلم الجريمة باميلا حنين ان “معضلة الأمن الذاتي يراها بعض الناس مصدر قوة والبعض الآخر يعتبرها مصدر ضعف وخوف جراء وقوع حدث معين في أي منطقة أو بلد ، لكن بالحالتين الأمن الذاتي لا يبرّره لا القوة ولا الخوف، يجب علينا الالتزام بالدستور والقوانين المرعية الإجراء وأن نكون تحت حماية وفي ظل القوى الأمنية التي هي بدورها تكون العناصر المولجة تأمين الحماية لمنطقة أو بلد بأكمله.
هنا ينوّه النائب مارك ضوّ إلى عدم تشجيعه بتاتاً لمسألة الأمن الذاتي لأن المؤسسات الأمنية التابعة للدولة موجودة للقيام بضبط الأمن خاصة بين البلديات والشرطة وأمن الدولة والأمن العام والجيش اللبناني، انما مع انتهاء الحرب كل ظواهر الأمن الذاتي بدأت تتلاشى وتنتهي وبدأ الاعتماد على المؤسسات الشرعية”. برأي النائب ضو ان “كل محاولات الأحزاب للتمدّد على حساب الدولة والسيطرة الأمنية من خلال الأمن الذاتي، انهارت مع انتهاء الحرب وبالتالي دخلنا بمرحلة حيث تقع المسؤولية بالكامل على عاتق المؤسسات الشرعية الرسمية التابعة للدولة للسيطرة على الأمن”.
وفي تفاصيل الأمن الذاتي وتبعاته، تقول حنين إنّ “الأمن الذاتي في منطقة ما جرّاء خوف أو قلق أو توتّر مجتمعي نستطيع أن نذكر أسباب عدة اهمها جراء جريمة معينة لم تعرف ملابساتها أو بسبب هروب المجرم هناك تظهر الـ”community panic” أو خوف وتوتّر مجتمعي مما يؤدي إلى ان يكون لمنطقة معينة أمن ذاتي ويصبح هناك “Hot Spots” بأحياء أو بمنطقة معينة لرصد تحركاتأي أشخاص. والأمن الذاتي الذي يكون جرّاء قوة غير المبرّرة هنا نذهب إلى منطق الميليشيات والمظاهر المسلّحة التي هي مخالفة للقوانين اللبنانية. اذا بكلا الحاتين الأمن الذاتي مرفوض ويستحسن عدم اللجوء إليه.
وتضيف حنين “لكن في لبنان وبطريقة غير مباشرة يطبّق الأمن الذاتي لكن تحت سقف القوانين جراء ما يسمّى شرطة مجتمعية، التي تعدّ تعاون بين المجتمع وأفراد وبلديات وهيئات مجتمعية ومنظمات محلية مع القوى الأمني ليتم التعاون لتسهيل عمل القوى الأمنية وبذات الوقت يتم الإسراع بالكشف عن جريمة أو ملابسات معينة لأن انخراط المجتمع بالعمل الأمني تحت سقف القانون والتعاون مع القوى الأمنية يسهّل بمعرفة المجرمين والمخالفين لأنه يتم تدريب هؤلاء المنظمات والأشخاص والبلديات على رصد أي تحركات مشبوهة داخل المجتمعات. في لبنان يتم القيام بهذه العملية لكنه غير متقدم مقارنة بباقي الدول التي تعتمد نظام الشرطة المجتمعية لمساندة القوى الأمنية بالحفاظ على الأمن بمنطقة معينة”.
وتقول “يؤثر الأمن الذاتي على المجتمع بشكل سلبي فمن الضروري أن يكون الجيل الصاعد حريص على دور القوى الأمنية والعناصر المولجة حماية المواطنين تحت سقف القانون اللبناني لأنه تبين خلال السنوات الماضية وبنسبة عالية جداً ان الأمن الذاتي لا يجدي نفعاً بل يزيد الأمر سوءاً داخل المجتمعات. هناك ضرورة أن من يحرص على أرزاقه وممتلكاته او من اعتاد على أخذ ثأره بيده أن يسلّم الأمر للدولة اللبنانية.
ويهمّ حنين “كعالمة جريمة أن ينفع الأمن الذاتي بانخفاض معدلات الجريمة لكن للأسف تبيّن ان ان العكس صحيح يزيدها لا بل انه يتبيّن عند استلام العناصر الأمنية المولجة حمايتنا تحت سقف القانون أمن المناطق يصبح هناك رصد وأرشفة المخالفة وتدوينها وعليها تبنى البيانات والأرقام والإحصاءات بشكل رسمي، بينما اذا اتكلنا على الأمن الذاتي والأفراد في المجتمع ممكن أن لا يتم تسليم مرتكب المخالفة أو الإشكال للدولة وبالتالي هناك صعوبة بتتبّع الجريمة وملاحقتها والعمل على دراسة لانخفاض معدلاتها بالمجتمع”.
تأمل حنين ختاماً ان “نشهد في لبنان ثقة أكبر بالدولة اللبنانية، ونحن كمواطنين ومجتمع محلي داخل مناطقنا أن نكون دائماً على تواصل مع القوى الأمنية ونفعّل مفهوم الشرطة المجتمعية”.
يُنشر هذا التقرير في إطار البرنامج التدريبي حول "أسس ومبادئ التغطية الإعلامية لقضايا الأمن في لبنان" الذي نظمّته مؤسسة "مهارات" بدعم من مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن "DCAF". هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن. تم نشر هذا التقرير على موقع Democratia News.