Loading...

أسماكٌ نافقة وتجارة منافقة: من يراقب؟

في بلدٍ يطوّقه الفساد، لا عجب في أن تقتات غذاءً فاسدًا. لكنّ العجب، كل العجب، في أن تكون الجهات المعنية جميعها أتمّت مهامها على أكمل وجه وبقي غذاؤك فاسداً. ها هي أسماك القرعون النافقة تعيد ملف الرقابة على الغذاء الى الواجهة مجدداً، ليكشف عن حالة التراخي في المراقبة والمحاسبة. فبعدما تمّ ضبطه في سوق صبرا الشعبي من أسماك القرعون النافقة التي تباع بأثمان بخسة "وعلى عينك يا تاجر"، أثار هذا الأمر مخاوف جديدة تطرح بدورها علامات استفهام حول سلامة الأمن الغذائي وأطر المراقبة والمحاسبة.

في الأسابيع القريبة الماضية، خرجت الى العلن كارثة بيئية جديدة مفادها نفوق أكثر من 40 طناً من أسماك البحيرة، وهو عدد لم تألفه البحيرة من قبل رغم الكم الهائل من الملوّثات والقمامة الموجود فيها. بعض الأطنان من هذه الأسماك لاقت رواجها في سوق صبرا الشعبي، وعلى الفور، تحرك مراقبو مصلحة المسالخ في بلدية بيروت بمؤازرة عناصر من مديرية أمن الدولة و​فوج حرسبيروت​ لضبطها.

بيد أنّ حلقة الفساد هذه ليست وليدة لحظتها. فمنذ حوالى السنة تقريباً، أكدت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني أنّ 2 طن من أسماك بحيرة القرعون غير صالحة للاستهلاك يتمّ بيعها يومياً في سوقَي صبرا والكرنتينا الشعبيين في بيروت. ووفقاً لإخبار المدير العام للمصلحة سامي علوية الموجه حينها إلى كل من وزارة الداخلية وقيادتَي قوى الأمن الداخلي وجهاز أمن الدولة، "الصيادون ليسوا هواة أو يبحثون عن قوت يومهم، بل هم شبكة متكاملة لصيد أسماك البحيرة وتصريفها وبيعها في صبرا والكرنتينا". وبحسب المعطيات التي جمعها فريق الرصد في المصلحة، "تبين وجود نافذين يشاركون في الصيد وحماية الصيادين وتصريف الغلّة". كما تبيّن "تورط أكثر من 200 صياد لبناني وسوري بالصيد من البحيرة على متن حوالى 18 قارباً عند جسر صغبين". وبعد سحب الكميات، ينقلها الصيادون بأكياس معبّأة بالمياه ويلقونها في برك استحدثوها بجانب منازلهم إلى حين تصريفها في السوق المحلية كأسماك مثلجة.

قرار منع الصيد من بحيرة القرعون صدر عن وزارة الزراعة منذ عام 2018. فبعد تحليلٍ أجرته المصلحة لمياه القرعون، اتّضحت الحالة البيئية الخطيرة الناجمة عن الزيادة الكبيرة والهائلة لمعدلات تصريف مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي، ما خلا شحّ المياه الذي تسبّب في تزايد تدريجي لأنواع من السيانوبكتيريا منذ عام 2008.

من يراقب الأسواق؟

عموماً، توكل مهمة الرقابة على الغذاء والأمن الغذائي والأسعار لمديرية حماية المستهلك التابعة لوزارة الاقتصاد والتجارة . وبما خص أسواق السمك أو في حال ورود شكاوى، ترسل المديرية دوريات مراقبين بمؤازرة قوى أمنية للتفتيش الدوري. تقوم أيضاً مصلحة الطب الوقائي التابعة لوزارة الصحة بمراقبة جودة اللحوم، وتتراوح الإجراءات عادةً بحق المسامك المخالفة بين انذارات ومحاضر ضبط وصولاً الى اقفال المسمكة بالشمع الأحمر. لكن هذا لا يلغي الدور الرقابي للبلديات التي تقوم بجولات ميدانية لمراقبة جودة الأسماك وأسعارها.

في هذا الصدد، يشير المراقب الصحي في بلدية صور علي طالب إلى حرص لجنة الصحة التابعة للبلدية على المتابعة الدائمة لمختلف القطاعات الصحية ومن بينها الأسماك، مصوّباً على مسألة غياب أي حالة تسمم في المدينة منذ ولاية اللجنة. ويضيف أنّ السمك المباع في سوق صور هو انتاج يومي طازج من بحر صور، وفي حال اشترى التجّار السمك من منطقة الصرفند الجنوبية أو من صيدا على أبعد تقدير يُطلب اليهم إبراز الفواتير، وحتى اللحظة لا وجود أسماك من بحيرة القرعون. 

لا تقتصر جهود الرقابة على الجهات المذكورة أعلاه، إنما لصيادي الأسماك نقابة ترعى سلامة الصيد وانتاجه كرعايتها لمطالب الصيادين وحقوقهم. يشرح نقيب صيّادي الأسماك في صيدا نزيه سمبل محاولات النقابة الدؤوبة لمنع دخول السمك المستورد المجمّد أو حتى من مناطق أخرى الى سوق السمك في صيدا عبر وضع مراقبين اثنين بشكل دائم على باب السوق، لكن ذلك لم يمنع محاولات الغش في المرات القليلة. كما ينوّه سمبل بالتعاون المثمر للنقابة مع وزارة الزراعة المسؤولة عن طرق الصيد، وتعاونها مع وزارة الأشغال والنقل المسؤولة عن الملاحة، ويؤكّد على جهود بلدية صيدا على هذا الصعيد. يشار إلى أنّ مدينة صيدا هي من أكثر المدن اللبنانية استهلاكاً للأسماك، إذ تبلغ حاجتها اليومية 2 طن ونصف من السمك الطازج عدا ما يستورده التجّار خارج السوق.

جولة ميدانية

تروي سعاد مهدي ما حصل معها منذ فترة، حين اشترت رطلًا من أسماك السردين من منطقة صيدا على الشارع العام، لكنها اضطرت الى رميها عند تحضير الطعام بعدما فاحت منها الروائح الكريهة. وتقول: "مش بس أنا صاير معي هيك، قريبتي أيضاً حصل معها الأمر عينه منذ فترة قريبة". رداً على ذلك، يؤكّد النقيب سمبل ان أصحاب "بسطات السمك" المتواجدة على رصيف صيدا غير منتمية لنقابة صيادي السمك، مؤكداً محاولات النقابة المتكررة منع هذه البسطات من دون أن تبلغ مرتجاها كونها محمية بقرارات سياسية. وبحسب "ابن المنطقة"، كلما مُنع صاحب إحدى هذه البسطات عن البيع يلجأ لزعيمه، فيعيده بذريعة "معتّر وبدو يعيش"وهكذا دواليك...

في جولةٍ ميدانية على عددٍ من أسواق السمك في لبنان، ورغم التزام بعض المسامك بأدق تفاصيل النظافة والعناية بعرضها الأسماك داخل واجهات مخصصة، تغيب أدنى المعايير عن مسامك أخرى بأرضياتها المتسخة وصناديقها الخالية من الثلج والمكشوفة أمام أسراب الذباب المتربّصة بشراهة بالأسماك. لم يجبنا طالب بوضوح عن هذه المسألة، بل اكتفى باعتبار أنّ معايير النظافة تختلف بحسب نوع السلعة وفق نظام HACCP المعني بسلامة الغذاء. لكن أي نظامٍ غذائي يغضّ طرفه عن طعامٍ يعلوه ذباب؟ لا يُقصد بهذا التساؤل إثارة شكوك مبالغ في وصفها، إنما هي حقائق مسندة بدراسات علمية تؤكد أنّ هذه الحشرات تشكّل خطراً كبيراً على سلامة الغذاء وصحة الانسان. وبحسب تقرير علمي نُشر على صحيفة Metro البريطانية، تحمل الذبابة أكثر من 200 نوع من البكتيريا والجزيئيات الخطرة. لذلك، يشدد الخبراء على ضرورة حماية الطعام من الذباب من خلال تغطيته وحفظه بطريقة جيدة.

في السوق، إن سألت عن جودة الأسماك، يجيب كل تاجر بأنّ أسماكه طازجة و"كل يوم بيومه". لكن يحدث أن يسترسل أحدهم في الحديث واصفاً الزبون بـ"الغشيم، لأنه لا يسأل ما إذا كانت الأسماك طازجة أم لا". هذه الإزدواجية في التعبير وغيرها من مواقف تطرح علامات استفهام كثيرة حول معيار الشفافية المعتمد في تجارة الأسماك محلياً.

في الخلاصة، لا تنعدم الرقابة على الأسماك داخل الأسواق الشعبية، لكنها لم ترقَ بعد لدرجة التسليم التام بفعاليتها. على المواطن أن يتأكد بنفسه من سلامة غذائه وجودته ولا يتّكل على كلام التاجر عن "مثالية وشفافية"ما يقوم به، إذ ان معايير بسيطة لا تعقيد فيها كاللون والرائحة والملمس ومعطيات أخرى سهلة التحقق والتنفيذ في ظلّ رقابة لا يعوّل عليها.

TAG : ,وزارة الاقتصاد والتجارة ,سوق السمك ,بحيرة القرعون