ألقى رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي بيانه الوزاري الإثنين 20 أيلول 2021، خلال جلسة منح الثقة لحكومة "معًا للانقاذ" وتضمن هذا البيان سلسلة وعود إصلاحية واستعرض خططًا استراتيجية تطمح الحكومة لتنفيذها، بعضها مرّ عليها وقتٌ طويل ولم تطبّقها أي حكومة سابقة، فكيف ستتمكن حكومة الستة أشهر من تحقيق كل هذه الاستراتيجيات، في ظل الضائقة الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي يمر بها لبنان.
استراتيجيات مهمة وبعضها أقل أهمية أشار إليها البيان، ولكن أخرى أساسية غابت عنه فما هي؟
أكد رئيس مجلس الوزراء في بيانه الوزاري على أهمية إنجاز استراتيجية التحوّل الرقمي التي كان قد بدأ العمل عليها الوزير السابق في وزارة التنمية للشؤون الإدارية جان أوغاسبيان عام 2008، وطورتها كل من الوزيرتين المتتاليتين عناية عزّ الدين ومي شدياق حتى عام 2018 ولم يطرحها الوزير السابق دميانوس قطّار للتصويت مع أنها كانت جاهزة منذ استلامه الوزارة في حكومة حسّان دياب.
تهدف هذه الاستراتيجية إلى تحفيز الاقتصاد الوطني، تقديم الخدمات للمواطنين رقميًا وبفاعلية عالية مما يؤدي إلى التخفيف من البيروقراطية والفساد والسمسرات والأكلاف الإضافية على الدولة والمواطن، التشجيع على الاستثمار في لبنان وتمكين الحكومات من اتخاذ القرارات ورسم سياسات مبنية على حقائق موضوعية وعلمية مثبتة بالأرقام.
ولكن هل ميقاتي على دراية بأنه لم يعد من أولويات البنك الدولي في لبنان تمويل استراتيجية التحول الرقمي لأن الأوضاع الراهنة تفرض أولويات أخرى كمعالجة أزمة الصحة والتغذية والفقر المستشري في لبنان مع تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية؟ كما أنه أصبح تنفيذ هذه الخطة مهمة شبه مستحيلة في الوضع الحالي إلى حين تحسن الخدمات في لبنان؟
وفي سياق البيان شدد على العمل من أجل تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني من أجل تأمين فضاء سيبراني أكثر أمانًا واستقرارًا سواء داخل لبنان أو في التبادلات الدولية وتأمين بيئة مؤاتية لتنمية الاقتصاد الرقمي والأمن القومي.
وكان قد صدر عن رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 26/9/2018 القرار 173 الرامي إلى تشكيل فريق وطني لوضع خطة لمواجهة مخاطر جرائم المعلوماتية وإعداد استراتيجية وطنية لمؤسسة عمل الأمن السيبراني برئاسة أمين عام المجلس الأعلى للدفاع. ووافق مجلس الوزراء بتاريخ 29/8/2019 على الاستراتيجية الوطنية اللبنانية للأمن السيبراني التي أعدها الفريق الوطني المكلّف بموجب القرار 2018/172.
ولكن بتاريخ 23/2/2021 صدر عن رئاسة مجلس الوزراء القرار رقم 15 بتعديل قراره رقم 2018/173 لجهة تعديل تشكيل الفريق الوطني وتكليفه بوضع استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى تعديل الشروط والتشريعات المتعلّقة بالأمن السيبراني وتأمين التمويل اللازم لها، بحسب جدول الإصلاحات التابع لمبادرة المرصد الوطني لرئاسة مجلس الوزراء.
وليس معروفًا ما هو مضمون الاستراتيجية التي أقرّت عام 2019 لأنها لم تنشر على المواقع المعنية، إذ إنه فقط منشور على موقع وزارة التنمية للشؤون الإدارية نسخة تعود إلى تاريخ عام 2015.
وتطرّق ميقاتي إلى نقاط تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد عبر التأكيد على ضرورة تطبيق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2020-2025 أولًا، التي أقرها مجلس الوزراء بتاريخ 12/5/2020 بموجب القرار رقم 7، التي تهدف إلى إرساء الشفافية، استكمال وتفعيل تشريعات مكافحة الفساد، وتعزيز نزاهة الوظيفة العامة وفي الشراء العام، التركيز على المنظومتين الرقابية والقضائية، وأخيرًا إشراك المجتمع بمختلف مكوناته في نشر وترسيخ ثقافة النزاهة.
ولكن لا تزال هذه الاستراتيجية غير مطبقة حتى الساعة بسبب عدم استكمال نصوصها التطبيقية وخطط العمل الخاصة بها، وعدم تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بسبب تحول الحكومة السابقة إلى تصريف أعمال وانقسام المعنيين في الآراء حول مقدرة الحكومة المستقيلة على التعيين، ولا تزال عملية تشكيل هذه الهيئة معلّقة.
وثانيًا الاستراتيجية الشاملة للإصلاحات الجمركية التي بدأ العمل عليها منذ عام 2018 ضمن مخطط تعزيز الحوكمة المالية والحد من الفساد والغش، إذ تتمحور أهداف هذه الاستراتيجية حول تبسيط الإجراءات الجمركية من خلال تحديث النظام الآلي للبيانات الجمركية لتفعيل الدفع الالكتروني، تعزيز إدخال البيانات الإلكترونية وتطوير نموذج التسجيل الالكتروني بما في ذلك النافذة الالكترونية الواحدة التي ترتكز على الربط بين جميع المنافذ الحدودية، تعزيز إدارة المخاطر، وتطبيق برنامج المشغل الاقتصادي المعتمد الذي سيمكن التجّار ذوي المخاطر المنخفضة من تجنّب إجراءات التفتيش المفرطة.
لم ينفّذ من هذه الاستراتيجية إلا إنشاء الخط الأحمر والأخضر - وهي آلية للكشف على البضائع التي تصل إلى كل من مرفأ بيروت ومطار بيروت، بحيث ينتظر عملاء الشحن إشارة من موظفي الجمارك لتحديد موعد قيامهم بتخليص تلك البضائع، من خلال نظام التفتيش الذي يحدّد الحاويات التي يجب أن تخضع للتفتيش، من خلال تحويلها إلى الخط الأحمر، والحاويات التي تمرّ من دون تفتيش عبر الخط الأخضر، وهي عملية إلكترونية بحتة لا يمكن حتى للمدير العام للجمارك التدخل بها، وهي محصورة بالمكتب الالكتروني- والتي تهدف إلى الحد من عمليات الغش.
كما استعرض البيان الوزاري سلسلة استراتيجيات معلّقة واعدا بالعمل على تنفيذها:
استراتيجية الشباب والرياضة 2010-2020، التي كان قد أقرها وزير الشباب والرياضة عام 2010 علي عبدالله والتي كانت تتمثل رؤيته بالوصول إلى تعميم الثقافة الرياضية، إضافة إلى تعميم ثقافة العمل التطوعي وتعزيز دور المجتمعّ المدني ومؤسساته وتفعيل مشاركة مختلف فئات المجتمع اللبناني في النشاطات الرياضية والكشفية والشبابية والوصولّ إلى رياضة إحترافية تحقق نتائجًا مميزةً عربيًا وقارياً ودوليًا، ولكن هموم وحاجات الشباب اليوم تغيرت فكيف يعقل الاشارة الى استراتيجية بهذا القدم مع التغير الحاصل في ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور وزيادة منسوب البطالة وتراجع كافة القطاعات وتردي البنية التحتية والمالية ومع انتهاء مدتها اصلا العام 2020؟
الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه أقرها مجلس الوزراء عام 2012 خضعت لتعديلات عام 2019، لحسن استثمار الموارد المائية وتأمين مياه الشفة والريّ، زيادة التغطية لشبكات الصرف الصحي، كما تطمح إلى تطوير استراتيجية جديدة للتعريفات وتعزيز الأطر القانونية التي ترعى القطاع، وهي قيد التحديث وبانتظار انتهاء دراسة الأثر البيئي وعرضها خلال جلسة لمجلس الوزراء.
الاستراتيجية الوطنية للتنوع البيولوجي 2016-2030 بهدف تلبية متطلبات اتفاقية التنوع البيولوجي التي دعت الدول الأطراف إلى تحديث استراتيجياتها. أعدتها أوّلًا وزارة البيئة عام 1998 بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومرفق البيئة العالمي ثمّ حدّثتها الحكومة عام 2016 وتعهدت تنفيذها الحكومات المتتالية من دون أي نتيجة واضحة، كما تحدث ميقاتي عن غيرها من الاستراتيجيات.
ولكن من المستغرب هو عدم تطرق الرئيس ميقاتي كليًا إلى استراتيجيات هامة وأساسية كاستراتيجية الأمن الغذائي والتغذية 2016 التي أصبحت في أيامنا ضرورةً ملحة أكثر من الأيام الفائتة مع تردي جودة المنتجات بالتزامن مع أزمة الكهرباء والغلاء المعيشي، وما يشكل ذلك من تهديد للصحة العامة في لبنان، والتي لم تتبناها أي حكومة سابقة على الرغم من من وجود هيئة لبنانية لسلامة الغذاء، أُنشئت بموجب قانون رقم 35 الصادر بتاريخ 24/11/2015 وتعهدت حكومة حسّان دياب بتفعيلها ولكن بقيت وعود على ورق كغيرها من الحكومات.
وعلى الرغم من أن ميقاتي نوّه في بيانه الوزاري إلى العمل على دعم جميع برامج الرعاية الاجتماعية للمسنين، الأطفال، ذوي الاحتياجات الإضافية والمدمنين وتعزيز دور المرأة كشريك أساسي وفاعل في الحياة العامة وتكريس حقها بالمساواة وإزالة جميع أشكال التمييز ضدها وتمكينها اقتصاديًا، وأشار الى ضمان الحريات ولكن دون ربطها بمعايير حقوقية بل بتعابير فضفاضة، ولكن غاب كليًا عن الرئيس ميقاتي في بيانه الوزاري ذكر الخطة الوطنية لحقوق الإنسان التي تعمل لجنة حقوق الانسان النيابية بالتعاون مع برنامج الامم المتحدة الانمائي UNDP ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في لبنان OHCHR على تحديثها من جديد بعدما انقضت فترة تنفيذها في أواخر العام 2019 والتي كانت تعاني من عدم وجود آلية تقييم تحدد ما أنجز منها في السنوات الفائتة ولم تقرها أي حكومة منذ 2014 حتى عام 2019 حيث لا تعتبر أولوية كما الحال في حكومة ميقاتي. وليس من الواضح حتى إذا ما كان البرلمان سيقر الخطة التي يتم تعديلها بسبب الأزمات المعيشية والاقتصادية والمالية التي يمر بها لبنان.
وعود كثيرة تحملها البيانات الوزارية وضمنها استراتيجيات مبهمة أو قديمة وغير صالحة أو تفوق قدرتها والوقت المتاح لها. فلو تمكن الرئيس ميقاتي من تركيز الأولويات بشكل أكبر لمعالجات الأزمات الأساسية التي يعاني منها المواطن بشكل يومي ومكتفيًا بها للتمكن من إنجازها لكانت بدت هذه الحكومة أكثر واقعية، وقادرة فعلًا على انتشال المواطن من أعباء أثقلت كاهله في السنوات الأخيرة الماضية.
TAG : ,نجيب ميقاتي ,مجلس الوزراء ,رئيس مجلس الوزراء ,استراتيجيات ,حكومة ,حوكمة