Loading...

الصحافة الاستقصائية في لبنان: "مغامرات فردية؟!"

كشفت الصحافة الاستقصائية الجانب المظلم لمهنة المتاعب في العام 2014. اذ ما زالت حوادث الاعتداء على الصحافيين مستمرة في ظل غياب تشريعات قادرة على حماية الصحافيين، واهمهما قانون يحمي كاشفي الفساد. ففضح المستور في ملف معين يجرّ الصحافي الى المخافر، وترفع بحقه دعاوى قضائية، اضافة الى غرامات مالية ضخمة، بينما "الفاسد" في حال تم توقيفه اما يخلى سبيله بعد بضعة ايام، او تتم حلحلة الملف نتيجة التدخلات السياسية والمحسوبيات.

بيئة معادية

ربما يدل تراجع لبنان في مؤشر مدركات الفساد للعام 2014 من المرتبة 127 الى المرتبة 136 الى حاجة المجتمع الماسة الى صحافة استقصائية قوية تساعد الدولة في محاربة هذه الظاهرة المتزايدة. لكن من الواضح ان التركيبة الطائفية والسياسية للبلاد تشكل عائقاً امام الصحافيين وتمنعهم من الغوص في ملفات تحسب على فريق معين. رأت مراسلة قناة "الجديد" يمنى فواز، التي تعرضت لاعتداء أثناء تصوير تقرير عن موقع "جبالات" الاسمنت التابعة لبيار فتوش شقيق النائب نقولا فتوش، ان "تقسيمة المجتمع اللبناني والمحسوبيات تضفي على الصحافي صبغة سياسية وتجعله تابعاً لجهة معينة". ويشاركها الرأي معدّ ومقدم برنامج "استقصائي" على قناة "ال بي سي"  الصحافي فراس حاطوم "هناك مستويات لا يمكن للصحافي ان يتجاوزها نظراً الى النفوذ السياسي. فرغم كشف الفاسدين في قضية الاملاك البحرية مثلاً، لم يحاسب احد حتى الان". كما اشار حاطوم الى ان العائق  الاساسي الذي يمنع كل صحافي من متابعة قضية او كشف انتهاكات جديدة هو رد فعل الجمهور، "الرأي العام يتعاطف دائماً مع "الجلاد"، ويحوّل الفاسد ضحية ويعطيه اسباباً تخفيفية خصوصاً اذا كان من مناصريه".

رقابة ذاتية

بدا ان ما يتعرض له الصحافيون اللبنانيون العاملون في ميدان الصحافة الاستقصائية ينذر بنوع من القمع لحرية الرأي ويفتح المجال واسعاً امام الرقابة الذاتية، "يمارس على الصحافي نوع من القمع القانوني، ويتكبد غرامات مالية باهظة نتيجة دعاوى قضائية ترفع بحقه لأنه كشف الفساد بالوثائق والمستندات"، وفق الصحافي في جريدة "الأخبار" محمد نزال، الذي غُرم مبلغ 15 مليون ليرة من محكمة المطبوعات لكشفه تورط قاضيين بالفساد.

والسؤال المطروح هل يستمر الصحافي في متابعة ملفات الفساد والانتهاكات للمصلحة العامة بعدما ما يتعرض له من ضغوط؟  أكد نزال انه "من البديهي ان اعتكف عن البحث والتدقيق وتقديم تحقيقات استقصائية بعد الملاحقات القضائية التي تعرضت لها الى الان". واعتبر نزال ان "هذا نوعاً من الاستسلام المفروض على كل صحافي جرّاء قوة القانون، يدفعه اما لترك المهنة او الابتعاد من هذه الملفات. ففي لبنان القوي يأكل الضعيف والبقاء للأفسد".

في المقابل، اشار مراسل محطة الـ"ام تي في" جورج عيد لـ"مهارات نيوز" انه مستمر في مكافحة الفساد رغم الاعتداء الذي تعرض له اثناء محاولة كشفه شبهات بالفساد حول أراضي نادي الغولف. "الصحافة الاستقصائية تتطلب نفساً طويلاً عبر التعمق والبحث المستمر اشهر عدة واحيانا تجمع معلومات وتبقيها سرية في انتظار الوقت المناسب للكشف عنها". 

موضة؟

في السياق، قال نائب مدير تحرير جريدة "الاخبار" بيار ابي صعب أن "الصحافة الاستقصائية غائبة عن الممارسة الاعلامية في لبنان، وذلك لغياب المحاسبة"، واضاف ان "هذا النوع اصبح موضة انتشرت بين الصحافيين رغم بعض الانجازات التي كشفت حقائق مهمة لصالح الرأي العام، ولكن بقيت نزعات شخصية اختبارية ومغامرات فردية اما ان تنجح او لا"، مضيفاً ان البرامج والتحقيقات التي تهتم بالمواضيع المثيرة للجدل والفضائح اضحت مسيطرة على حساب كشف الفساد بطريقة مهنية في لبنان.

وتساءل ابي صعب: "كيف يمكن الحديث عن صحافة استقصائية داخل مجتمع تغيب عنه القوانين التي تتيح القدرة على البحث والتدقيق واظهار ملفات وشهادات لمكافحة الفساد؟". في المقابل، أرجع معد ومقدم برنامج "تحت طائلة المسؤولية" على قناة "الجديد" الصحافي رياض قبيسي غياب الصحافة الاستقصائية الى عدم "وجود تلفزيون الخدمة العامة الذي يمول من الضرائب التي يدفعها عامة الشعب، وبالتالي يصبح من الضروري تقديم مواد تعالج القضايا العامة".

يبدو ان المواطن اللبناني اعتاد او ربما تأقلم مع الفساد المستشري في لبنان، اذ بات الرأي العام الذي يعتبر المعيار التقويمي والاخلاقي لكل تحقيق استقصائي مغيب. "المواطن لا يريد ان يعترف بوجود فساد، الا انه على علم بذلك، لأن للفساد نظاماً يحميه "، وفق ابي صعب. وهو ما اكده نزال قائلاً: "لا ردة فعل شعبية عند كشف اي انتهاكات للمسؤولين او اعتداء على حقوق المواطن، اصبحنا نعيش في بلد يعتبر الفساد هو القاعدة واللافساد الاستثنائي".

نحو شرعة اخلاقية مهنية

يجمع الصحافيون على ضرورة وضع قوانين تحمي الصحافيين "كاشفي الفساد"، وتوفر حق الوصول الى المعلومة، اضافة الى تسهيل عمل الصحافي الاستقصائي، وتوفير الحماية للقائمين به. اذ اعتبر عيد انه من المهم اعطاء الصحافي حق الوصول الى المعلومة لأن غير ذلك يدفع الصحافي الى اتباع طرق غير شرعية والاشتراك بعملية الفساد لكشف الحقيقة الى الجمهور.

في هذا الإطار، توقف ابي صعب عند الحلول التي قد تساهم في إيجاد صحافة استقصائية مهنية، أبرزها دور المجتمع المدني في القيام بدورات تدريبية صارمة ترتكز على تبادل الخبرات مع الدول الغربية، اضافة الى وضع شرعة اخلاقية مهنية تلزم كل من يتعاطى الشأن الاعلامي والصحافي بمجموعة من القواعد لحماية انفسهم في ظل غياب قانون يحميهم، فضلاً عن دفع رؤساء التحرير الى خوض معركة من اجل ايجاد قوانين تحمي المهنة انطلاقاً من استقلالية القضاء، مروراً بعدم التدخل النفوذ السياسي والاقتصادي، وصولاً الى تغير النظام الاقطاعي الطائفي.